lundi 12 février 2018

الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال الجزء السّادس: الإصلاح التربوي لسنة 1991" - القسم الرابع و الأخير: الحصيلة



" لم يكن لديّ أيُّ سبب يجعلني أرفض مسؤولية المشاركة في الحكومة لتطبيق مشروعي في إصلاح النّظام التربويّ، وهو إصلاح أحسَبه أساسيّا لتعصير مدارسنا، ولإبعاد شبابنا عن نزعة التعصّب الذي نُشّئ فيها، إلى حدّ السّاعة."           محمّد الشّرفي



الحصيلة

غادر الأستاذ محمّد الشّرفي الوزارة يوم 30 ماي من سنة 1994، وقد أكمل عملية التخطيط للإصلاح، وبلْوَر تصوّراته، وأنجز برامجَ وكتبا جديدة، وأخذ في إرساء النّظام الجديد بالتدرّج، لكنّه لم يعايش نتيجتَه باعتبار أنّ الدّفعة الأولى لمرحلة الاولى من اللتعليم الأساسيّ تخرجّت في موفّى العام الدّراسيّ 1994/ 1995،و انتظمت أول دورة لامتحان شهادة ختم التعليم الأساسي في جوان من سنة 1998، ونظرا لمحدودية نسبة النجاح تقرر إجراء دورة ثانية[1] فأيّة حصيلة، إذن؟
لعلّه لا يجوز، موضوعيّا، الكلامُ على حصيلة، وبخاصّة فيما يتعلّق بمُخْرجات الإصلاح في مجالات جودة البرامج وحداثتها، وجودة التعليم ونجاعة وسائله التعليميّة، وجودة أداء المعلّمين والأساتذة وأثرها في المتعلّمين وطرائق تفكيرهم ومواقفهم، وجودة مكتسبات المتعلّمين، ومدى مطابقة ملامحهم الكبرى للمبادئ العامّة للإصلاح التربويّ، وإنّما يجوز الكلامُ على مُدْخلات الإصلاح متمثّلة في توجّهات برامجه ومنهجية بنائها، وطبيعة وسائله التعليميّة وكيفية إعدادها، لأنّ إصلاح 1991 لم يعمّر طويلا مقارنة بإصلاح 1958، من جهة، ولأنّ صاحبه غادر الوزارة بعد الشّروع في تنفيذ البرامج الجديدة بقليل، من جهة أخرى. وسرعان ما تعالت أصواتُ الدّاعين إلى إصلاح الإصلاح الذين بادروا إلى تنظيم استشارة وطنيّة.[2] ولم تمض خمسُ سنوات حتّى أُدخلت تحويرات على البرامج بعملية أطلق عليها تخفيفُ البرامج تلتْها عملية تخفيفُ الكتب المدرسيّة، أُرْدفَتْ بعملية إعداد وثائق منهجيّة لمساعدة المدرّسين على تطبيق البرامج الجديدةـ، وحتّى عُوّض قانونُ النّظام التربويّ، سنة 2002، بالقانون التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ، الذي أقرّ إصلاحا جديدا. وفي الحقيقة، فإنّ نسق الإصلاح خفّ وتراجع، بل إنّه تعطّل أو عُطّل، منذ أن غادر الوزير محمّد الشّرفي وفريقُه من المستشارين مكاتب الوزارة. فتبخَّر حلمُ منْ كان يَتوق إلى وضَع برامج دائمة، بمراجعة البرامج الجديدة، بالرّغم من صدورها بأوامر تحْصينا لها.[3]
 ومع ذلك، وبالرّغم من قصر مدّته، فقد ترك هذا الإصلاحُ بصمات لا تكاد تمَّحي في المنظومة التربويّة.  
ü                              إصلاح 1991 أدخل حركيّة جديدة على النظام التربويّ وأعطى للتعليم دفعا متجدّدا نحو الحداثة
من أبرز مزايا إصلاح 91 19 هو انبعاث الحياة من جديد في النّظام التربويّ التونسيّ، بعد فتور طال أمدُه، بسنّ قانون 1991 الذي يشترك مع قانون التعليم لسنة 1958 في استلهامه نمط التعليم الصّادقيّ، وفي احتفائه بتعليم اللغات باعتبارها عاملا يتيح الاطّلاع على الثقافات والحضارات الأخرى، ويمكّن من استيعاب مبتكرات العلوم والتقنيات، وفي تنزيله اللغة العربيّة منزلة لغة التكوين والتثقيف في مرحلة التعليم الأساسيّ، ولغة تلقين الموادّ الاجتماعيّة في التعليم الثانويّ.
ونجد لدى الأستاذ محمّد الشرفي ما يبرّر هذا الإصرار على مسألة الحداثة في مجال التعليم، من زاوية نظره على الأقلّ: فقد ذكر في لقاء[4] التأم معه سنة 2006 أنّ" عددا من المدرّسين الزيتونيّين قبلوا على مَضَض إصلاحات الرّئيس الحبيب بورقيبة لسنة 1958، وأنّهم احتلّوا شيئا فشيئا المواقع الأماميّة، وغيّروا شيئا مّا من التوجّهات المرسومة، وأثّروا في تطوّر البرامج والكتب المدرسيّة في اتّجاه الوفاء الضّروريّ للإسلام، في معناه التقليديّ. وبعد قيام الثورة الإيرانيّة، بدأ التيّار الإسلاميّ ينمو، واكْتسَح قطاعَ التّعليم بصفة خاصّة، دون أن تنتبه النّخبة المتقدّمة إلى ذلك في الإبّان. وبناء عليه، فإنّنا صرنا، في نهاية الثمانينات، نعيش تناقضا حادّا بين دولة ومجتمع يتقدّمان ويتعصّران وبين نظام تعليميّ تشدّه تقاليد الماضي، ممّا أوقع الشّباب في الضّياع، وهدّد مختلف الإصلاحات التّونسيّة. إنّ دوري، بصفتي وزيرا للتعليم، أن أُعيد القارب التائه إلى طريقه الصّحيح. وأرى أنّ دور المؤسّسة التعليميّة يكمُن في تيسير اندماج مواطن المستقبل في المجتمع. إذنْ، إذا كُنّا نمارس إسلاما بنظرة عصريّة، فعلينا أن نشرح هذه النّظرة للتلامذة، لا أن ننشّئهم على الوفاء لما هو قديم وتجاوزه العصر.

ü                              إصلاح 1991 أدخل إصلاحات جوهريّة على المنظومة التربويّة
فقد تميّز القانونُ الجديد عن الإصلاحات السّابقة له:
-         بأنّه نزّل النظامَ التربويّ ضمن منظومة حقوق الإنسان الكونيّة، ومفاهيم المواطنة والدّيمقراطيّة والمجتمع المؤسّساتيّ القائم على التلازم بين الواجبات والحقوق،
-         وبأنّه وضع في صدارة الأولويات تكوينَ التلاميذ تكوينا شاملا متوازنا " تتكافأ فيه الإنسانيّات والطبيعيّات والتقنيّات والمهارات"، فأطال مرحلة التكوين العامّ بسنتيْن بإرجاء التوجيه المدرسيّ إلى نهاية المرحلة الأولى من التعليم الثانويّ، على أساس أنّ وظيفة المرحلة الثانية منه الإعدادُ للاختصاص، لأنّ التخصّص من مهامّ مؤسّسات التعليم العالي،
-         وبأنّه جسّم على أرض الواقع مشروع التعليم الأساسيّ ذي تسع سنوات باعتباره نمطا جديدا من التعليم وحلاّ بديلا - لجملة الإجراءات التي سبق اتّخاذها لمقاومة ظاهرة الرّسوب والانقطاع المدرسيّ - يسعى لتمكين التلاميذ، حتّى سنّ السّادسة عشرة، من زاد معرفيّ ومهارات تصونهم من العود إلى الأمّيّة، وتهيّئهم للالتحاق بالتعليم الثانويّ أو التكوين المهنيّ أو الاندماج في المجتمع،
-         وبأنّه وحّد منظومة التعليم الثانويّ مجسّما بذلك التوجّهات الإصلاحيّة التي دعت إليها لجنة اصلاح النظام التعليميّ لسنة 1967 والتي حاول تجسيدها الوزير أحمد بن صالح حين أرسى الجذع المشترك وبعث مرحلة ثانويّة تفضي إلى الباكالوريا،
-  وبأنّه جعل التكوينَ الأساسيّ والتكوين المستمرّ لمدرّسي المرحلة الابتدائيّة من المكوّنات الرّئيسيّة للمنظومة التربويّة الجديدة، على أساس أنّ البرامج الجديدة تضمّنت من التجديدات المنهجيّة والمعرفيّة والبيداغوجيّة ما يجعل تنفيذها متعثّرا في غياب تعهّد المدرّسين لها، علميّا وصناعيّا، بالرّغم من أنّه لم يُول الاهتمام نفسَه بمدرّسي المرحلة الثانية من التعليم الأساسيّ والتعليم الثانويّ على مستوى التكوين الأساسيّ. فإذا ما استثنينا التجربة القصيرة لبعث أستاذية في التربية المدنيّة وتشجيع الأساتذة على إعداد مناظرة التبريز، بالترفيع في المنحة البيداغوجية المخصّصة لهذا السّلك، فإنّ هذه الفترة شهدت، على عكس ما هو متوقَّعٌ، إغلاقَ دار المعلّمين العليا بكلّ من سوسة وبنزرت، دون تصوّر بديل لتأمين التكوين الأساسيّ للأساتذة. وكان ذلك من أكبر هفوات هذه الفترة، وقد أقرّ الوزيرُ محمّد الشرفي بذلك، بعد سنوات، عندما قال: " إنّ الإصلاحات التي بادرتُ بها تضمّنت ثلاثة أبواب، وهي محتوى البرامج التعليميّة، ومضامين الكتب المدرسيّة، وإعدادُ المدرّسين. وفي هذا الباب الأخير، لم يَسَعْني الذّهابُ إلى النّهاية، لأنّ تلك مهمّة تتطلّب الكثيرَ من الوقت، ونفَسًا طويلا، لدى الدّولة."[5]
3. معارضُو إصلاح 1991
لم يخلُ هذا الإصلاح من معارضة ومن معارضين، لعلّ مَردَّها توجّهاتُ الوزير واختياراته السّياسيّة والمجتمعيّة والإداريّة.
ü           توجّهات الوزير واختياراته السّياسيّة والمجتمعيّة لاقت معارضة التيّار الإسلاميّ
لقد عُرف الوزير محمّد الشرفي بمواقفه من الحركات والاتّجاهات الإسلاميّة، وبانتمائه إلى اليسار التّونسيّ في الستّينات (حركة آفاق)، وكان من المناضلين في مجال حقوق الإنسان، فقد كان قبل تعيينه وزيرا رئيسا للرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان. ورُبّما من أجل كلّ ذلك، تمّ اختياره للإشراف على وزارة التربية والعلوم في ثاني حكومة بعد السّابع من نوفمبر، " في مهمّة محدّدة، وهي نقل الصّراع الذي ما يزال في تلك الفترة خافتا بين النظام الجديد وحركة الاتّجاه الإسلاميّ، بالرّغم من توقيعها الميثاق الوطنيّ، من الحقل السّياسيّ إلى الحقل الثقافيّ. "[6]
وقد أعطى الوزير الجديد بشائر توجّهاته "مع العودة المدرسيّة 1989 بالشّروع في تحوير كتب التربية الدينيّة وبرامجها، وإبطال عديد المسائل والأحكام المناقضة للمؤسّسات المدنيّة القائمة.[7]
عارض الإسلاميّون، و خاصّة حركة الاتّجاه الإسلاميّ، هذا التوجّه الذي حسبوه معاديا للإسلام، وبالتالي فإنّه سيُضعف، في نظرهم، من دور مادّة التربية الإسلاميّة وتأثيرها في التلاميذ،  فنادوا بإقالته في بلاغ أصدره الاتّجاه الإسلاميّ يوم 2 أكتوبر 1989 ندّد فيه كاتبُه العام عبد الفتّاح مورو الذي حضر النّدوة الصحفيّة " بالحرب ضدّ الإسلام و قيمه التي يشنّها محمّد الشرفي، منذ بداية هذه السّنة الدّراسيّة و التي تتسبّب في اغتراب المجتمع التونسيّ و ضياع قيمه الدينيّة و علمنته،"[8] وحرّكوا مدرّسي التربية الإسلاميّة ليحتجّوا على حرمانهم من تدريس التربية المدنيّة، ودفعوا بتلامذة المعاهد الثانويّة إلى الإضرابات والاضطرابات." كما اندلعت بالكلّيات -بإيعاز من الاتّحاد العامّ التونسيّ للطلبة ذي النزعة الإسلاميّة تحرّكات مناهضة للوزير انحصر جلُّها في صفوف الإسلاميّين."[9] لكنّ رأسّ السّلطة كان متمسّكا بالوزير لأنّه الكفيل بمناهضة التيّارات الإسلاميّة وذو موقف واضح من أُطروحاتهم.
وبعد مرور سنوات عن هذه الأحداث تكلّم الوزير محمّد الشّرفي على هذه الفترة قائلا: " بين 1989 و1992، استنادا إلى تعليمات وشعارات مماثلة، غذّى [الإسلاميّون] اضطرابات شديدة العنف في الجامعة التّونسيّة، وحاولوا جرَّ الطلبة إلى تمرّد حقيقيّ نتج عنه ردُّ فعل حازم من السّلطات لتَجنُّب حدوث تطوُّر مماثل لما عرفته الجزائر ولا تزال تعرفه."[10]
وإزاء موقف الإسلاميّين من الوزير، تجنّدت كلُّ قوى المعارضة الدّيمقراطيّة، وهبّتْ لمساندة الوزير محمّد الشّرفي والدّفاع عنه إزاء الحملة الشّعواء المندّدة بتوجّهاته وقراراته الأولى.[11] وفي سياق حديثه عن هذه الأزْمة، يشير الوزير إلى مساندة القوى الليبراليّة والتقدّميّة له بقوله:" في مواجهة بيان الإسلاميّين بتاريخ 2 أكتوبر 1989...حيث صوّروني شيطانا ونادوا بإقالتي، ردّ عليهم الديمقراطيّون والمثقفون بلائحة مساندة للإصلاح الذي أقوم به، ضمّت لأوّل مرّة ألف توقيع."
ü      معارضة بارُونات الحزب الحاكم
واجه الأستاذ محمّد الشّرفي، من جهة ثانية، احترازَ القائمين على الحزب الحاكم، باعتبار أنّ الوزير كان انتمى في شبابه إلى جماعة آفاق اليساريّة، وظلّ وفيّا لمواقفه السّابقة، ولم يلتحق بهياكل الحزب بالرّغم من كوْنه عضوا في الحكومة. ومن تجلّيات هذا الاحتراز تعيين كاتبيْ دولة لمساعدته أو بالأحرى مراقبته، هما الصّادق شعبان بالتعليم العالي وأحمد خالد بقسم التربية. ومن تجلّيات هذا الخلاف ما يتعلّق بمرجعيّة الإصلاح التربويّ مثلا، إذْ كان الوزير يصرّح بأنّه يستند إلى الميثاق الوطنيّ، في حين كان المنتمون إلى الحزب الحاكم يتعمّدون الإحالةَ إلى مقرّرات مؤتمر الإنقاذ الأخير للحزب الذي انعقد بين 29 و31 جويلية 1988، لا إلى الميثاق الوطنيّ.
كما عارضه، وإنْ بدرجة أقلّ، المنتصرون للغة العربيّة، خشيةً منهم عليها من ميوله الفرنكوفيليّة.
1.                   انحرافات الإصلاح
‌أ.    إدارة الإصلاح همّشتْ الإطارات الإداريّة وسلك التفقّد
إنّ تعويلَ الإصلاح على هيئة من المستشارين المُنْحدرين جميعهم من التعليم العالي، وإسنادَ رئاسة اللجان القطاعيّة إلى أساتذة جامعيّين، أفْضيا شيئا فشيئا إلى تهميش دور إطارات الوزارة المركزيّة، من مديرين عامّين ومديرين وكواهي مديرين ورؤساء مصالح، كما أفْضيا إلى تقليص دور هيئة التفقد البيداغوجيّ، ذلك أنّ المستشار تحوّل، شيئا فشيئا، إلى صاحب القرار في الاختصاص والآمرَ الناهي، فخوّلت له نفسُه رئاسةَ لجنة المتفقّدين وتحديد موعد انعقادها وضبط جدول أشغالها، كما خوّلت له نفسه تعْيين أعضاء لجان التأليف المدرسيّ وإبداء الرأي في لجان التقييم وحتّى لجان الامتحانات. وقد وصل الأمرُ ببعضهم أن جعل اسمه يتصدّر التآليف المدرسيّة في الاختصاص، بموافقة المؤلّفين أنفسهم. وفي الجملة، لا شيءَ يمكن أن يتمّ دون موافقتهم ورضاهم. وفي مثل هذا الوضع، صارت إطارات الوزارة العليا مجرّد أعوان تنفيذ، يتولَّوْن مهمّة الكتابة للمستشارين، ممّا أفقدهم المبادرة والاقتراح ومتابعة التنفيذ، وسقطت الهياكل الإداريّة في عجز شبه تامّ. أمّا الذين لم يقبلوا منهم بهذا الوضع فقد فضّلوا مغادرة الوزارة للالتحاق بوزارات أخرى أقرّ مسؤولوها بكفاءتهم وجدّيتهم وإخلاصهم لوطنهم.[12] لقد بات المناخ شديد التوتُّر، وأضحى سلك التفقد منقسما على نفسه.
‌ب.    الإصلاح أنتج برامج تعليميّة وكتبا مدرسيّة سمتُها الموسوعيّة
نحسَب أنْ لا أحد يَجْحد أنّ الإقبالَ المكثّف للجامعيّين المتطوّعين للعمل مَجانا ضمن اللجان القطاعيّة لبناء البرامج التعليميّة قد أفاد الإصلاحَ التربويّ لسنة 1991، بتجديد محاور برامجه وتحيين معارفه والتقريب بين العلم الأكاديميّ والمعارف المدرسيّة، لكنّ إسهامهم هذا، تسبّب، في المقابل، في انْزلاق نحو الموسوعيّة والإحاطة بكلّ شاردة وواردة، فقد كان كلُّ عضو من أعضاء اللجنة القطاعيّة يعمل جاهدا على إدراج اختصاصه الضيّق أحيانا في برامج التعليم المدرسيّ. وفي غياب لجنة من الحكماء يكون موقعُها فوق اللجان المختصّة وتكون مهمّتُها ضمانَ التوازن بين فروع المعرفة، والحرصَ على المبادئ الرئيسيّة للإصلاح، وذلك بتعديلها المقترحات الصادرة عن مختلف اللجان وانتقائها من المسائل ما يفيد في تكوين النّاشئة، ويكون متماشيا مع التوقيت المقرّر-  في غياب ذلك، جاءت البرامج الجديدة شديدةَ الطّموح، شديدة الكثافة، مفرطة في الطول، وجاءت التآليف المدرسيّة الجديدة التي أشرف على تصوّرها المستشارون وأسهم في إعدادها جامعيّون[13] ومتفقدون ومدرّسون ثريّة من حيثُ المعلومات، دقيقة الإحالات، مُحيّنة البيانات،  لكنّها غير قابلة للاستخدام من قبل التلاميذ، وحتّى من قبل عدد من المعلّمين ومُدرّسي التعليم الثانويّ، لأنّها كانت في تصوّرها أقرب منها إلى الدّليل المرجعيّ من الوثيقة التعليميّة. وقد نبّه العديدُ من المتفقّدين إلى هذه الظاهرة في تقاريرهم، من ذلك تقرير المقرّر العامّ للجنة القطاعيّة للموادّ الاجتماعيّة،[14] الذي جاء فيه المقتطف التالي: " إنّ البرامج التي أنتجناها إلى حدّ الآن، وبصفة خاصّة برامج التاريخ... خضعت للنّزعة الموسوعيّة التي هي تواصل لهيمنة النمط التعليميّ التقليديّ الذي يفضّل الكمَّ والمعلومات على تكوين المهارات والقدرات الفكريّة، وهو ما أفرز برامج جديدة - قديمة تميَّزت بطول محاورها، لأنّها كانت تسعى إلى الإلمام والشّموليّة. إنّ هذا التوجُّه الموسوعيّ -هو أحد أسباب اكتظاظ البرامج الجديدة، وقد جعل ... الأستاذَ في حيرة أمام حجم المعلومات وضيق الوقت."
هذا التوجّه الموسوعيّ يتناقض مع الإطار المرجعيّ العامّ للبرامج، فقد أكّدت وثيقة العمل المتعلّقة بتركيز المدرسة الأساسيّة، مثلا، على "ضرورة ملاءمة محتويات البرامج للوقت المخصّص لها وتجنّب الموسوعيّة ... كما أكّد السّيّدُ الوزير في الاجتماع الأخير برؤساء اللجان القطاعيّة ومُقرّريها " بأنّ الهدف لا يكمُن في حشو الأدمغة ... وعلينا أن نقاوم نزعة البعض لتكثيف مضامين البرامج.[15]"
خاتمة
كلّ هذه المكوّنات، سواءٌ أتعلّقت بمواقف المناهضين لتوجّهات الإصلاح، أو المتوجّسين منه، أو المتفرّجين عليه، أمْ تعلّقتْ بمواقف المساندين له والمنتصرين للوزير القائم عليه، أو بمواقف الدّاعين إلى الانخراط فيه ومعاضدته، تؤكّد أنّ الميزة الأساسيّة لإصلاح الأستاذ محمّد الشّرفي هي الإيديولوجيا، فهو، أوّلا وقبل كلّ شيء، إصلاح إيديولوجيّ لما اعتُبر انحرافا في الإصلاحات السّابقة تغذّت منه حركاتٌ سياسيّة متطرّفة، وأفادت منه شرائحُ اجتماعيّة تغلب عليها نزعةُ التقليد والتشبّث بالماضي. هذا الموقف الإيديولوجيّ يفسّر انصبابَ الجهد الإصلاحيّ على البرامج ومضامينها بالدّرجة الأولى وعلى تحصينها بإصدارها في أوامر رئاسيّة، كما يفسّر انْصباب الإصلاح على تأمين تكوين مستمرّ لمختلف أسلاك التعليم وهيئاته، كي يتمكّنوا من تمثّل توجّهات البرامج ويقدروا على تبليغها أفضل التبليغ. ومن جهة أخرى، نلاحظ أنّ الوزير احتفى بالنّشاط الثقافيّ أيّما احتفاء، فكانت العروض المسرحيّة والرّحلات المدرسيّة والنوادي الفنّيّة، وكلّها تظاهرات لمقاومة سلوك الانغلاق على الذات والتقوقع، وهي تصبّ في الطابع الإيديولوجيّ للإصلاح. ولعلّ هذا ما يفسّر قلّة احتفاء الوزير ومستشاريه بالبعد البيداغوجيّ الذي كان في نظر بعض مستشاريه لا يعدو أن يكون مكوّنا من درجة ثانية، مقارنة بالبعد الأكاديميّ المعرفيّ.
فهل سيصمد هذا الإصلاحُ، في وجه معارضيه والمتفرّجين عليه، بعد مغادره صانعه وزارة التربية والعلوم، في 30 ماي من سنة 1994؟

 انتهى ، للعودة للأجزاء السابقة - اضغط على الروابط أسفله
القسم الأول 

القسم الثاني 


الهادي بوحوش والمنجي عكروت
تونس في 30 أكتوبر 2014

ورقات ذات علاقة منشورة بالمدونة البيداغوجية


الهادي بوحوش و المنجي عكروت : ملامح الإصلاح التربويّ الجديد -  المدونةالبيداغوجية.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/03/blog-post.html

الهادي بوحوش و المنجي عكروت: تقرير اللجنة الفرعيّة للتعليم الثانويّ صدر بجريدة "لاكسيون " لسان الحزب الاشتراكي الدّستوريّ"،المدونة البيداغوجية.

الهادي بوحوش و المنجي عكروت : تاريخ الإصلاحات التّربويّة بالبلاد التّونسيّة منذ القرن التاسعَ عشرَ: توطئة عامّة

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/11/blog-post.html#more

عمر بنور : في الاصلاح التربوي - المدونة البيداغوجية.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/05/blog-post.html#more

عمر بنور: في الإصلاح التربويُ:المرجعيــّات  (الجزء الأول) المدونة البيداغوجية.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/09/blog-post_28.html

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/11/2.html#more

عبد العزيز الجربي : خواطر حول السّياسة التربويّة أو أيّة سياسةتربويّة لأيّ إصلاح تربويّ؟ المدونة البيداغوجية.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/10/blog-post.html

عمران البخاري : الحوكمة في النظام التربويالتونسي، المدونة البيداغوجية.

الهادي بوحوش و المنجي عكروت : تاريخ موجز للإصلاحات التربويّة في البلاد التونسيّة منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم: اصلاحات فترة ما قبل الحماية الفرنسيّة : الجزء الأول

تاريخ الإصلاحات التربويّة بالبلاد التونسيّة: القسم الثاني: الإصلاحات زمن الحماية . الجزء الأول : محاولات وتجارب لتطوير المنظومة التعليميّة الزّيتونيّة

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/11/blog-post_30.html

تاريخ الإصلاحات التربويّة بالبلاد التونسيّة: القسم الثاني: الإصلاحات زمن الحماية .  الجزء الثاني :  ارساء التعليم العصري العمومي في أواخر القرن التاسع عشر

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/12/blog-post.html

تاريخ الإصلاحات التربويّة بالبلاد التونسيّة: القسم الثاني: الإصلاحات زمن الحماية . الجزء الثالث : الإصلاحات التّعليميّة بعد ماشويل وحتّى الاستقلال

الإصلاحات التعليميّة الكبرى بالبلاد التّونسيّة زمن الاستقلال : إصلاحات المرحلة الانتقاليّة: 1955/ 1958

الإصلاحات التعليميّة الكبرى بالبلاد التّونسيّة زمن الاستقلال: إصلاح سنة 1958 ج 1
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958_11.html#more
الإصلاحات التعليميّة الكبرى بالبلاد التّونسيّة زمن الاستقلال :إصلاح سنة 1958 ج 2
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958.html#more
الإصلاحات التعليميّة الكبرى بالبلاد التّونسيّة زمن ألاستقلال :إصلاح سنة 1958 ج3
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958_11.html
الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث : تقييم إصلاحات 1958
ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد. ج 1
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958_18.html
الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث : تقييم إصلاحات 1958
ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد. ج 2
الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث : تقييم إصلاحات 1958 ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد الجزء الثالث.
الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث : تقييم إصلاحات 1958 ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد الجزء الرابع.( الحصيلة)

الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال ، الّلجان القارّة للتّعليم : توجّهاتُها الإصلاحيّة ومقترحاتُها في مجال التّعليم المدرسيّ : الجزء 1


الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال ، الّلجان القارّة للتّعليم : توجّهاتُها الإصلاحيّة ومقترحاتُها في مجال التّعليم المدرسيّ : الجزء2

الاتّجاهات الكبرى لإصلاح النظام التربويّ، جانفي 1988

التّعليم التّونسيّ بين الحاضر والمستقبل"، بقلم الاستاذ أبي القاسم محمّد كرّو

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/04/blog-post.html#more



[1] . تمّ في يوم العلم الإعلان عن تنظيم دورة تدارك لامتحان شهادة ختم التعليم الأساسيّ ما يؤكّد أنّ نتائج الامتحان لم تكن مرضية.
[2] . أعدّت مصالحُ الوزارة استبيانا وكانت على وشك توجيهه إلى الجهات، فأُعْفي الوزير الأستاذ أحمد فريعة وعوّضه الأستاذ حاتم بن عثمان الذي أنجز الإصلاح بطريقة أخرى.
[3]  . كان لي، بصفتي مقرّر اللجنة القطاعيّة للموادّ الاجتماعيّة، تحفُّظ على إصدار البرامج في شكل أوامر لأنّ كلّ برنامج يحتاج للتعديل بعد تجربته سنة أو أكثر، وكان مستشار الوزير يردّ بأن هذا الاختيار مردُّه حرص الفريق على ديمومة البرامج كما تمّ وضعها حتى بعد مغادرتهم الوزارة. منجي عكروت.
[4] .Expériences et Réflexions sur la Modernisation. Entretien avec Mohammed Charfi. Propos recueillis par Héloïse Kolebka. L’Histoire, Mensuel, n 289 ; spéciale laïcité. Partie III ; 2006/       
[5] . François Sino : Science et pouvoir dans la Tunisie contemporaine,  p 272, 273-  édition Khartala-IREMAM/

[6] Sadri Khiari. Tunisie : le délitement de la cité : coercition, consentement, résistance ; Édition Khartala
لاحظ اهتمام الإصلاح بالنشاط الثقافيّ والرياضيّ وخطته في إدخال مختلف الفنون إلى المدارس والمعاهد، فقد عُيّن مستشارا مكلفا بهذا الباب هو الأستاذ عبد الفتّاح إبْراهم، ثمّ أحدثت إدارة كاملة للتنشيط الثقافيّ والرياضيّ. لاحظ أيضا اهتمامَه بمقتنيات المكتبات المدرسيّة وتعيين الأستاذ محمد الشاوش مشرفا على تجميع المشتريات من الكتب والمراجع وإخضاعها للمراقبة القبليّة كي تكون متناغمة مع توجّهات الإصلاح التربويّ.
[7] . خصّص الوزير جزءا من ندوته الصحافيّة هذه لقراءة مقتطفات مطوّلة من كتب التربية الإسلاميّة وكتب التاريخ، وهي ندوة مهمّة التأمت بالقاعة الكبرى للوزارة وحضرها صحافيّون وسياسيّون وإطارت الوزارة.
[8]  François Sino : Science et pouvoir dans la Tunisie contemporaine  p 272 273-  édition Khartala-IREMAM
[9] Sadri Khiari.  Tunisie: le délitement de la cité : coercition, consentement, résistance
édition Khartala   Et Olfa Lamloum : Tunisie : quelle transition démocratique ?  (L’auteur cite CHARFI M., 1998, Islam et liberté. Le malentendu historique, Paris, Albin Michel. )
[10]. Mohamed Charfi, communication présentée au 75ème anniversaire de l’union internationale des avocats, juin 2002, in site perspectives tunisiennes

[11]  . صدري الخياري، المرجع السابق في الذكر.
[12] . نذكر منهم، بكلّ احترام وتقدير لمواقفهم، الأستاذ بوبكر بن فرج الذي التحق بوزارة الشؤون الثقافيّة ومحمد كناني قسومة الذي انتدبته وزارة الشؤون الاجتماعيّة للإشراف على تعليم الكبار والأستاذ منصف بوعبيد الذي نُقل عنوة إلى المركز الوطنيّ البيداغوجيّ وعيّن نائبا لمديره العامّ.
[13] . أصرّ أغلبُ الجامعيّين على أن تكون لهم مهمّة الإشراف العلميّ الأكاديميّ، في حين كلّف المتفقدون بالإشراف البيداغوجيّ على التأليف، وكان هذا حلاّ وسطا، لأنّ التأليف المدرسيّ مسؤولية جماعيّة غير قابلة للتجزئة.
[14] . مقتطف من تقرير رفع إلى وزير التربية والعلوم في أفريل 1991 من قبل المنجي العكروت  بصفته مقرّرا عامّا للجنة القطاعيّة للموادّ الاجتماعيّة ومتفقدا أوّل للتاريخ والجغرافيا. وثيقة مرقونة.
[15]. محضر جلسة يوم 15 فيفري 1991 الادارة العامة للبرامج والتكوين المستمرّ.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire