dimanche 18 octobre 2015

حوكمة النظام التربويّ التونسيّ

تصدير
كانت المُدوّنة البيداغوجيّة، في مناسبات سابقة، فتحت فضاءَها لعدد من الزّملاء، أمثال إبراهيم بن صالح، وعمر بنّور، ونصر الدّين الدريدي، وعليّ الرّحموني، وعبد العزير الجربي، فأغنَوْها بمقاربات جديدة لبعض المسائل وبوجْهات نظر وتحاليل لا تخلو من طرافة.
واليومَ تفتح المدوّنةُ البيداغوجيّة فضاءَها لهذا الأسبوع لزميل يُحْظى بالتقدير والاحترام من قبل كافّة زملائه، ألا وهو الأستاذ عمران البخاري، المتفقّد العامّ للتربية، والمدير العامّ للبرامج والتكوين المستمرّ، لأعوام طوال، شهدت خلالها المنظومةُ التعليميّة عدّةَ تجديدات في المناهج وفي المقاربات، وانفتحتْ أثناءها على نُظُم تعليميّة متقدّمة، وكان الزّميل عمران البخاري يدير كلّ هذا المخاض بصبْر أيّوب وبكفاءة عالية.

 وقد رأى أن يتطرّق اليوم لمسألة متشعبّة مثيرة للجدل، ألاَ وهي "حوكمة النّظام التربويّ." وبعد تعريف المفهوم، بيَّن الأستاذ عمران البخاري كيف كان هذا البعدُ غائبا في النظام التربويّ الذي اتَّسم منذ إصلاح 1958 بالمركزيّة المفرطة لأسباب ظرفيّة معيّنة. لكنَّ هذا التوجُّه -رغم الإنجازات -قد أضرّ، في النّهاية، بالمنظومة التربويّة.
ويقدر عمران البخاري أن " إصلاح 1991، وخاصّة إصلاح 2002، قد خطا ... خطوات هامّة في مجال الحوكمة من خلال التعرّض لقضايا الَّلامركزيّة والتسيير الذاتيّ والمشاركة."  ولكنّ "وعودَ التغيير في حوكمة النظام التعليميّ التونسيّ شهدت إجهاضا جرّاءَ تفاعل بعض العوامل". ويُنهي الأستاذ عمران تشخيصه "بتفاؤل مقيّد أو مشروط "، عندما يقول " مبدئيّا، ينبغي أن يعود هذا الإطار الجديد (الذي أفرزته الثورة) على مدرستنا بالفائدة، ويُطلق أجنحتَها شريطة التخلّص من الشّوائب القديمة، مثل النّزعة الفئويّة المهنيّة، والتسيّب وغياب الحرفيّة".
شكرا سي عمران على هذه الورقة و نرجو أن تليها ورقات أخرى في المستقبل القريب,
الهادي بوحوش والمنجي عكروت
 تونس - أكتوبر 2015

حوكمة النظام التربويّ التونسيّ

إلامَ يُحيل مفهوم الحَوْكَمة؟
·       بقطع النّظر عن المعنى الأيديولوجيّ الحَافّ الذي قد يُسند إلى مفهوم الحوْكمة (إيديولوجيّة تخلّي الدّولة –الراعية عن دورها)، أو انتشار مقولات مفاهيميّة ينجرّ عنها التباس يشوب هذا المفهوم ، مثل الحوْكمة السّياسيّة، والحوْكمة العموميّة، والحوْكمة الخاصّة، والحوْكمة المحلّيّة، وحوْكمة المجال، والحوكمة الحضريّة، وحوْكمة المؤسّسة، وحوكمة الأسرة، والحوْكمة الاستراتيجيّة...فإنّ مفهوم الحوْكمة الرّشيدة يحافظ، لا ريب في ذلك، على نواة صلبة لا تقبل الاختزال، نستطيعُ أن نتعرّف إليها من بين مجموعة من المفاهيم القريبة منها، (كالحكم والتّصرّف و الشّفافيّة و الأداء والشراكة والدَّمقْرطة) وذلك  عبْرَ بعض خواصّها الذاتيّة، مثل النفاذ إلى المعلومة، ومكافحة الفساد، وتشريك الآخرين في  المسؤوليّة، والتّصرّف الفعّال في الموارد، والثقافة المهنيّة...
·       إنّ الحوكمة مفهوم مثير للجدل، ويُعرَّف بطرق متناقضة أحيانا. ومع ذلك، وبالرّغم من تعدُّد استخدامات هذا المصطلح، فإنّه، يغطّي، على ما يبدو، مسائل ومحاور لا تبتعد كثيرا عن مفهوم "الحُكْم الرّشيد".
·       ويشير هذا المفهومُ، لدى جُلّ المستعملين له، سواءٌ أكانوا في القطاع العامّ أو القطاع الخاصّ، قبلَ كلّ شيء، إلى حركة  " انزياح " للتفكير واتّخاذ القرارات، والتقييم، مع تعدّد الجهات والفاعلين المعنيّين باتّخاذ قرار أو بناء مشروع. ويحيل المفهومُ إلى إرساء أنماط جديدة للقيادة أو للتّعديل، تكون أكثرَ مرونة، ومُستندة إلى شراكة مفتوحة ومستنيرة بين فاعلين مختلفين وأطراف معنيّة، إنْ على الصّعيد المحلّي أو الشّامل. 
                                   موسوعة وكيبيديا: مدخل الحوكمة
حوْكمة النظام التربويّ التونسيّ: الإطار السّياسيّ
غداةَ الاستقلال، كانت الأولوية القصوى تكمُن، من جهة، في إرساء هياكل دولة حديثة، قويّة وقادرة على التّصدّي لنزَعات التشتّت والانقسام، وما أكثرها! وفي ضمان تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة للبلاد، في نطاق " الوحدة الوطنيّة "، من جهة أخرى.
إنّ نمطَ التنمية السّياسيّة الموافقَ لهذه الحاجة يفرض إنشاءَ مؤسّسات وهياكلَ تميل إلى المركزيّة، وتشتغل طبق نمط أحاديّ (الحزب الواحد، والمنظّمات الوطنيّة الواحدة التي تدور في فلك الحزب الواحد، وهيئات تمثيليّة أحاديّة اللون).
أمّا التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة فقد كانت بالأساس من مشمولات المؤسّسات والمنشآت الحكوميّة المكلّفة بتنفيذ سياسة سُنّتْ في نطاق مخطّطات التنمية التي أعدّتْ حسب تمَشّ بعيد عن المنهج التشاركيّ.
إنّ النّظام التعليميّ الذي أرساهُ قانون نوفمبر 1958 لم يكن ليقْوى على الإفلات من هذه القاعدة، بل إنّه وُظّف لبناء مجتمع متجانس يُفضل التماثل في كلّ شيء.
وكان هذا الإطار السّياسيّ الشاملُ يمارس تأثيرا مباشرا على إستراتيجية النّظام التّعليميّ ، وحوكمته ونمط اشتغاله الذي أضحى مركزيا إلى أقصى الحدود، ومُعدّلا ذاتيّا.
حوكمة النظام التربويّ التونسيّ: الوضع الرّاهن
كان النظام التربويّ في البلاد التونسيّة، لعدّة عقود، يخضع، في كلّيته، لأوامر مركز يحتكر مهمّة التّصميم والتنفيذ والقيادة والتقييم والتعديل عند الضّرورة، وكان هذا المركزُ يوفّر المدْخلات ويحدّد التوجُّه العامّ. وشمل هذا الوضعُ المكوّن البيداغوجيّ ومكوّن إدارة الموارد البشريّة والمادّيّة، على حدّ سواء.
·       فعلى الصَّعيد البيداغوجيّ، يفرض المركز اعتمادَ البرامج الدّراسيّة نفسها والكتب المدرسيّة ذاتها، ونظام التقييم عينه، ونفس التنظيمات البيداغوجية المتعلّقة بالتعلّمات، بصرْف النّظر عن البيئات وإيقاعات التعلّم المختلفة. وكان يُحْتَفى بالتطابق والتماثل ويُسلّط العقابُ على أدنى الانحرافات.
·       وتخضع إدارة الموارد البشريّة والمادّيّة لذات القواعد الصّارمة: 
ü    مركزية الانتداب والترقية ونُقَل مختلف الأسلاك ،
ü    توحيد الاختيار عند اقتناء الأثاث الأساسيّ وعند ضبط المعدّات والتجهيزات التعليميّة واقتنائها،
وهكذا، بدأ النّظامُ التعليميُّ التونسيّ تدريجيّا يدور في حلقة مفرغة، فهو، نظريّا، يشتغل لصالح المجتمع، ولكنّه في الواقع يعمل لنفسه، وذلك في غياب أطراف اجتماعيّة تمثّل تمثيلا حقيقيّا المنتفعين بخدماته: (الأولياء -التلاميذ -المجتمعات المحلّيّة). وكان مفهوم المُساءلة (المحاسبة انطلاقا من النتائج المحقّقة) مفهوما غريبا عن المؤسّسة التعليميّة وعن جميع الفاعلين فيها.
نهاية فترة الحظْوة "شهر العسل" ؟
في منتصف السّبعينات، أسهمتْ ثلاثة عناصر على الأقلّ في وضع نمط حوكمة النّظام التّعليميّ التونسيّ، موضع مراجعة. وهي:
1)   ضعف أداء مدرستنا في مجال جودة التكوين المسدى للمتعلّمين: ظهور البطالة بين خرّيجي التعليم الثانوي العامّ والتقنيّ، 
2)   ارتفاع مُطَّرد لمعدّل التسرّب من المدارس،
3)    تزايد نسبة تكلفة التعليم بالقياس إلى الناتج الدّاخليّ الخامّ.
محاولات علاجيّة
يبدو أنّ الإصلاح التربويّ لسنة 1991 قد أراد إحداثَ تغييرات حقيقية، من أهمّها مقاومة الفشل المدرسيّ بإرساء التعليم الأساسيّ الإلزاميّ ذي 9 سنوات.
لكنْ، وبالنّظر إلى الظرف السياسيّ الخاصّ جدّا الذي أُنجز فيه هذا الإصلاح، فإنّ السلطات العمومية أولت كامل اهتمامها لتكوين المواطن أكثر من اهتمامها باشتغال المنظومة التربويّة ذاتها.  ولهذا السَّبب، فإنّ مسألة الحوْكمة كانت شبه غائبة في هذا الإصلاح.
أمّا إصلاح 2002 فيتنزّل في سياق التواصل مع إصلاح 1991 على صعيد المبادئ والغايات، مع السَّعْي إلى إحكام التمفصل بين المدرسة والمجتمع، وقد خطا هذا الإصلاح خطوات هامّة في مجال الحوكمة من خلال التعرض لقضايا اللامركزية والتسيير الذاتيّ والمشاركة. ويوفّر هذا الإصلاح آليات مستحدثة تهدف إلى إرساء ثقافة جديدة، هي ثقافة تحميل المسؤولية والمشاركة والمساءلة. ومن هذه الآليات:
·       المجلس البيداغوجيّ للمدرّسين المخصّص لإدارة تنظيم التعلمات و الأنساق المدرسية، والتقييم المستمرّ بما  يتيح فرصة اتّخاذ مبادرات جماعيّة لتكييف بعض الإجراءات والتدابير حتّى تتماشى وواقع المؤسّسة.
·       مجلس المؤسّسة الذي أوكلتْ إليه، نظريّا على الأقلّ، مهمّةُ بلورة مشروع للمؤسّسة وتنفيذه ومتابعته وتقييمه. ويهدف مشروع المؤسّسة إلى جعل جميع الفاعلين بالمدرسة مَعنيّين بشأنها، من جهة، و إلى تحسين جودة الخدمات التربوية، من جهة أخرى.
      تُجمَّع مشاريع المؤسّسات بكلّ إدارة جهوية للتّعليم في نطاق مشروع يُوحّد بينها، يسمّى مشروعَ الجهة، وهو ترجمة، على صعيد الجهة، للخيارات والبرامج الوطنيّة، بما يتيح تصرّفا عن قرب في المشاريع يكون أكثر حرصا على مراعاة الخصوصيّات المحلّيّة والجهويّة.
      وبالإضافة إلى ذلك، أدرج الأمرُ المتعلّق بالحياة المدرسيّة العديدَ من التدابير التي يُرجى منها تحميلُ  مختلف الأطراف المسؤولية، وإضفاءُ المرونة على كيفية اشتغال المؤسّسات، بحيث إنّ تقاسم المشمولات ومجالات النفوذ يجعل من الشّرعيّ مساءلة الجهات المختلفة ومحاسبتها.
لكنّ وعود التغيير في حوكمة النظام التعليميّ التونسيّ شهدت إجهاضا مؤسفا جرّاءَ تفاعل بعض العوامل من بينها:
1)   غياب ثقافة التقييم و المساءلة في جميع المجالات،
2)   التسيّب المتفشّي في كلّ مكان، والذي أفرزه الإفلاتُ من العقاب، نتيجة طبيعيّة للمركزية المفرطة التي جعلت من مختلف المسؤولين عن التعليم بالجهات مجرّد أدوات تنفيذ لاختيارات وسياسات وبرامج ترسم في مكاتب باب بنات[1]، الأمر الذي يجعل بقية المسؤولين في حلّ من أيّة مسؤولية عن نتائج المدرسة.
3)   تنامي نزعة الفئوية المهنيّة  لدى مختلف الأسلاك في وزارة التربية هو الذي كان وراء رفض كلّ أشكال التجديد والمبادرات الرامية إلى تحرير المدرسة من جمودها.
والآن هل يجوز لنا الرّجاء؟ 
إنّ الرياح التي هبّتْ على بلادنا، منذ أكثر من أربع سنوات تمنحنا فرصا جديدة، وإطارا جديدا لتطوير مؤسّساتنا السّياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
مبدئيا ، ينبغي أن يعود هذا الإطار الجديد على مدرستنا بالفائدة، ويُطلق أجنحتَها شريطة التخلّص من الشوائب القديمة، مثل النّزعة الفئويّة المهنيّة، والتسيّب وغياب الحرفيّة.
إنّ الحدّ الأدنى الضَّروريّ يكمُن في إحياءَ التدابير التي أقرّها من قبلُ القانونُ التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ لعام 2002 والتي سبق أن أشرنا إليها أعلاه. ولعلّ السّياق السّياسيّ الجديد ببلادنا هو أكثر ملاءمة لتجسيم تلك التجديدات.
ومن ناحية أخرى، ينصّ الدّستور الجديد، في الباب السّابع المتعلّق بـالسلطة المحلّيّة، على أحْكام إذا ما نفّذت فإنّها ستتيح للهياكل الجهوية والمحلّيّة هامشا واسعا من المبادرات لم يسبق أن عرفته بلادُنا في أيّ وقت مضى:( لامركزيّة، تفويض المسؤولية، إدارة جماعيّة، انتخاب المسؤولين، استقلالية إداريّة وماليّة...).

فمَا  عسى يكون تأثيرُ هذا التمشّي الجديد في إدارة الشأن العامّ في قطاع التعليم؟


عمران البخاري   متفقد عام للتربية، مدير عام البرامج و التكوين المستمر بوزارة التربية سابقا
سبتمبر 2015






[1]  باب بنات هو الشارع الذي يوجد به مقرُّ وزارة التربية، وعادة ما يستعمل هذا الاختصارُ للدّلالة على وزارة التربية. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire