dimanche 31 octobre 2021

خاتمة و خلاصة الباب الثاني المخصص لمسألة اللغة العربية في عهد الحماية : مسألة خلافية

 

 

تتويجا للباب الثاني الذي خصصناه في الورقات السابقة التي نشرت خلال شهري مارس وأفريل 2020   

الهادي بوحوش

 
نهتم في هذه الورقة  بالسجال الذي قام في  فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية و الذي دار بين المثقفين و السياسيين الوطنيين  التونسيين فيما بينهم و بين التونسيين و سلطة الحماية و ممثلي المعمرين الفرنسيين من جهة ثانية .

للعودة إلى الورقات السابقة، اضغط على الرابط المناسب أسفله :

الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس-  الجزء السابع .

 

خلال العقد الأول من القرن العشرين ، وبالنظر إلى نتائج السياسة التعليمية المتبعة في البلاد التونسية من قبل السلطات الاستعمارية ، شهدت البلاد نقاشًا بين المثقفين التونسيين من جميع الاتجاهات (قدماء الصادقية  و قدماء الزيتونة والمتخرجين من التعليم العمومي الفرنسي ). وكان النقاش  يدور حول العديد من  القضايا : مثل منزلة اللغة العربية ومكانتها في الحضارة والثقافة والتقدم التقني والعلمي - وعلاقات البلاد التونسية بالعالم الإسلامي والشرق العربي و بالغرب وحضارته القائمة على التقنية والعقلانية. وهكذا فقد تجاوز الجدل والنقاش مسألة لغة التدريس ليشمل مسألة  نوع المجتمع المنشود ، وقد حدد المثقفون التونسيون مواقفهم تجاه قضية لغة التدريس في المدرسة انطلاقا من  تصوراتهم المختلفة.

الجدل بين التونسيين: اللغة العربية لغة أولى أم لغة ثانية

إذا ما استثنينا المحافظين المتشددين من بين بعض شيوخ الزيتونة الذين لا يريدون السماع بتدريس اللغات الأجنبية في المؤسسات التي يشرفون عليها (جامع الزيتونة وفروعه) ، فقد جمع النقاش منذ السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي تيارين اثنين رئيسيين ، تيار يفضل إعطاء الأولوية إلى اللغة الفرنسية وتيار يدافع على أفضلية لغة البلاد ، وقد مثّل التيار الأول قدماء الصادقية بالأساس  و أما التيار المقابل  فقد مثله قدماء الزيتونة بالأساس[1]  ، إن هذا التصنيف لم يكن بعيدًا عن الواقع  رغم أنه غير دقيق لأننا في الواقع نجد عددا لا يستهان به من الزيتونيين ممن أيدوا التيار الأول والعكس بالعكس، ومع ذلك سنتبنّى هذا التمييز رغم تحفظنا.

أ- موقف المدرسيّين: اللغة العربية لغة ثانية

تطلق هذه التسمية( المدرسيّون) على خريّجي المدرسة الصّادقيّة، وقد  التحقت بهم، بعد سنوات قليلة من انتصاب الحماية، طائفة من المتخرّجين من أنظمتها التعليميّة، أي المدارس الفرنسيّة الابتدائيّة والثانويّة. وتبعا لذلك، تكوّنت طبقة بورجوازيّة جديدة من المثقفين الذين انخرطوا في نظام الحماية، وقبلوا أن تكون اللغة الفرنسيّة لغة الإدارة والتنظيمات الحديثة الاقتصاديّة والماليّة.

 

يَجْمَع بين المدرسيّين ارتكازُ ثقافتهم على اللغة الفرنسيّة، وتعلّقهم بالحضارة الغربيّة، وانقطاعُهم الكلّيّ عن الفكر الإصلاحيّ ذي الطابع الزيتونيّ، ورفضُهم المثالَ المشرقيّ للمجتمع والحضارة. وتمثّل تيّارَهُم "جمعية قدماء المدرسة الصّادقيّة ( 1905) وجريدةُ "التونسيّ" ( 1907) الناطقة باللسان الفرنسيّ، ويتزعّمهم عليّ باش حانبة.

 

و في ما يهمّ التعليم، تدعو هذه الجماعة إلى" نشر المدارس الفرنسيّة- العربيّة، على أن تكون موجّهة في الآن ذاته إلى أبناء الأوروبيّين وأبناء التونسيّين، وتوسيع شبكة هذه المدارس والزيادة في أعداد التلاميذ" و إقامة مجتمع أساسه الازدواجيّة اللسانيّة، تكون فيه اللغة الفرنسيّة لغة العلوم والمعارف الحديثة والتنظيمات الاقتصاديّة والمؤسّسات الماليّة والتقنيّة، بينما ينحصر دور اللغة العربيّة في الآداب والفنون..."، [2] " و يذهب أنصارُها إلى أنّه في غياب ذلك سيواجه الأطفال التونسيّون الحرب من أجل الوجود من غير سلاح ". وقد شاع شعارُها " ينبغي أن يكون التثقيف باللغة الفرنسيّة، وأن تعلّم اللغة العربيّة" [3]". ولا تخفى الفروق بين التثقيف ومجرّد التعليم.

إنّ الجماعة، في جدالها مع التيّارات الإصلاحيّة الأخرى المناهضة لها، تنفي عن نفسها تهمة سعيها للقضاءَ على اللغة العربيّة، رغم قناعتها بعجزها عن مواكبة حضارة العصر، كما تنفي مطالبتها بالتخلّي عنها،" وإنّما هي تدعو إلى تعصيرها، وتقترح برنامجا للتعليم يكون فيه لهذه اللغة مكانا ممتازا، ألا وهو تعليمها كلغة فقط، في إطار المدرسة الفرنسيّة- العربيّة، مع ضرورة تعصير مناهج تعليمها وطرقها[4] ".

و في الجملة، فإنّ الجماعة تعترف بحاجة التونسيّ إلى معرفة لغته الأمّ، ولا تنكر أنّ" دراسة اللغة العربيّة ضرورة للتونسيّ الذي لا يريد أن تضيع شخصيته وتقاليد جنسه. لكنّها، مع ذلك، تعتبر أنّ اللغة الفرنسيّة لغة العلم والتقدّم: " وإنّها الطريقُ الموصلة إلى ما اتفق على تسميته بالحضارة الحديثة التي تبحث الشّعوب المتأخّرة عن بلوغها".[5] ولمّا لاحظوا أنّ سلطة الحماية لا تشاطرهم الرأيَ، تصادموا مع أطراف منها في مؤتمر مرسيليا لسنة 1906 ومؤتمر باريس لسنة 1908، ودعوْا إلى إقامة تعليم ابتدائيّ إجباريّ ومجانيّ في كامل أنحاء البلاد، وتوسيع تدريس اللغتين العربيّة والفرنسيّة، وتشجيع التونسيّين على الالتحاق بالتعليم الثانويّ وبالتعليم العالي، كما دعوْا إلى إصلاح الكتاتيب بإحداث مؤسّسة الكتّاب العصريّ لتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربيّة بطريقة حديثة[6]. وعلى أساس هذه المرجعيّة، ستحدّد الجماعة موقفها ممّا يجري في المجتمع، من قبيل تأسيس خير الله بن مصطفى لمدرسة ابتدائيّة عربيّة اللسان، أو إنشاء الجمعية الخلدونيّة.

 ب - موقف الإصلاحيين الزيتونيين

      صَدَعَتْ هذه الجماعة بموقفها من توجّهات التعليم العموميّ والمدارس الفرنسيّة- العربيّة، ومن القضيّة اللغويّة، بصفة علنيّة، منذ السّنوات الأولى من الحماية. ألمْ يكتب محمّد السّنوسيّ بجريدة الحاضرة[7]، بمناسبة فتح المدارس العموميّة في المملكة التونسيّة، مقالا عنوانه " المعارف" قيّم فيه دور هذه المدارس، على النّحو التالي، قال: " ومع كون المكاتب التونسيّة مؤسّسة على أحسن الترتيب القائمة باعتناء إدارة المعارف العموميّة، فإنّ المتعلمين لا يعدمون تهذيبا وتربية تعينهم على تحصيل الدرس بكمال النفس. أمّا عناية المدارس بتعليم اللسانين العربيّ والفرنسويّ، زيادة على ما تأصّل فيها من تعليم القرآن العظيم والتوحيد والفقه، فإنّ أثرها في ذلك صار غير خفيّ في البلاد التونسيّة. ويردف هذا الحكم بقوله : " ومع كون اللسان العربيّ هو لسان المملكة الذي لا يشذ عن نشأتها، فإنّ للمدارس عناية به، مع عنايتها باللسان الفرنسَويّ، لعلمها أنّ من أعظم منافع اللسان الفرنسويّ في البلاد إيصال الأشياء به إلى أهل اللسان العربيّ والعكس، لشدّة حاجة البلاد لهذا الباب".

يبدو من هذا الموقف لشيخ معتدل أنّ قضيّة اللغة العربيّة هي عند أمثاله قضيّة قوميّة، (فاللسان العربيّ هو لسان المملكة)، لكنّهم عبّروا عن تفتّحهم على اللغات الأجنبيّة وتدريسها للناشئة التونسيّة، فقد كتب البشير صفر في جريدة الحاضرة بتاريخ 22 جانفي 1889 في صيغة استفهام ما يلي: " من لا يقرّ بما لتعلّم اللغات في هذا العصر، عصر المعاملات والمواصلات،من التأثير في تقدّم الأمم ومعرفة بعضها بعضا،فضلا عمّا يترتّب عليها من مزاولة العلم والفنون؟ "[8] 

إنّ اللغة العربيّة تمثل، في نظر جماعة الحاضرة [9]، اللغة الأولى أو اللغة التي يجب أن تكون كذلك، في حين تعتبر اللغات الأجنبيّة أدوات تساعد على التقدّم. هذا الترتيب جاء على عكس ذاك الذي تتمسّك به الطائفة الأخرى من المدرسيّين" التي تجعل من حضارة الغرب مرجعَها الأوّل، وتضع اللغة الفرنسيّة في المقام الأوّل واللغة العربيّة في المقام الثاني".[10] وانطلاقا من هذا الموقف النظريّ، مرّت الجماعة إلى التطبيق، بتأسيس الخلدونيّة، سنة 1896، " للعمل على بثّ العلوم العصريّة باللغة العربيّة، سدّا للثغرة التي في جامع الزيتونة "، وبإقامة برامجها على" دروس ومحاضرات باللغة العربيّة في الموادّ الأدبيّة والعلميّة - والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد السّياسيّ وقواعد الصحّة والفيزياء والكيمياء-  بالإضافة إلى تعليم اللغة الفرنسيّة".

نلاحظ إذا ". بأنّ أهداف الخلدونيّة تعتبر مقلوبَ أهداف جماعة المدرسيّين الذين رأوا في ذلك تهديدا للازدواجيّة أو للفرنسة، ولنمط المجتمع المنشود من قبلهم.

ومن جهة ثانية، بادر خير الله بن مصطفى، الصّادقيّ والمنشقّ عن المدرسيّين، إلى تأسيس أوّل مدرسة ابتدائيّة معرّبة تعريبا كاملا، وجلب لها الكتبَ المدرسيّة من المشرق العربيّ، فكانت" بمثابة المدرسة الابتدائيّة الحديثة التي تعلّم فيها جميعُ الموادّ باللغة العربيّة، وبالتالي، فهي" تمثل المحاولة التطبيقيّة الأولى للتعريب بالبلاد التونسيّة، في مجال التعليم الابتدائيّ، بعد أن عالجت الجمعية الخلدونيّة الموضوعَ نفسه، بالتعليم الثانويّ".[11]

لقد تصدّى علي باش حانبة، بالرّغم ممّا يبديه من الاحترام لصديقه خير الله بن مصطفى، صاحب المدرسة القرآنية العصرية ، لهذا المشروع  المسمّى " كتاتيب عصريّة "، لأنّه، في نظره، يهدّد المدارس الفرنسيّة- العربيّة، حجرَ الزاوية في مشروع جماعة جريدة التونسيّ، ورفضَ رفضا قاطعا التعليم القائم على اللغة العربيّة فقط، كما سبَق أنْ رفض التعليم الخلدونيّ القائم على اللغة العربيّة بصفة أساسيّة والفرنسيّة بصفة ثانويّة. [12]

ج - موقف الوطنيين التونسيين والنخبة المثقفة إثر الحرب العالمية الثانية

بعد الحرب العالميّة الثانيّة ارتبطتْ الحركة الوطنيّة التونسيّة بالإسلام والعروبة، وصارت قضيّة اللغة جزءا من مشروعها السياسي. ولعَلّ مجلة المباحث كانت أبرز مدافع عن هذا التوجّه، فقد نشر الأستاذ محمود المسْعدي، سنة 1947، مقالا عَنْوَنه " مشاكلنا الحاضرة: سياسة التعليم"، شرح فيه السّياسة التعليميّة لنظام الحماية، ومواقفَ إدارة المعارف وموظفيها من المطالب التونسيّة، وبيّن" أنّ التيّار الذاهب بالأمّة التونسيّة في سبيل تكوين تعليم ابتدائيّ وثانويّ عربيّ إسلاميّ وعصريّ معا لا يزال يشتدّ قوّة".[13] وفي كشفه عن مقاصد سلطة الحماية، يقول المسعدي: " فقد كانت جميعُ أعمالها ومؤسّساتها رامية إلى تجهيز البلاد، شيئا فشيئا، بجهاز تعليميّ، لكنّه فرنسيّ لا يُراعى فيه جانبُ العربيّة وجانبُ تونس إلا صُوريّا وبأقلّ مقدار ممكن". وإدارة التعليم " تماطل وتتباطأ  وتتوانى وتعتذر بمختلف الاعتذارات عن تأخّر تطبيق المبادئ المسلمة".

ويستدلّ الكاتبُ على حكمه السّالف بطبيعة المؤسّسات التعليميّة الابتدائيّة منها والثانويّة. فيقول معلقا " فالمَدارسُ الابتدائيّة مدارس على شاكلة مدارس فرنسا الابتدائيّة، تُعلمُ فيها جميع الموادّ بالفرنسيّة، مع إضافة تعليم بالعربيّة لا يعدو اللغة ومبادئَ الدّين الإسلاميّ، ولا يستغرقُ إلا ثلث ساعات التدريس". " أمّا المدارس الثانويّة، فإنّ إدارة التعليم، منذ 1881، لم تحدث منها إلا "ليسياّت و كوليجات" على شاكلة ما بفرنسا، سوى أنّ العربيّة تدرّس فيها اختياريّا مع غيرها من اللغات الأجنبيّة، بعنوان لغة حيّة، حسب نظام المدارس الثانويّة في تعليم اللغات الحيّة".[14]

و من جهة أخرى، أشار الكاتب إلى أنّ الأمّة التونسيّة رغبتْ في التخلص من الثنائيّة اللغويّة، وفي جعل التعليم عربيّا بحتا في طوره الابتدائيّ، على الأقلّ، لكنّ إدارة التعليم العموميّ لم تعرْ هذه الرّغبة أذنا صاغية، مثلما جرى الأمرُ في مفاوضات 1947 الرّامية إلى إعطاء اللغة العربية المكانة التي تستحقّ.

ويرى الكاتب في تأسيس المدارس القرآنيّة العصريّة والجمعية الخلدونيّة دليلا على التصدّي لهذه السياسة التي تريد أن تفرض على البلاد ثقافة أجنبيّة، لغة وروحا ووراثة.

إنّ هذا الموقف الصّريح، والمشترك بين النّخبة المثقفة التونسيّة، إلى جانب عوامل أخرى، سيدفع إدارة التعليم العموميّ إلى تجديد التفاوض مع نقابات التعليم سنة 1949، وتعديل البرامج والترفيع من توقيت اللغة العربيّة الأسبوعيّ ، واعتماد العربيّة للتدريس بالسّنتين الأولى والثانية من التعليم الابتدائيّ، بالمدارس الفرنسية- العربية.

وفي الإطار نفسه، إطار الدفاع عن شخصية البلاد التونسيّة الثقافيّة " التي لا تزال، ولنْ تزالَ، عربيّة إسلاميّة"- كما يقول الأستاذ محمود المسْعدي- واصل عديدُ المثقفين طرحَ قضيّة التعليم ودورَ اللغة العربيّة في تكوين الناشئة، وعُنيت المجلات التونسيّة بقضية الثقافة والتعليم، فقد خصّصت مجلة الندوة مثلا ، سنة 1954،عددا خاصا لواقع للتعليم والثقافة ومستقبلهما .

2 - الجدل داخل الصف الفرنسي

أ-  إدماج العنصر المحلي أو احترام الشخصية التونسية : تيار أقلّي

كان  ماشوال  أول مدير للتعليم العمومي حامل لواء هذا التيار" فقد سعى إلى جعل المدرسة والتعليم وعاء لإقامة مجموعة حضارية تتكلم باللسانين الفرنسي والعربي مفتوحة لكل الأجيال الصاعدة  دون تمييز عرقي وكان يستشهد بآيات القرآن وعيناه بالدموع الأمر الذي لم يغفره  أي معمر"[15] فقد كان ماشوال متشبعا بالثقافة العربية الإسلامية  وباعتباره قد عاش التجربة الجزائرية فإنه كان يدعو إلى انتهاج سياسة تعليمية تحترم الثقافة المحلية العربية الإسلامية.

في عام 1885 كتب ماشوال يقول: " هناك (بتونس) حياة فكرية كاملة ، من مصلحتنا أن نعرفها جيدًا حتى نتمكن من إدارته ا". علينا أن نتجنب السقوط في الأخطاء التي ارتكبت في الجزائر في بداية الاحتلال. فبسبب عدم معرفة المسائل الإسلامية، فقضينا دون وعي على كل الدراسات العربية تقريبًا ودون أية فائدة للتأثير الفرنسي ، و لنشر لغتنا (...) فقد أردنا أن نرى في المدارس العربية بؤر تعصب ، فدمرناها دون أن نقرأ حساب نتائج هذا التدمير الذي لا يليق  بدولة متحضرة، و كان من الأفضل أن يتم تحسين تلك المدارس وتطويرها " (ماشوال .1885)

 

ويؤكد ماشويل على خطر تغيير الصرح الجامعي الذي " شيده التونسيون بعناية فائقة" ، وأضاف أن " كل التونسيين يرغبون في التعلم ولا يبالون من أخذه على أيدي الأجانب (...) لذلك سيكون من الحكمة بالنسبة إلينا أن نساعدهم على تنمية عقولهم ، وأن نشجعهم  على تعلم لغتهم وأن نحثهم على تعلم لغتنا (...) ، وبعث تيار فكري لصالح البلاد التونسية  من خلال نشر أعمال غير منشورة ، وإعادة نشر العديد من تلك التي طبعت بالقاهرة ، والتي ساهمت كثيرا في  الرفع من شأن حكومة مصر في عيون الدول الإسلامية الأخرى .(ماشوال[16])

في الواقع لا يمكن  الحديث عن تيار ، ففكرة معاملة التونسي ولغته على قدر المساواة مع الفرنسي واللغة الفرنسية كانت بعيدة كل البعد عن الطبقة السياسية الفرنسية و خاصة عن المعمرين ، فجوهر الحركة الاستعمارية هو نفي لهذا المبدأ ذاته. ونتيجة لذلك ، تعرض ماشويل لانتقادات عنيفة ورُفضت أفكاره من قبل الدوائر الرسمية وممثلي المستوطنين الذين يعيشون في تونس، وندد زعيمهم بالسياسة التعليمية التي اتبعها ماشويل ، وسخر من نتائجها قائلا " منذ خمسة وعشرين عامًا ، لدينا في تونس إدارة تعليم  ، ونعدّ العرب الذين يتكلمون الفرنسية والفرنسيين الذين يتكلمون العربية! وفي المدة الأخيرة  ، عندما أردنا انتداب خمسة أو ستة مفوضين حكوميين في المحاكم الإسلامية ، لم نتمكن من إيجاد العدد الكافي ممن يحذق اللغة العربية  للقيام  بهذه المهام ".[17]

 

كانَتْ سلطاتُ الحماية ترى في التعليم أداة مثاليّة لإدماج التونسيّين في الثقافة الفرنسيّة، وما كان على إدارة المعارف إلاّ أن تبذل كل جهدها حتّى يصير كلّ طفل تونسيّ " فرنسيّا بحقّ، لغة وفكرا وميولا"، مع مواصلة انتمائه إلى بلده ومحيطه.

لكنَّ السّنوات الأولى من الحماية شهدتْ تمسّكَ أقطاب الحماية من المتشدّدين المنتمين إلى حزب المُعمّرين (prépondérants) بمعارضة كلّ صيغة من صيغ التعليم العصريّ لفائدة التونسييّن، ذلك أنّ بلدا مثل إيّالة تونس يحتاج، في نظرهم، بالدّرجة الأولى، يدا عاملة وفيرة، وأنّ التعليم العامّ، وبالتالي التعليم الابتدائيّ خاصّة، ينبغي أن يكتسيَ طابعا عمليّا، وأن يُوفر للصّناعة عملة متعلمين وذوي خبرة. [18]

 

 وفي المقابل، كان لويس ماشويل  يرغَبُ في مواصلة العمل الذي بدأه خير الدّين، ومساعدة التونسيّين على التطوّر الذاتيّ، لا بحذف المدارس القرآنيّة، ولكنْ بإحداث تعليم عصريّ إلى جانبها، باعتبار هذا الضّرب من التعليم ضرورة لإعداد الإطارات الإداريّة التي تحتاجها البلاد.

وفي هذا المناخ السّياسيّ الذي ما تزال فيه السّلط الفرنسيّة تبحث عن موقف حاسم، إزاء مسألة تعليم التونسيّين، ومسألة لغة التدريس، والذي تزامنَ مع عودة الأفواج الأولى من الصّادقيّين المتخرّجين من المدارس الباريسيّة وانحياز أغلبهم إلى نظام الحماية والقبول به، سيشتدّ الجدلُ حول مكانة اللغة العربيّة في المجتمع كما في المدرسة بين طائفتين من التونسيّين، من جهة، وبين التونسيّين والمتطرّفين من الفرنسيّين الذين استوطنوا الإيّالة، والذين كانوا يدفعون في اتجاه تغلغل اللغة الفرنسيّة  ومزيد انتشارها في مختلف مناطق البلاد، من جهة ثانية. هذا، دون اعتبار موقف فئة المستعربين الذين كانوا ينادون بانتهاء دور اللغة العربيّة الفصحى، لعجزها عن مواكبة مخترعات العصر وعلومه، و يدَعُون إلى الاستعاضة عنها باللغة العاميّة أو الدارجة التونسيّة، و ذهب بهم الحدّ إلى اقتراح تدريسها لتلامذة المدارس الابتدائيّة الفرنسيّة.

ب - التيار الذي يريد إبقاء اللغة العربية في وضعها المتخلف

مقابل التيار الذي يمثله ماشويل ، نجد أربعة اتجاهات تبلورت مواقفها  خلال انعقاد مؤتمر الاستعماري  لشمال إفريقيا عام 1908 ، اتجاه أول كان قريبًا من موقف الشباب التونسي ، أي أنه " ينادي بتعليم اللغة الفرنسية لأبناء الأهالي  عندما يكون ذلك  ضروريًا ، مع الحفاظ  على تدريس اللغة العربية و تطويرها بعض الشيء حين يكون ذلك  مفيدا وضروريا " ،  واتجاه  ثان  طوباوي وغير واقعي "إذ كان يدعو إلى  الانصهار الكامل للعناصر الفرنسية والسكان الأصليين" ، أمّا الاتجاه  الثالث  فكان" يدعو إلى الاكتفاء  بتعليم اللغة العربية للأهالي  وإبعادهم عن الحضارة الفرنسية  وأما الاتجاه الرابع الذي يمثله زعيم حزب المتفوقين" (فيكتور دي كارنيير) ؛ فإنه يرى بأنه  "يجب على السلطة الاستعمارية أن توفر للأطفال المسلمين ... تعليما يستبعد أي اختلاط  بالفرنسيين ويتمسّكَ أقطاب الحماية من المتشدّدين بمعارضة كلّ صيغة من صيغ التعليم العصريّ لفائدة التونسييّن، ذلك أنّ بلدا مثل إيّالة تونس يحتاج، في نظرهم، بالدّرجة الأولى، يدا عاملة وفيرة، وأنّ التعليم العامّ، وبالتالي التعليم الابتدائيّ خاصّة، ينبغي أن يكتسيَ طابعا عمليّا، وأن يُوفر للصّناعة عملة متعلمين وذوي خبرة كما يجب أن يركز التعليم على تشكيل قوة عاملة للمزارعين الفرنسيين". ... وأضاف دي كارنيار: "ماذا علينا أن نفعل؟" سأقدم لكم نظامًا كاملاً للتعليم الابتدائي الموجه لأطفال السكان الأصليين : يجب الانطلاق من مبدأ أن المجتمع التونسي بأكمله يعتمد على القرآن؟ هل لكم القوّة  لحذفه ؟ الإجابة هي لا ، أوّلا  لأنكم  لن تقدروا على ذلك، ثم سيكون ذلك أكبر عدوان على الضمير الإنساني، فالمجتمع المدني مبني عند المسلم على القرآن .

وبما أننا لا نقدر على حذف القرآن ، علينا استخدامه ، يجب أن يتم تدريسه بطريقة تسمح بتغييب  العداوة الطائفية والكراهية الدينية. وعلى الحكومة أن تقوم بذلك ، يجب عليها إعداد معلمين من السكان الأصليين ، الذين عند تخرجهم من مدرسة ترشيح خاصة سيعرفون أن في القرآن ، إلى جانب ما قد يولد الكراهية ، هناك عقيدة كاملة  تحث على المحبة ويمكننا أن نحذف كل ما يحث على الكراهية والاستعاضة عنه بتدريس التسامح الذي يمكن أن يكون له تأثير إيجابي و أن يسمح التقارب بين المجموعتين في هذا البلد. لذا فإنني أطلب أن تكون المدرسة الابتدائية الموجهة للأهالي مدرسة  قرآنية معدلة ، لكن لنتفق إنها ليست الكتاب الحالي ولا حتى المدرسة القرآنية التي يقترحها السيد خير الله، إنها أحسن من ذلك فهي مدرسة تعتمد التفسير الليبرالي للقرآن، حيث نعلم الطفل  أنه بإمكانه أن يحب الرومي  وحيث نعلمه أسس اللغة الفرنسية. يجب أن يكون التعليم باللغة العربية و يجب أن يتضمن مبادئ العلوم وخاصة الزراعة ، لأن تونس بلد زراعي ".

يبدو من الغريب أن يدعو مُمثل الحزب الأكثر رجعية ومحافظة إلى تعليم الشباب التونسي باللغة العربية، وهو موقف في ظاهره  نبيل ، لكنه  يخفي  موقفا عنصريا ورغبة في استبعاد الشباب التونسي من التعليم المقدم للشباب الأوروبي ويخصّهم  بتعليم من الدرجة الثانية  لإبقائهم في موقف الدونية وفي خدمة المعمر الفرنسي. 

 هذا الاتجاه الرابع أثار ردة فعل قوية من مُمثلي الشباب التونسي الحاضرين في المؤتمر ، وقد عبّر عن ذلك السيد عبد الجليل الزاوش الذي ردّ على مقترح دي كارنيار قائلا : "  لقد طالبنا بالمدارس الفرنسية العربية ، و في انتظار ذلك فقد قبل السيد خيرالله  بالكُتّاب المعدل (  école coranique réformée ) في مرحلة انتقالية، إننا نأمل، أنه  كلما سمحت به الميزانية ، تقوم سلطة الحماية ببناء المدارس الفرنسية العربية في كل الجهات  حتى في المراكز  التي لا يوجد فيها فرنسيون قادرون على فرض وجهة نظرهم و تعميم المدارس الفرنسية - العربية ، وفي انتظار ذلك ، فإننا نقبل الكتاب العصري كحلّ ظرفي. "

انتهى الباب الثاني يتبع الباب الثاني : المسألة اللغوية في عهد الاستقلال

 

للعودة  إلى الجزء الأول اضغط هنا وإلى الجزء الثاني اضغط هنا وإلى الجزء الثالث اضغط هنا  وإلى الجزءالرابع اضغط هنا و إلى الجزء الخامس اضغط هنا و إلى الجزء السادس اضغط هنا و إلى الجزء الجزء السابع اضغط هنا

 

 

 الهادي بوحوش والمنجي العكروت متفقدان عامان للتربية  متقاعدان وإبراهيم بن عتيق أستاذ أول مميز متقاعد

تونس 2015.

للاطلاع على النسخة الفرنسية أضغط هنا.

 



[1]   اعتمد " محمد هشام بوقمرة هذا التصنيف في كتابه القضية الللغوية في تونس سلسلة الدراسات الأدبية رقم 6 - تونس 1985 - طبع بمصنع الكتاب للشركة التونسية للتوزيع -15،شارع قرطاج- تونس- جويلية 1985

[2]  خير الله بن مصطفى  مؤتمر افريقيا الشمالية  باريس 6-10 اكتوبر1908 (مطبعة ربيد (77ص) بوقمرة ص،280

[3]  "اعتمد المزالي وبن سلامة  الترجمة التاليّة  " يجب أن يكون التعليم بالفرنسية وأن تدرس اللغة العربية" وهو لا يحمل باللغة العربية نفس قوته ووضوحه بالفرنسية، وكذلك ترجمتنا أيضا ، إلا أن "Instruire " تبدو أقرب إلى التثقيف الذي يحمل المعطى الحضاري بالإضافة إلى المعطى التعليمي الآلي، وهو جوهر فكر جماعة التونسي" ( بوقمرة .ص61 . الهامش ،2.)

 نفس المصدر ص . ص64/67[4]

[5]  أول  من استعمل هذا الشعار هو على باش حانبة  بجريدة التونسي سنة 1909. المصدر المذكور سابقا ص.ص 64-67

[6] محمد لصرم ينحدر من عائلة قيروانية عريقة درس بالمدرسة الصادقية ثم واصل تعليمه بفرنسا عند عودته درس بالمدرسة الصادقية ، واشتعل مترجما . كان من مؤسسي الخلدونية سنة 1894 وجمعية قدماء الصادقية سنة 1906 واقترح تأسيس جامعة إسلامية عصرية.

عبد الجليل الزاوش ( 1873-1947)  سليل عائلة ثرية من مدينة تونس درس بمعهد سان شارل ( معهد كارنو) ثم بجامعة باريس حيث تحصل على الإجازة في الحقوق سنة 1900 . اشتغل بالمحاماة بمدينة تونس ثم فتح مكتب محاسبات وأسس عدة شركات ومصانع . ترأس الخلدونية سنة 1911 وعين واليا على سوسة سنة 1917 ثم رئيس بلدية مدينة تونس سنة 1934 فوزير القلم سنة 1935 فوزير العدل سنة 1943.

- خير الله بن مصطفى ( 1897-1965) درس بالمدرسة الصادقية  وبمدرسة ترشيح المعلمين العلوية عرف بكفائته في المجال التربوي وخاصة طريقة تدريس اللغة العربية . انخرط في جماعة الشباب التونسي واشتغل صحافيا بجريدة التونسي و مترجما لدى المحاكم وهو من مؤسسي الخلدونية  وجمعية قدماء الصادقية وكان أول رئيسها . شارك في مؤتمر شمال افريقيا المنعقد بمدينة باريس سنة 1908 وقدم تقريرا قيما حول تعليم الأهالي بالبلاد التونسية  أسس أول مدرسة قرآنية عصرية سنة 1906.

 

[7] جريدة الحاضرة . العدد العاشر مؤرخ في 2  الثاني من شهر أكتوبر 1888 ( ذكره بن قمرة - المصدر المذكور .ص.149.

[8]   محمد هشام بوقمرة . القضية الللغوية في تونس، الجزء الأول ، قسم الملاحق .ص،198-201. سلسلة الدراسات الأدبية رقم 6 - تونس 1985 - طبع بمصنع الكتاب للشركة التونسية للتوزيع -15،شارع قرطاج- تونس- جويلية 1985

[9]الحاضرة هي "أول جريدة عربية غير رسمية في تونس سنة 1888 يديرها علي بوشوشة  وهو صادقي اعتزل الوظيفة للتفرغ للجريدة ويساعده... طائفة من رجال النهضة بين صادقي وزيتوني أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب والبشير صفر والشيخ محمد السنوسي والأستاذ محمد بن خوجة"( بوقمرة ،ص38.)

[10] - نفس المصدر .ص .43.

[11] نفس المصدر ص.60

[12]  راجع مقال علي باش حانبة : المدرسة الفرنسية العربية أة الكُتاب العصري . ذكر في المصدر السابق .ص. 289-307

[13]   نفس المصدر ص.206

 

[14]  - نفس المصدر ص.203

 

[15] H. L. M. Obdeijn : L'enseignement de l'histoire dans la Tunisie moderne (1881 à 1970); https://repository.ubn.ru.nl/bitstream/handle/2066/148509/mmubn000001_071668225.pdf?sequence=1

[16] Claude  Cortier, « Conquête par l’école et réalités du « terrain » : quelques aspects de l’action de l’Alliance française dans le bassin méditerranéen (1883-1914) », Documents pour l’histoire du français langue étrangère ou seconde [En ligne], 27 | 2001, mis en ligne le 31 janvier 2014, consulté le 09 mars 2019. URL : http://journals.openedition.org/dhfles/2552

[17] مناقشات مؤتمر شمال افريقيا - باريس 6-9 أكتوبر 1908.

 

 

 

[18] نور الدّين سريّب:التعليم والنخب والأنظمة القيميّة: المدرسة الصادقيّة بتونس، ص 116( بالفرنسيّة)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire