lundi 5 novembre 2018

إصلاح برامج التّعليم الابتدائيّ لسنة 1909



هادي بوحوش
شهد المشهدُ التعليميّ بالإيّالة التونسيّة، سنة 1908، حدثيْن مُهمّيْن مُتزامنيْن، أوّلهما تعيينُ السيّد لويس ماشويل[1]، أوّل مدير للتّعليم العموميّ، مديرا عامّا شرفيّا للتّعليم العموميّ، تكريما له وقدْ بلغ سنّ التقاعد. والثاني تسمية السيّد سبَسْتيان شرليتي[2]   ( charléty) مديرا عامّا للتّعليم العموميّ، بداية من غرّة أكتوبر 1908، بعد أن كان يشغل خطّة متفقّد عامّ للتعليم المهنيّ الأهليّ.

لم يكن شرليتي راضيا عن توجّهات البرامج الجارية بالمدارس الابتدائيّة الخاصّة بالأهالي، منذ انتصاب الحماية، فهي عنده مسقطة على التلاميذ ومحيطهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، لأنّ مضامينها مماثلة لمضامين البرامج المعتمدة بفرنسا، ولا تستجيب لحاجات المعمّرين والاقتصاد الجديد. وقد أوضح السيّد شرليتي رؤيته للبرامج الصالحة لأطفال الأهالي في مؤتمر باريس ولقي صدى طيّبا ومساندة قويّة لدى ممثّلي المعمّرين، واعترض عليه التونسيّون أمثال خير الله بن مصطفى ومحمّد الأصرم وعبد الجليل الزّاوش.
وتنفيذا لتصوّراته، بادر شرليتي منذ فيفري 1908 إلى إحداث لجنة لدراسة برامج التعليم الابتدائيّ ومناهجه يرأسها بنفسه وتضمّ في عضويتها تسعة أعضاء يمثّلون التعليمّ الابتدائي إدارة وتفقّدا، والتعليمَ المهنيّ، ومدرسةَ ترشيح المعلّمين تدريسا وإدارة ومجلسَ التعليم العموميّ، علاوة على متفقد المدارس القرآنيّة والسيّد خير الله بن مصطفى بصفته مترجما قضائيّا وصاحبَ رأي في تعليم الأهالي[3] .
استندت اللجنة في أشغالها إلى برامج 28 مارس 1882 وما أدخل عليها من تنقيح بمقتضى قرار 18 جانفي 1887 وقرار 7 ماي 1906.
عُرضتْ حصيلة أعمال اللجنة على مجلس التّعليم العموميّ[4]  في جلسته الملتئمة يوميْ 28 ماي و29 ماي 1909، بمقرّ الإدارة العامّة للتعليم العموميّ، وبرئاسة السيّد شرليتي[5]. وتُبرز المناقشاتُ لبنود البرنامج المقترح التصوُّرات المختلفة للتّعليم الأهليّ التي كان يحملُها أعضاءُ المجلس، والذين تمكّن عددٌ منهم من إجراء تعديلات مهمّة على النّسخة الأولى من البرامج الجديدة، وعلى التنظيم الجديد لامتحان شهادة الدراسة الابتدائيّة الذي شهد إدراج اختبارات جديدة كالمعارف الرائجة والتّصوير والفلاحة والتدبير المنزليّ، كما شهد تعديل وظائف اختبارات أخرى وماهياتها [6].
وبناء على هذه المداولات، أصدر السيّد شرليتي القرار الجديد الضّابط للبرنامج العامّ للتعليم الابتدائيّ والذي تجدونه مترجما بالملحق الأوّل [7].
وكان السيّد شرليتي يرى أنّ إصلاح برامج التعليم الابتدائيّ ينبغي أن يقترن بإصلاح برامج إعداد المعلّمين، خاصّة وأنّ اللغة العربيّة صارت من الموادّ المهمّة ومن اختبارات امتحان الشّهادة، ويحتاج تدريسُها معلّمين مؤهّلين تربويّا وبيداغوجيّا، علاوة على تمكّنهم من اللغة العربيّة، فأنشأ بالمدرسة العلويّة شعبة للتلاميذ المدرّسين، وأحدث لجنة مختصّة أوكل إليها مهمّة " تنظيم شعبة التلاميذ المدرّسين بالمدرسة العلويّة وبرامجها[8] .
إثر هذه الأعمال (إعداد البرامج الجديدة للتعليم الابتدائيّ ولمدرسة ترشيح المعلّمين) بعث السيّد شرليتي ، بمنشور طويل إلى متفقدي التعليم الابتدائيّ، شرح فيه مقاصدَ البرامج الجديدة و نظرته لدور المدرسة الابتدائية و طريقة اشتغالها.
 ونظرا للقيمة التاريخية لهذا المنشورُ الذي تضمّن تصّورا جديدا لتعليم الأهالي ولدور المعلّم،  و   طرحا لإشكاليات و مسائل و توجّهات تعليميّة ما لا تزال تثير  إلى اليوم جدلا كبيرا بين المختصّين في بناء البرامج واستراتيجيّات تنفيذها في علاقتها بالواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ و بحرية تصرف المعلم ، فقد  رأينا أن نقدمه  لقرّاء المدوّنة البيداغوجيّة مقتطفات من هذا المنشور الذي مرّت عليه أكثر من قرن من الزمن.

 منشور مؤرّخ في 30 جوان 1909 يتعلّق بتطبيق بالبرنامج الجديد موجّه من المدير العامّ للتّعليم إلى متفقّدي التّعليم الابتدائيّ.

" السيّد المتفقّد
وإنّه لَمنْ المهمّ أن يكون المعلّمُ، ذاك المسؤولُ عن تربية مجموعة من التّلاميذ، غالبا ما لا تتاحُ لهم متابعةُ تعليم آخر غيرَ ما أسْداه لَهم هو نفسُه، مُدركا إدراكا كاملا لدوره، وذا نظرة واضحة لمنفعة ما يقدّمُه.

لم يكُن في نيّتي-وأنا أعرضُ، على مداولات لجنة خاصّة، الإصلاحات الواجبَ إدخالُها على مناهج التّعليم الابتدائيّ التونسيّ وبرامجه، أو أُخضعُها، بعد ذلك، لنَظر مجلس التّعليم العُموميّ-أنْ أقوم بتغيير فُجْئيّ وجوهريّ، وإنّما كانت نيّتي أنْ أُوجّه، فقط، هذه المناهجَ والبرامجَ وجْهة جديدة، شيئا فشيئا، وبحسب مراحل متتاليّة.
وإنّه لَمنْ المهمّ أن يكون المعلّمُ، ذاك المسؤولُ عن تربية مجموعة من التّلاميذ، غالبا ما لا تتاحُ لهم متابعةُ تعليم آخر غيرَ ما أسْداه لَهم هو نفسُه، مُدركا إدراكا كاملا لدوره، وذا نظرة واضحة لمنفعة ما يقدّمُه.
أنّ التّعليم الابتدائيّ ينبغي أن يكون، أوّلا وقبل كلّ شيء، إعدادا مباشرا وملائما للحياة العمليّة
إنّ النقاش الذي انطلق في الغرض [9]، والذي أَغنيْتُموه بما عرضْتم من آرائكم وتجربتكم، قد أفضى إلى رأي عامّ، سائد ومُجْمَع عليه، تذوبُ صلبَه كلُّ الاختلافات المتعلّقة بالتفاصيل، مفادُه أنّ التّعليم الابتدائيّ ينبغي أن يكون، أوّلا وقبل كلّ شيء، إعدادا مباشرا وملائما للحياة العمليّة.
وهذا ما يفسّر أنّه-عندما أخذنا في تعداد الموادّ المُكوّنة للبرنامج العامّ للمدارس الابتدائيّة وتعريفها- برز اهتمامٌ دائم يدعو إلى أنْ نضعَ أكثرَ ما يمكن من الواقع والحياة، تحت العبارات التقليديّة الدّالة على مختلف موادّ الدّراسة، وأن نكيّفها لحاجات المجموعات السّكّانيّة المتنوّعة التي تَؤمّ مدارسنا، ولأوضاعها وأنماط عيشها.
قرّرنا أن ينهض التعليمُ الأوّليّ للعلوم بدور حاسم بالمدرسة الابتدائيّة مستقبلا
لستُ في حاجة إلى أنْ أُذكّركم بالاعتبارات المُدوَّنة بتقرير اللجنة الخاصّة[10] ، والمتعلّقة بكلّ بند من بنود البرنامج، والتي صادق عليها مجلسُ التّعليم العموميّ. لقد قرّرنا أن ينهض التعليمُ الأوّليّ للعلوم بدور حاسم بالمدرسة الابتدائيّة مستقبلا، دون أن نُغفل نصيبَ التربية الأخلاقيّة للتلاميذ المعْهود بهم إلينا، والتي لا يجب تضييقُها مهما كانت الأحوالُ، والتي ينبغي أن تُلْهم باستمرار كلَّ الأقوال والأفعال التي نأْتيها بالفصل الدّراسيّ، وكذلك دون أن نُضعف من المكانة التي تتبوّؤُها اللغةُ الفرنسيّة، ولها مكانةُ الصَّدارة، والتي تدرَّس تدريسا تطبيقيّا لمُواطنينا من الفرنسيّين، ولأطفال الأهالي وأبناء الأجانب.
أنّ إيناسَ الطفل بالعلوم، ينبغي أن يتمّ عبْر المظاهَر المألوفة للحياة اليوميّة
وإذْ تُدركون تمامَ الإدراك الحدودَ التي تفرضُها الطبيعةُ نفسُها على مثل هذا التّعليم العلميّ، فإنّي لستُ في حاجة إلى أن أُعيد عليكم، ههُنا، ما مفادُه أنّ طموح هذا التّعليم ينبغي أن يكون مُتواضعا، على العموم. وما يجب فعلُه يكْمُن في أنّ إيناسَ الطفل بالعلوم، ينبغي أن يتمّ عبْر المظاهَر المألوفة للحياة اليوميّة.
إنّه توجه نعطيه  للتلاميذُ، وإنّه لَحُبّ الاطّلاع الذي ينبغي أن نغرسه فيهم، باعتماد الأسلوبيْن الرائجيْن لدى البيداغوجيّين، وهما العادة والمحاكاة. ومن البداية، على أشياء الفصل وساحة المدرسة والحديقة والشّارع أن تكون مَدخلا يبرّر إبداءَ التلاميذ ملاحظات دقيقة تربطُها براهينُ بسيطة. فمنْ دروس اللغة ما يمكن أن ينجز بقصّة حبّة قمح، أو حبّة زيتون، أو دودة قَزّ. وفيما بعدُ، ستُعتمد جملةُ الملاحظات والتّجارب القائمة على مظاهر الحياة الأشدّ طبيعيّةً، وعلى نمط العيش الزّراعيّ أو الصّناعيّ المألوف لدى التلاميذ أو الأقرب إليهم، لإعداد تعليم منهجيّ للفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعيّ، مع تطبيقات على قواعد حفظ الصّحّة، وعلى الزّراعة والصّناعة، بحسب ما تقتضيه الحالة. وسيكون لهذه المكانة المهمّة المخَصّصة لبرامج التّعليم العلميّ، طبْعا، انعكاسٌ على صعيد امتحان شهادة الدّروس الابتدائيّة الأوّليّة الذي سيتضمّن مستقبلا اختبارا كتابيّا في المعارف الشّائعة.
وَجَب أن يكون تفصيلُ البرنامج مُتّسما بالمرونة والتكيّف مع مستلزمات جميع الفئات

تلك هي أولى مظاهر التجديد العامّ التي ينبغي أن تَشيع، منذ الآن، في برامج التعليم الابتدائيّ ومناهجه. وعبْرها، سيتجلّى أنّه تدريبٌ على الحياة الواقعيّة. وبما أنّ الحياة الواقعيّة لا تتجلّى أبدا لكافة التلاميذ في مظهر واحد، وَجَب أن يكون تفصيلُ البرنامج مُتّسما بالمرونة والتكيّف مع مستلزمات جميع الفئات. وعلى هذا، فإنّه لا يمكن أن يخفى على أحد أنّ الفرق الأبرز الذي يكون بين تلامذتنا، هو ذاك الذي تُحدثه اللغة والجنسُ. وإذا كان من واجبنا أن نقرّب أكثرَ فأكثر السّكّانَ الأصليّين من السّكّان الفرنسيّين، وأن نكون أدلَّتَهم ومُدرّبيهم، فإنّ واجبنا التربويّ يكمُن أيضا في مراعاة الظروف الواقعيّة التي تعيشها مجموعات التلاميذ المتردّدةُ على مدارسنا.
لا أعتبرها ( البرامج) بحال من الأحوال واحدة ولا منغلقة
وليس للحرّية المتروكة للمعلّمين بالفصل الثاني من قرار اليوم [11] من هدف سوى أن تتيح لهم ملاءمة البرنامج الدّراسيّ لهذه الظروف، وهي برامج لا أعتبرها بحال من الأحوال واحدة ولا منغلقة. وبالتاّلي، فإنّ هذه الموادّ لا تمثّل سوى حالات نوعيّة منها.
ولمّا كان التنظيمُ الحاليّ لمدارسنا يشتمل على مؤسّسات يكون فيها الأطفال الأوروبيّون وأطفال الأهالي مُنفصلين تارة، ومختلطين بنسب شديدة التفاوت ومتنوّعة طوْرا، فإنّه يكون من العبث أن نتصوّر تنظيما دقيقا لأصناف من المدارس بالغة التنوّع. وأغلبُ الظنّ أنّ لمبادرة المعلّمين، تحت رقابتكم وحفزكم، أيّها السّادة المتفقّدون، رُبّما تعودُ مهمّةُ ضبط التنظيم البيداغوجيّ لكلّ مدرسة، لا شكّ بعد القيام بالمحاولات الضّروريّة.
فإذا ما ألفيْنا حالات من المدارس يُمكن أن تُدرَّس بها كافة موادّ البرنامج بطريقة نافعة -ونرجو أن تكون عديدةً منذ الآن- وإذا كنّا نرجو حصولُ ذلك في جميع المدارس مستقبلا، وإذا كان علينا أن نُعدّ كافة التلاميذ باتّخاذ إجراءات ملائمة وبسلسلة من الإصلاحات، فإنّه من غير الممكن حاليّا أنْ لا نراعيَ ظواهر بديهيّة كتلك التي تعرفونها جيّدا، من قبيل الفصول التي تشتغل نصف التوقيت، والمخصّصة لأطفال الأهالي الذين يقضُون سائر يومهم في دراسة العربيّة أو العبريّة، ومن قبيل ضرورة أن يُخصّص الأطفالُ الأجانب، في بداية عديد من الدّروس، حيّزا زمنيّا لتعلّم لغة التدريس
. إذنْ، فإنّ القاعدة التي علينا أن نستلْهمها باستمرار تتمثّل في أن نتساءل عن الحدّ الأقصى من الخدمة التي علينا أن نُسْديها للتّلاميذ، في ضوء الزّمن الذي يقْضُونه بالمدرسة وسنّهم ومؤهّلاتهم. لست أريد أن أعيد عليكم، ههُنا، مناقشات مجلس التّعليم العموميّ، بل أدعوكم إلى أن تلْفتوا إليها اهتمامَ المعلّمين. وكي أبيّن أهميّة أبعادها، سأؤكّد على مثاليْن.
برنامج التاريخ
إنّ المدرسة ستكون فيما يبدو، كمَنْ يحفر في الماء، متى زعمت أنّها تركّز على تفاصيل التاريخ كلّه، وهو تاريخ سيظلّ غريبا على البلاد التونسيّة أو على فرنسا الحديثة …فتعليمُ التاريخ ينبغي أن يكون ملائما لحاجات التلاميذ، وينبغي لبرامجه أن تكون منحصرة فيما يُمكن تمثّله واستيعابُه من العناصر.
تعلمون أنّ البرنامج العامّ أقرّ تدريس مبادئ من تاريخ فرنسا وشمال إفريقيا. مَنْ منّا لا يرى الحَرج الذي يبدو على معلّم يكون عليه إلقاءُ درس في التاريخ في صفّ الصّبيان [12]، أو حتّى في الصفّ الأوّليّ لتلاميذ من الأجانب أو من الأهالي؟ ومهما كانت ثقافته البيداغوجيّة وبراعته، فإنّه لا يتوصّل إلى إفهام التلاميذ. ولمّا كان تعليمُ التاريخ غيرَ متاح مادّيّا مع أمثال هؤلاء التّلاميذ، فإنّ مدير المدرسة سيُسقطه، ولا شكّ، من برنامج الدّراسة وجدول الأوقات. لكنْ، علينا أن نواصل استعراض الوضعية: لقد تقدّم تلامذتُنا في السّنّ، وألفُوا لغتنا الفرنسيّة، وصاروا في الصَّفّ المتوسّط أو الصّفّ الأعلى، وهم قادرون على فهم درس التاريخ والإفادة منه. عندها، يُصبح تاريخُ القرطاجيّين والرّومان بالبلاد التونسيّة، والغزوُ العربيّ، ومرورُ الغزاة الآخرين بتونس، ومشروع فرنسا-يُصبح كلُّها ذا طبيعة تشدّ انتباه التلاميذ الأهليّين.
ولا شكّ في أنّهم سيفيدون من دراستها أكثرَ من إفادتهم من دراسة سكّان بلاد الغال وسكّان فرنسا، ودراسة النُّرْمان، والإقطاع، والكُومُونة، وحرب المائة سنة، وحروب الأديان. ولكيْ يفهموا الوضع الرَّاهن بالبلاد التونسيّة، ينبغي أن ندرّسهم العلاقات القائمة بين الإيّالة التونسيّة وفرنسا، في مختلف الفترات والعصور، وبصفة خاصّة منذ قرن خَلا. وكيْ لا نتركهم في جهل بسيَر مشاهير الأعلام الذين ذاعَ صيتُهم ببلدَهم وبفرنسا ولدى الإنسانيّة جمعاء، وبالحالة السّياسيّة لبلدهم قبل الحماية وبعدها، فإنّ المدرسة ستكون فيما يبدو، كمَنْ يحفر في الماء، متى زعمت أنّها تركّز على تفاصيل التاريخ كلّه، وهو تاريخ سيظلّ غريبا على البلاد التونسيّة أو على فرنسا الحديثة. عندئذ، ستفرض النتيجةُ نفسَها بنفسها: فتعليمُ التاريخ ينبغي أن يكون ملائما لحاجات التلاميذ، وينبغي لبرامجه أن تكون منحصرة فيما يُمكن تمثّله واستيعابُه من العناصر.
2 -  تدريس المعارف العلميّة
يعتمد، في المدارس الفرنسيّة العربيّة بالقرى والأرياف، على تمارين اللغة البسيطة  التي تتعلق بالأشياء الأكثر بساطة في الحياة اليوميّة، لتمكين الطفلُ من ربط صلة أولى بحقائق الوجود
إنّ اعتبارات من الطّبيعة ذاتها ستقود إلى استخلاصات مماثلة في مجال تدريس المعارف العلميّة الرّائجة. فمعلوم أنّ لبعض التلاميذ الأهالي في المُدن، ولعدد مهمّ من الأطفال الأجانب، وللغالبيّة العظمى من صغار الفرنسيّين، وهم يلتحقون بالمدرسة، معرفةً بمفاهيم مكتسبة في العائلة أو في الحياة اليوميّة عن أشياء الحياة الواقعيّة.
فمساكنُهم تحوي أثاثا ومَاعُونا متنوّعا يدركون منفعته. ثمّ إنّهم شاهدوا صنائعيّ المهن الأساسيّة يستخدمون أدوات وآلات. كما أنّهم أَلفوا في عائلاتهم بعضَ العادات المتّصلة بالمظهر ورَغَد العيْش. وكثيرا ما تكون هذه الأشياء غيرَ معروفة لدى البدويّ أو الفلاّح. وعليه، فإنّ التعليم المُوجَّه إلى الصّنف الأوّل من التلاميذ-وقد وظّف هذه المعارفَ المكتسبة-سيتّخذ فيه درسُ الأشياء بُعدا علميّا شيئا مّا، حتّى في صفّ الصّبيان، بينما سيعتمد، في المدارس الفرنسيّة العربيّة بالقرى والأرياف، على تمارين اللغة البسيطة  التي تتعلق بالأشياء الأكثر بساطة في الحياة اليوميّة، لتمكين الطفلُ من ربط صلة أولى بحقائق الوجود.
فمنذ صفّ الصّبيان، ينبغي لدروس المحادثة اللغويّة، وهي بحساب درسيْن في اليوم على الأقلّ، أن تكون متعلّقة بالأشياء الحقيقيّة لعالَم الطفولة، ما أمْكن، حتّى إنْ تعلّق الأمرُ بتلاميذ من الأجانب أو الأهالي.
في الصّفوف الأوّليّة والمتوسّطة ... ينبغي لجدول الأوقات أن يخصّص حيّزا زمنيّا كافيا لتمارين المعاينة والتطبيق، من تجارب، وأشغال بالحديقة، وزيارات وجَوْلات في قطاعيْ الصّناعة أو الزّراعة
وفي الصّفوف الأوّليّة والمتوسّطة، فإنّ درس الأشياء، ويستغرق من 30 إلى 45 دقيقة، ينبغي أن يُبرمج ضمن أنشطة التعلّم، مرّة في اليوم، على الأقلّ. وفي الصّفوف العليا، يُكمّل هذا التعليمُ ويوسّع في مجاله عبْر تعليم المعارف العلميّة الرائجة تعليما منظّما ومنهجيّا، مع تطبيقات على قواعد حفظ الصحّة والزّراعة والصّناعات المحلّيّة. وينبغي لجدول الأوقات أن يخصّص حيّزا زمنيّا كافيا لتمارين المعاينة والتطبيق، من تجارب، وأشغال بالحديقة، وزيارات وجَوْلات في قطاعيْ الصّناعة أو الزّراعة وبالإضافة إلى الدّروس النّظاميّة المقرّرة، فإنّي أُوصي المعلّمين بتنظيم تعليم مُناسباتيّ، بحسب الفصول والظّروف، شرْط أن يتمّ التنصيصُ عليه ضمن البرامج المفصّلة للموادّ وجداول الأوقات.
3- التنظيمات والقواعد البيداغوجية
ولا شكّ عندي في أنّ مديري المدارس ومُديراتها سيلتزمون بالإجراءات التنظيميّة المَرْعيّة، عند إعداد مشاريعهم التربويّة، وسيستلْهمون القواعدَ البيداغوجيّة المألوفة والتي صدرتْ تعليقاتٌ عليها، في مناسبات متكرّرة، بنشرة التّعليم العموميّ. وتتعلّق هذه التّعليمات بأوقات الدّخول، ومُدد حصص الدّراسة لكلّ صفّ، وبموقع الراحة ومدّتها، وأيّام العطل، والأنشطة المدرسيّة الخارجيّة، وتسمية فصول الدّراسة والدّروس، وبتزامُن الخدمة المدرسيّة والخدمة البريديّة بالمدارس القباضات.
كما تتعلّق هذه التّعليمات بضرورة أن تكون الدّروس الموجّهة للصّبيان قصيرة، جرّاءَ نشاطهم الحثيث وقدرتهم الضّعيفة على التركيز، وبموقع النشاط التعليميّ من بداية اليوم الدّراسيّ أو نهايته، أو بموقعه مباشرة إثرَ الراحة- كلُّ ذلك بحسَب ما يكتنفُ كلَّ نشاط من صعوبة وما يقتضيه من مجهود فكريّ- وبضرورة الفصْل بين الدّروس بأناشيد وحصص للسيْر وحركات جماعيّة لتلبية حاجات التلاميذ إلى النشاط، وبالتنوّع في ترتيب التمارين وتتاليها، شدّا لاهتمام التلاميذ وتجنّبا لإرهاق الذكاء، من ذلك استعمالُ الفروض الكتابيّة، والدّرس الجماعيّ والاستعانة بالمُدرّبين، بالمدارس ذات الفصل الوحيد[13].
السّادة المتفقّدون.
ينبغي للتوقيت المدرسيّ، شأنه شأنَ البرامج، أن يُستلْهم من حاجات المتعلّمين وإكراهات المحيط. ففي المدينة الواحدة، سيكون جدولُ الأوقات مختلفا من مدرسة مخصّصة لأبناء الأوروبيّين، إلى مدرسة ثانية لا تستقبل إلاّ أطفالَ الأهالي، إلى مدرسة ثالثة يتردّد عليها أطفالٌ من جنسيات متنوّعة...ولا يمكن أن تسير، وفق توقيت واحد، المدرسةُ الحضريّة والمدرسةُ الريفيّة، المدرسةُ الواقعة بساحل البلاد وتلك الواقعةُ بنجاد البلاد، المدرسةُ التي بمنطقة زراعيّة وتلك التي بمنطقة صناعيّة.

تلك هي، في الخطوط الكبرى، طبيعة إصلاح البرامج وروحُها التي عهُد إليكم بتطبيقها. وتنطلق مُهمّتكم منذ شروعكم في فحْص ما سيقترحُه عليكم المديرون والمديرات من مشاريع جداول الأوقات الخاصّة بالعام الدّراسيّ 1909/ 1910.
ومن جهة أخرى، سيكون عليكم أن تضعوا موضعَ التطبيق وجهات نظر جديدة عن البرامج وطريقة التدريس. وينبغي للتوقيت المدرسيّ، شأنه شأنَ البرامج، أن يُستلْهم من حاجات المتعلّمين وإكراهات المحيط. ففي المدينة الواحدة، سيكون جدولُ الأوقات مختلفا من مدرسة مخصّصة لأبناء الأوروبيّين، إلى مدرسة ثانية لا تستقبل إلاّ أطفالَ الأهالي، إلى مدرسة ثالثة يتردّد عليها أطفالٌ من جنسيات متنوّعة. ولا يمكن أن تسير، وفق توقيت واحد، المدرسةُ الحضريّة والمدرسةُ الريفيّة، المدرسةُ الواقعة بساحل البلاد وتلك الواقعةُ بنجاد البلاد، المدرسةُ التي بمنطقة زراعيّة وتلك التي بمنطقة صناعيّة.
لئن كانت التراتيبُ ... تتيح لمدير المدرسة المبادرةَ بإعداد المشروع التربويّ ...، فإنّه عليه، ...أنْ لا يسْهُوَ عن مشاورة معاونيه، ذلك أنّ تعاون الأعوان النّشيطَ والمستنيرَ يمثّل قاعدة إصلاح التعليم

سيكون رأيُ المعلّمين ... ثمينا في تطبيق البرنامج العامّ بكلّ مدرسة، وفي توزيع موادّ المخطّط التدريسيّ على الصّفوف والأقسام والثلاثيات وحتّى الأشهر.

ولئن كانت التراتيبُ المدرسيّة تتيح لمدير المدرسة المبادرةَ بإعداد المشروع التربويّ التي سيرفعُه إليكم، فإنّه عليه، دون شكّ، أنْ لا يسْهُوَ عن مشاورة معاونيه، ذلك أنّ تعاون الأعوان النّشيطَ والمستنيرَ يمثّل قاعدة إصلاح التعليم. فمَنْ يستطيع أن يعرف حاجات السّكّان والصّعوبات الخاصّةَ بكلّ إقليم أفضلَ من المعلّمين الذين يكونون في فصولهم الدّراسيّة كما في الحياة اليوميّة على صلة دائمة بهذه الصّعوبات والحاجات؟ ومنذ مدّة، دأب المعلّمون العاملون ببعض المدارس ذات الفصول العديدة على تنظيم لقاءات بيداغوجيّة يتدارسون خلالها معا مسائلَ تتّصل بالنّظام المدرسيّ والبرامج وجداول الأوقات والانضباط...إنّ هذه الممارسة لَجديرة بالتشجيع. وسيكون رأيُ المعلّمين المكلّفين بالتدريس ثمينا في تطبيق البرنامج العامّ بكلّ مدرسة، وفي توزيع موادّ المخطّط التدريسيّ على الصّفوف والأقسام والثلاثيات وحتّى الأشهر.
وإذا ما تمّ إعدادُ البرامج المفصّلة بالنّسبة إلى كلّ فصْل دراسيّ، فلا يبقى سوى ضبط عدد السّاعات اليوميّة والأسبوعيّة لكلّ مادّة من موادّ التدريس-بحسب أهميتها النّسبيّة التي تستمدّها من أصول التلاميذ والإقليم، والناحية-وتوزيع مختلف الدّروس المُكوّنة للعمل الأسبوعيّ للتلاميذ على جدول التوقيت الذي سيُعرض على أنظاركم.
ستُبرز التجربةُ اليوميّة والتطبيق، دون أدنى شكّ، اختلالات ينبغي تدوينُها قصد إجراء التعديلات اللازمة على الجدول، في الوقت المناسب، إمّا خلال إحدى زياراتكم للمدرسة، أو في مطلع العام الدّراسيّ الموالي.
وأؤكّد، مرّة أخرى، على الأهمّية التي ينبغي أن يُحْظى بها تعليمُ المعارف العمليّة، في مختلف الفصول الدّراسيّة، تلك المكوَّنة من الفرنسيّين لا غير، كتلك التي تحتضن أطفالَ الأجانب والأهالي فقط. وبعد إعداد جدول الأوقات والمصادقة عليه ودخوله حيّز التنفيذ، ستُبرز التجربةُ اليوميّة والتطبيق، دون أدنى شكّ، اختلالات ينبغي تدوينُها قصد إجراء التعديلات اللازمة على الجدول، في الوقت المناسب، إمّا خلال إحدى زياراتكم للمدرسة، أو في مطلع العام الدّراسيّ الموالي.
وإنّي لأعلّق أهميّة كبرى على أن يكون بحَوْزة كلّ معلّم في القسم، وفي الآن نفسه، جدولُ أوقاته وملاحظاتُ المتفقّد ودفترُه للدّروس، وجذاذات الإعداد المُسبّق، ومدوّنةُ الاختبارات والفروض، والتوزيعُ الشّهريّ لموادّ البرنامج المقرّر للقسم المكلّف بتعليمه، مع تخصيص هامش كاف في هذه الوثائق لتدوين الملاحظات التي ستُبرزها الممارسة اليوميّة وزياراتُ التفقّد. وخلال جولاتكم التفقديّة بالمدارس، فإنّي أحسَب أنّكم لا تنسوْن دعوة المعلّمين إلى الاستظهار بهذه الوثائق التي بإمكانكم أن تدوّنوا عليها بأنفسكم، أو تطلبوا من المعلّمين إدخالَ الإصلاحات أو الإضافات أو كلَّ تعديل تروْن فائدة في إدراجه بهذه الوثائق. وسيمكّنكم فحصُ التقارير الدّوريّة لشهريْ ديسمبر ومارس ونهاية السّنة الدراسيّة، وكذلك اطّلاعُكم على سائر البيانات التي تروْن ضرورةَ طلبها من المعلّمين، من مراقبة سيْر الدّراسة بالمدارس وتعديله، عند الاقتضاء.
4 - تقدير القيمة البيداغوجيّة للمعلّمين
وعند تقديركم للقيمة البيداغوجيّة للمعلّمين والنتائج التي يحقّقونها، فإنّكم تراعون مراعاة مهمّة الجهودَ الفرديّة الموجّهةَ إلى تكييف الدّروس للوسط، وإلى تنمية المعارف العلميّة وفق الرّوح الجديدة للطريقة البيداغوجيّة الجاري بها العملُ. أمّا العددُ المرقَّم الذي يلخّصُ تقديرَكم للمعلّم، والذي يُعتبر أحد العناصر التي تعتمد للترقية بالاختيار، فإنّه سيكون حتما على علاقة بالملاحظات التي تكونون قد سجّلْتُموها.
ومع هذا كلّه، فإنّي أحتفظ لنفسي بأن أنظر معكم إذا ما كان الأمرُ يستوجب أن نسند جوائز خاصّة للمعلّمين الذين يتميّزون بروح المبادرة وبحماستهم، تشجيعا لأصحاب العزائم الصّادقة، وإبرازا للأهمّية التي أوليها لهذا الإصلاح.
سبستيان شرليتي.
1909.



    تعريب وتعليق الهادي بوحوش والمنجي عكروت، متفقدان عامّان للتربية متقاعدان
تونس في 3 مارس 2015.



[1]  عين لويس ماشويل  مديرا عاما شرفيا اعترافا بالخدمات التي قدمها للتعليم بالبلاد التونسية وأبقي في الخدمة بعد سن التقاعد   كملحق بالبلاد التونسية مكلف بمهمة خاصة.
[2]  سبستيان شرليتي/ Sébastien Charléty:1867/ 1945 مختصّ في التاريخ، وأستاذ بكليّة الآداب بمدينة ليون الفرنسيّة. عمل بالجزائر. وُضع على ذمّة الحكومة التونسيّة من قبل وزارة التعليم العموميّ الفرنسيّة، ثمّ عيّن متفقدا عامّا للتعليم المهنيّ بالإيالة التونسيّة، سنة 1908. ثمّ سمّي مديرا عامّا للتعليم العموميّ، خلفا لماشويل، بمقتضى أمر مؤرّخ في 6 جويلية  1908، يدخل حيّز التنفيذ من غرّة أكتوبر 1908. شارك شرليتي في مؤتمر شمال إفريقيا لسنة 1908، وأشرف على إصلاح برامج التعليم الابتدائيّ وبرامج المدرسة العلويّة لترشيح المعلّمين، في نطاق بعث شعبة للتلاميذ المدرّسين، تعويضا للمدرسة التأديبيّة، سنة 1909. عيّن مديرا عامّا للتعليم العموميّ والفنون الجميلة بمدينة ستراسبورغ سنة 1919. بلغ سنّ التقاعد سنة 1937.  (النشرة الرسميّة للتعليم العموميّ، عدد 18، فيفري 1908)
[3]   انظر القائمة الاسمية لأعضاء اللجنة بالقرار المؤرّخ في 26 فيفري 1909، المنشور بالنشرة الرسمية للتعليم العمومي. عدد26 لسنة 1909.
[4]   أحدث هذا المجلس التي تضمّ تركيبته مُمثلين عن الجالية الفرنسيّة بمقتضى الفصل 13 من الأمر العليّ المنظّم للتعليم بالإيّالة والصادر سنة 1888.
[5] انظر محْضر مداولات هذا المجلس بالنشرة الرّسميّة للتعليم العموميّ، السنة 23، العدد 28، جوان 1909.
[6]  انظر مداولات المجلس في خصوص امتحان الشهادة واختباراته بالنشرة الرّسميّة للتعليم العموميّ، السنة 23، العدد 28، جوان 1909.
[7]  هو القرار المتعلّق ببرنامج التعليم الابتدائيّ والصادر عن المدير العامّ للتعليم العموميّ بتاريخ 30 جوان 1909 والذي يدخل حيّز التطبيق بانطلاق العام الدراسيّ 1909/ 1910. انظر نصّ القرار بالنشرة الرسميّة للتعليم العموميّ عدد 28، جوان 1909.
[8]  انظر القرار المؤرّخ في 23 نوفمبر 1908 الضابط لتركيبة اللجنة، علما أنّها تضمّ في عضويتها كلّ من محمد الأصرم وخير الله بن مصطفى. راجع النشرة الرسميّة للتعليم العموميّ عدد 18، فيفري 1908.
[9]    انطلقت أشغال لجنة إصلاح التعليم الابتدائيّ منذ 23 ديسمبر 1908.
[10]  يشير إلى مناقشة مجلس التعليم العموميّ لمسوّدة البرامج المقترحة بتاريخ 29 ماي 1909
[11] يشير إلى القرار المتعلق بالبرامج الجديدة للتعليم الابتدائيّ المؤرّخ في 30 جوان 1909.
[12]  يشتمل التعليم الابتدائيّ على أربعة صفوف: صفّ الصبيان، الصفّ الأوّليّ، الصفّ المتوسّط والصفّ العالي.

[13] Voir les N°  18, 19 et 20 de 1989 ; 41 de 1904 ,16 de 1907
[14]  هو قرار يتعلق ببرامج التعليم الابتدائيّ أصدره لويس ماشويل.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire