lundi 5 juin 2017

من ثوابت القانون التربوي التونسي المؤسس



تصدير
الهادي بوحوش ( 1950-2017)
وفاء لروح المرحوم سي الهادي بوحوش فقيد الساحة التربوية والباحث في شؤون التربية وأحد مؤسسي المدوّنة البيداغوجية بل الفاعل الرئيسي في تأثيث ورقاتها منذ بعثها، أخذنا على أنفسنا العهد بأن نؤمن  تواصل ظهور المدونة  بنفس الانتظام و نفس الرسالة أي المحافظة على ذاكرة المدرسة التونسية   و أن نحافظ على الأمانة.
 و رأينا أن نخصص هذا العدد الأول بعد فترة الحداد   لننشر محاضرة قدّمها المرحوم في ندوة علمية حول " المدرسة التونسية العصرية : الواقع والآفاق " نظمت يومي 05 و 06 نوفمبر 2008 بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس المنظومة التربوية التونسية - منشورات الجامعة بمنوبة - سلسلة ندوات 

وهي محاضرة تقوم على ثلاثة محاور أساسية تتمثّل في :
1.   ثوابت القانون التربوي الأول ( الحق في التعلم، مجانية التعليم وإجباريته، الحق في تعليم متطوّر ومتجدّد، تجدد رسالة التربية )
2.    الإشكاليات المطروحة ضمن المنظومة وسبل تجاوزها ( ظاهرة الفشل المدرسي، ضعف مكتسبات المتعلمين، الإفراط في المركزية، ضعف الاحترافية)
3.   آفاق المدرسة التونسية .
أخانا الهادي لئن غاب عنّا جسدك فروحك ستظل ترافقنا
المنجي عكروت و ابراهيم بن عتيق
تونس ، غرة جوان 2017

نص المداخلة
من ثوابت القانون التربوي التونسي المؤسس
شهدت البلاد التونسية ، منذ الاستقلال ، ثلاثة إصلاحات تربوية كبرى جسّمتها ، تشريعيا، ثلاثة قوانين ، حدّدت الاختيارات الأساسية ، و ضبطت ملامح المجتمع المراد إرساؤه  في كل مرحلة  و رسمت العلاقة بين المنظومة التربوية و المنظومة الاقتصادية و المجتمعية و هذه القوانين هي :
قانون 1958 ( القانون عدد 118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958) ، و قد سنته الدولة  التونسية  ، بعيد استرجاع السيادة الوطنية ( 20 مارس 1956) ، و إصدار مجلة الأحوال الشخصية( 13 أوت 1956) و الاعلان عن إقامة النظام الجمهوري ( 25 جويلية 1957)، و الانتقال بالشعب التونسي من وضع الرعية إلى وضع المواطنة الحديثة ، بما تعنيه من حقوق و واجبات. و على هذا القانون ، علقت غاية سامية تتمثل في تكوين الاطارات التي ستنهض بالبلاد و في تنشئة المواطن الواعي بواجباته و حقوقه. فالتعليم كان يعد، آنذاك ، من المسائل ذات الاولوية التي تهم تركيز الدولة الوطنية الجديدة ، و يتنزل في صدارة الاهتمامات، نظرا إلى ما يكتسيه من بالغ الأهمية في بناء المجتمع الجديد، و إرساء النظام الجمهوري.
قانون 1991 ( القانون عدد 65 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991)  الذي عهد إلى المنظومة التربوية نشر ثقافة حقوق الانسان و القيم الكونية، مع ترسيخ الاعتزاز بالهوية الوطنية.
قانون 2002 ( القاون عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 جويلية 2002) ، فيما بين القانونين ( 1991 و 2002)  ، تغير السياق تغيرا جذريا بدخول العالم في مرحلة جديدة تغلب عليها سمة العولمة ، و بروز نظام عالمي جديد. و اشتدت المنافسة بين الأمم على قاعدة الذكاء البشري . أما بلادنا فقد اختارت إراديا ، لموقعها الحضاري و الجغرافي، ان تنخرط في طور جديد من النماء و الانفتاح الواعي على العالم ، جسمته أحداث ذات بال ، منها الانخراط في المنظمة العالمية للتجارة سنة 1995، و إقرار برنامج واسع لتأهيل المؤسسات الاقتصادية ( 1995) ، إبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي  ، سنة 1996. و في أطار القانون المذكور لسنة 2002، بات تأهيل الموارد البشرية أمرا حتميا، عليه يتوقف تأهيل المؤسسات الاقتصادية لتقوى على المنافسة، و عليه يتوقف تأهيل المجتمع، ليصير مواكبا لكل التطورات الحضارية و التكنولوجية التي يشهدها عالم اليوم ، فلا غرابة إذن أن تتنزل التربية و التكوين في هذه المرحلة منزلة الأولوية المطلقة.
تلك هي القوانين الثلاثة التي حكمت المنظومة التربوية لبلادنا و هي محطات ثلاث ، استجابت كل واحدة منها لمقتضيات الطور الحضاري الذي تعيشه بلادنا و لنمط المجتمع المنشود إرساؤه.
إن هذه القوانين التربوية الثلاثة المذكورة ، بالرغم من استجابة كل منها لمقتضيات المرحلة التي سنّت فيها ، فهي تتعاضد في تحقيق السياسة التربوية و تجسيم الاختيارات الكبرى في مجال التعليم و التكوين و قد ظلت المبادئ الأساسية ثابتة   ، بل عززت بتدابير عملية رسختها في الواقع المدرسي ، أما التغيير فيتعلق بالآليات و المنهجيات و المقاربات و وسائل العمل و الأخذ بالصالح من المستجدات.
      I.            في ثوابت القانون التربوي الأول
من أبرز الثوابت في قانون 1958 ضمان حق التعلم مع ضمان مجانية التعليم و الإلزامية وتوحيده و تطويره فكيف هو مآل هذه الثوابت؟
1.   ضمان الحق في التعلم
" أبواب التربية و التعليم مفتوحة في وجوه جميع الأطفال ابتداء من سن السادسة": قانون 1958 الفصل 2
تشترك الاصلاحات الثلاثة في تأكيد هذا الحق ، إذ دونه يصير تكوين المواطن و الانسان وهما و سرابا ، و دونه يتعطل بناء مستقبل قوامه العلم و المعرفة . فقد أقر الفصل الثاني من قانون 1958 أن '' ابواب التربية و التعليم مفتوحة في وجوه جميع الأطفال ابتداء من سن السادسة" و أكدت الاصلاحات الموالية هذا الاختيار ، و عززته بجهاز من التدابير ، مما مكّن البلاد من تحقيق هذا الهدف ، خلال السنة الدراسية 1998-1999 ، حيث بلغت نسبة تمدرّس أطفال 6 سنوات 99.1 % بالتساوي بين البنات و البنين علما أن هذه النسبة لم تكن غداة الاستقلال لتتجاوز 13 %.
لم يكتف قانون 1991 بتثبيت هذا الحقّ في فصله الرابع ، و إنما أرفق بتدابير ترمي إلى أن يتمتع جميع الأطفال به و ذلك بمقاومة ظاهرة الانقطاع المدرسي المبكر ، أردفت بدعوة سياسية إلى " اتخاذ الإجراءات البيداغوجية و الإدارية و الهيكلية ، حتى نحسن من مردود النظام التربوي ، فيصبح الفشل و الانقطاع استثناء نادر الوقوع'' (1998) . فكانت طائفة من إجراءات   ذات طابع اجتماعي و بيداغوجي بهدف توفير دعم مادي وتربوي للمهددين بالفشل من التلاميذ دون 16 سنة في نطاق ترسيخ هذا الحق في الواقع المدرسي.
و تطويرا لهذا الحق ، عدّ قانون 2002 " التعليم حق أساسي مضمون لكل التونسيين و واجب يشترك الاضطلاع به الأفراد و المجموعة"  - الفصل 1/ باب رسالة التربية -  و تحسبا لذلك أقر القانون في فصله 16 سنة تحضيرية لأطفال الشريحة العمرية 5/6 سنوات ، و جعلها جزءا من التعليم الأساسي ، و عهد إلى الدولة بتعميمها استنادا إلى خطة وطنية ينبغي أن تنفذ قبل موفى سنة 2009. و تنفيذا  لمبدأ الإنصاف ، و حرصا على أن يتمتع بحق التعليم الجميع دون استثناء ، وضعت الدولة خطة لذوي الاحتياجات الخصوصية بما في ذلك الأطفال ذوو الإعاقة.
هكذا ضمنت الدولة التونسية حق جميع الأطفال في التربية و التعليم و حققت قبل الآجال ما دعا إليه الإعلان العالمي حول " التربية للجميع" ( 1990) و سائر المواثيق و العهود الدوليّة ، و منها الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل . أما اليوم ، و قد كسبت الدولة معركة الكمّ ( التّمدرس) فإنّ الحقّ في التعلّم اتخذ بُعدا جديدا ينحو به منحى الحقّ في النجاح ، من جهة، و الحقّ في تعليم جيّد للجميع من جهة أخرى ، ممّا يُفسّر ظهور مقولات جديدة في الأدبيات و الخطاب التربوي ، منها التلميذ محور العملية التربوية  و المتابعة و الدعم و العلاج ، إرساء مشاريع تربوية خصوصيّة ، منها المدارس ذات الأولويّة التربويّة و المدارس الاعداديّة النموذجيّة  و شبكة مدارس التميّز و العناية بذوي المواهب.
2.   ضمان مجانية التعليم و إجباريته
"التعليم مجاني في جميع درجاته : قانون 1958  الفصل 3"
لا شك أنّ مجانية التعليم توفر شروط الإجبارية ، و قد أدرك المشرع ،آنذاك أن الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية للمواطنين التونسيين قد تمنعهم من إرسال أبنائهم إلى المدارس ، فبادرت الدولة بتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص ، ومكنت التلاميذ المنتسبين الى أسر فقيرة و الممتازين بمواهبهم  او باجتهادهم من كل اعانة ممكنة , و لقد حدد الفصل الثالث من قانون 1958 مبدأ المجانية و مداه :" التعليم مجاني في جميع درجاته".
ترمي المجانية إلى تمكين جميع الاطفال من تكافؤ الفرص أمام التربية و التعليم و قد أدرج قانون 1991 هذا المبدأ في فصله الرابع من الباب الثاني : " تضمن الدولة مجانا لكل الذين هم في سنّ الدراسة الحق في التكوين المدرسي ، و تُوفّر لجميع  التلاميذ أكثر ما يُمْكن من الفرص المتكافئة " و كذلك قانون 2002  في فصله الرابع أيضا " تضمن الدولة حقّ التعليم مجانا بالمؤسسات التربوية  العمومية  لكلّ من هم في سنّ الدّراسة، و توفّر لجميع التلاميذ فرصا متكافئة للتمتع بهذا الحق : " (رسالة التربية الفصل 4)"   و بهذا تكون المدرسة التونسية ، على امتداد مراحلها بعد الاستقلال ، مدرسة ديمقراطية في جوهرها ، مفتوحة لجميع أطفال تونس ، دون اعتبار " للفوارق بينهم في العقائد الدينية أو الفلسفية أو السياسية".
أمّا الإجبارية ، فقد ربطها قانون 1958 بالمرحلة الابتدائية فقط، و جعلها تمتد من سن السادسة إلى سن الثانية عشرة ( الفصل الثاني) ، و تعهد بإصدار أحكام تضبط التاريخ الذي تبدأ فيه إجبارية التعليم ، بالنسبة الى جميع الأولياء ، ثم وسع قانون 1991  نطاقها في فصله السابع ، مرتقيا بها الى سن السادسة عشرة ، فارضا اياها على الاولياء ، و محددا عقوبة تسلط على كل ولي يمنع منظوره من الالتحاق بالمدرسة أو يعمد الى سحبه منها ( الامر عدد 1186 لسنة 1992 المؤرخ في 22 جوان 1992)
و تأكيدا لهذا الحق ، اشترك وزراء الداخلية و العدل و الشؤون الاجتماعية و التربية و العلوم ،سنة 1992 ، في إصدار منشور يتعلق بإجبارية التعليم الاساسي ( المنشور عدد 55/92 المؤرخ في 22 جوان 1992) لقناعتهم بأن شبكة المؤسسات التربوية أضحت تغطي كافة ربوع الوطن . ثم رسخ قانون 2002 في فصله الأول قاعدة الإجبارية من السادسة إلى السادسة عشرة و عززها بإجراءين اثنين ، يمنع أولهما السماح بانقطاع التلميذ قبل سن الساسة عشرة ( الفصل 20: يكون الانقطاع عن الدراسة قبل نهاية التعليم الاساسي استثناء) و يحجر الثاني طرد التلميذ نهائيا من جميع المؤسسات التربوية ، دون سن السادسة عشرة من عمره ألا في حالة ارتكابه خطأ فادحا لا يغفر ( لا يجوز رفت أي تلميذ  دون سن السادسة عشرة من عمره رفتا نهائيا من جميع المؤسسات التربوية إلا بمقرر صادر عن الوزير المكلف بالتربية : الفصل 20) فالمشرع التونسي لا يكتفي ،إذن ،  بالإقرار المبدئي بهذا الحق ، و إنما يدعو إلى ضمانه للجميع و تمتعهم الفعلي به.
هكذا تطور مبدأ إجبارية التعليم من مجرد فصل يخص التعليم الابتدائي في قانون 1958 إلى فصل يغطي كامل المرحلة الأساسية ذات التسع سنوات في قانون 1991 ، إلى مبدأ من المبادئ الأساسية في قانون 2002 منزلا ضمن رسالة التربية في الباب الأول من القانون و في فصله الأول : " التربية أولوية وطنية مطلقة ، و التعليم إجباري من سن السادسة إلى سن السادسة عشرة ، و هو حق أساسي مضمون لكل التونسيين..."
3.   ضمان الحق في تعليم موحد متطور
لقد حقّق الإصلاح التربوي الأول توحيد النظام التعليمي بتونس في مجالات الهيكلة التعليمية والأهداف التربوية و البرامج الدراسية بعد أن كان مشتتا تتقاسمه عدّة أنواع من النظم المتباينة في أهدافها و هيكلتها و برامجها و امتحاناتها ( تعليم زيتوني، تعليم صادقي، تعليم عمومي فرنسي، أنظمة خاصة بالجاليات الأجنبية)، ذلك أنّ ما كان سائدا من تجزئة و تنوع لا يتوافق مع متطلبات الدولة الحديثة و حاجاتها إلى توطيد الوحدة الوطنية و تكريس النظام الجمهوري. فكان من الحتم إقامة مدرسة تونسية موحدة يؤمها الأطفال دون تمييز ولا تفرقة.
أقام قانون 1958 المدرسة على أساس تحقيق مطالب الحركة الوطنية و ما ضحى من أجله التونسيون، مثل الكرامة و الحرية و العدالة الاجتماعية ، لذلك اتجهت هذه المدرسة إلى تنوير العقول و تحريرها و تكوين مواطن متجذّر في ثقافته ، متفتح على الحداثة ، مساهم في رقي بلاده . و قد تجسد هذا الاختيار في اعتماد برامج تعليمية جديدة ( برامج 1958) من خصائصها:
·       إيلاء اللغة العربية منزلة الصدارة في التدريس ، دون تنكر للغات الأجنبية ، وهو من شأنه أن يدعم الثقافة الوطنية.
·       تونسة البرامج المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية و تكوين الشخصية مثل التاريخ و الجغرافيا و التربية المدنية و التربية الاسلامية و الأدب العربي و التفكير الاسلامي و الحضارة الاسلامية مع عناية ببلاد المغرب العربي.
·       الاهتمام بالعلوم العصرية ، مثل الرياضيات و الفيزياء و الكمياء والاقتصاد و التقنية  و ضبط برامجها في ضوء مقتضيات التطور الاقتصادي و الفني. و يتجلى هذا في الشعب التعليمية المحدثة بقانون 1958 : شعبة العلوم ، شعبة الرياضيات و التقنية ، شعبة الصناعة. ( الفصول 18 و 19 و 20) .
·       التركيز على تمكين التلاميذ من مهارات تؤهلهم لممارسة نشاط مهني في مجالات الصناعة و التجارة و المحاسبة. و قد تجسم ذلك في هيكلة التعليم الإعدادي ذي الثلاث سنوات و فروعه الصناعية و التجارية ( باب التعليم الإعدادي الفصلان 10 و 11)
ظلت هذه الاختيارات حاضرة بقوة في مختلف البرامج التعليمية في سائر أطوار المنظومة التونسية ، مع تعديلات تقتضيها تقييمات البرامج السابقة . فقد دعت المبادئ العامة المنبثقة عن إصلاح 1991 إلى " تحقيق التوازن في تربية الناشئة بين مختلف مواد التدريس ، حتى تتكافأ فيها الطبيعيات و الانسانيات و التقنيات و المهارات و الأبعاد المعرفية و الأخلاقية و الوجدانية و العملية "  و ذلك في ضوء ما لوحظ لدى الخريجين من مرحلة الثمانينات خاصة من ضعف في اللغات و الانسانيات و الثقافة العامة.
كما دعت هذه الاختيارات إلى تكوين المواطن الذي يحتاجه" المجتمع االمدني المؤسساتي القائم على التلازم الأساسي بين الحرية و المسؤولية"  و المواطن " القادر على مجابهة المستقبل و مسايرة التغييرات السريعة  التي يشهدها العصر الحديث" . أمّا برامج " مدرسة الغد" فعنايتها باللغات فائقة ، سواء تعلق الامر باللغة الوطنية أو باللغات الأجنبية ، و كذلك عنايتها بالتكنولوجيات الحديثة ، لما لها من دور فعال في إرساء مجتمع المعرفة و المدرسة الذكية ، هذا إلى جانب عنايتها المتواصلة بالعلوم و التقنية.
و مهما تغيرت منهجيات إعداد البرامج التعليمية و بنائها فإن المدرسة التونسية ضمنت بانتظام برامج متطورة ، تواكب تجدد فنون المعرفة و فروعها و تأخذ بما يجدّ  من مقاربات تربوية و بيداغوجية ، و تقترب أكثر فأكثر من المعايير الدولية في هذا المجال.
4.   ضمان تجدد رسالة التربية
يعتبر تجديد رسالة  التربية أحد ثوابت السياسة التربوية بتونس ، فالإصلاحات التي تدخل على المنظومة التربوية عادة ما تقتضيها أوضاع جديدة و اختيارات حضارية و مجتمعية مخصوصة.
فقد كانت رسالة التربية ، في قانون 1958 تهدف إلى بعث الروح في الوطن و إعادة بناء الكيان الوطني و ردّ الاعتبار إلى اللغة الوطنيّة و الهوية القومية و كان من رسالة هذا القانون أيضا الإسهام في إرساء مجتمع حديث متطور سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا لذلك كانت من أهدافه المعلنة إعداد الأعوان و الفنيين المتوسطين و إطارات التسيير الفني التي يحتاجها الاقتصاد الوطني . كما يتجلى ذلك في الشعب التعليمية المحدثة ، آنذاك القصير منها ( التعليم الإعدادي بمختلف فروعه العام و الصناعي و التجاري) و المتوسط ( الثانوي العام و الاقتصادي و التقني و الترشيحي) و الطويل ( التعليم العالي الذي عهد إليه بتكوين الإطارات العليا العلمية و التقنية و غيرها اللازمة لحياة الأمّة : الفصل 20 و الفصل 25 من القانون). و مع نهاية الثمانينات ، في ضوء المستجدات التي عرفتها البلاد بتزامن مع تلك التي شهدها العالم من تحولات ، واجهت المدرسة التونسية مشاكل لم تعهدها من قبل، فبادرت بإعادة النظر في رسالتها في اتجاه تأكيد مقومات" الهوية الوطنية التونسية" و تجذرها في الانتماء الحضاري وطنيا و مغاربيا و عربيا و إسلاميا مع مواصلة التفتح على الحداثة في الحضارة الانسانية. فقد نزّل الفصل الأول من قانون  1991 النظام التربوي " في إطار الهوية الوطنية التونسية  و الانتماء الحضاري العربي الاسلامي" . و دعا  القانون في مبادئه إلى العناية بحقوق الإنسان و بث روح المواطنة ، و الحس المدني في نفوس المتعلمين، حتى ينشأوا واعين بواجباتهم و حقوقهم " في مجتمع مدني مؤسساتي يقوم على التلازم الأساسي بين الحرية و المسؤولية " ( الفصل 13) . هكذا في نظر المشرّع، يمكن للمدرسة أن تسهم في إرساء المجتمع المتطور المنشود.
أمّا قانون 2002، فقد تزامن إعداده مع تساؤل حارق عن مدى التزام الدولة التونسية مبدأ المجانية في نطاق غلبة الخوصصة على القطاع الاقتصادي و على أساس تأكيد المجموعة  الوطنية التزامها غير المشروط بتوفير المستلزمات التي تضمن حق التعلم و مجانيته، تأسست رسالة المدرسة في هذا القانون فجعلت من " التربية أولوية وطنية مطلقة"  الفصل الأول و ركزت في مقاصدها على التوجهات الآتية:
·       تنشئة التلاميذ على الوفاء لتونس و الولاء لها في إطار الهوية الوطنية و الانتماء الحضاري و التفتح على الحضارة الانسانية.
·       تكوين مواطن فاعل في مجتمع متجذر في شخصيته الحضارية و متفتح على قيم الحداثة، يستلهم مثل الإنسانية العليا في الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و حقوق الانسان.
·       إكساب المتعلمين قيم التسامح  و التضامن و الاعتدال و حب العلم و العمل.
·       ضمان تعليم جيد للجميع يتيح ثقافة عامة و معارف نظرية و علمية ، ويمكّن من تنمية مواهب المتعلمين و تطوير قدراتهم على التعلم الذاتي و الانخراط في مجتمع المعرفة ( الفصل التاسع).
هكذا تجددت رسالة المدرسة التونسية بانتظام فلكل حقبة تاريخية مشروعها التربوي و مقاصد و أغراض توافق حاجات الأفراد و المجموعة، و اختيارات تلبي متطلبات المرحلة  و تستجيب لشروط الحياة العلمية و الاقتصادية و الثقافية و التكنولوجية.
تلك هي ثوابت السياسة التربوية في بلادنا منذ الإصلاح الأول سنة 1958 : حرص دؤوب على تجديد رسالة التربية بتجدد الأطوار الحضارية ، و سعي حثيث لضمان حق تعلم جيّد للجميع، و عمل لا ينقطع لتطوير البرامج الدراسية حتى تكون مكتسبات التونسيين موافقة للمعايير العالمية.
و بالرغم من هذه الإنجازات فإن المنظومة التربوية تجابه إشكاليات و  تشكو من نقائص تعوقها في بلوغ أهدافها أكتفي في هذا المقام بتعداد ما أراه الأبرز منها. فالإشكاليات القائمة اليوم بحدة تتعلق بظاهرة الإخفاق المدرسي و الانقطاع المبكر ، و بضعف مكتسبات المتعلمين اللسانية منها و العلمية و تتعلق كذلك بالإفراط في المركزية و في ضعف الاحترافية.
    II.            في الإشكاليات المطروحة و سبل تجاوزها
يمكن أن نحصر الإشكاليات التي لا تزال قائمة في وجه المنظومة التربوية في ثلاث مجموعات : تتعلق الأولى بضعف مردود المؤسسة من جهة الكم و من جهة الكيف على حدّ السواء بينما تتصل المجموعة الثانية بالإفراط في المركزية في مجال تسيير مكونات النظام التربوي ، لغياب ثقافة المبادرة و ثقافة التقييم و المتابعة أمّا المجموعة الثالثة فترتبط بغياب الاحتراف و المهنية لدى جل القائمين على المنظومة ، تأطيرا و تسييرا و حتى تكوينا.
1.   ظاهرة الفشل المدرسي
بالرغم من أن الوزارة نجحت في تطويق ظاهرة الفشل في المرحلة الابتدائية ، فنزلت بنسبة الرسوب إلى 8.3 في المائة و بنسبة الانقطاع  إلى 0.8 في المائة فإنّ مؤشرات المرحلة الإعدادية و المرحلة الثانوية تمثل مدعاة للانشغال إذ بلغت نسبة الرسوب 18 في المائة بالإعداديات و 15.8 في المائة في التعليم الثانوي و قاربت نسبة الانقطاع 11 في المائة.
و لمجابهة هذه الظاهرة و إزالة الانقطاع بادرت الوزارة إلى اتخاذ جملة من التدابير منها :
·       الشروع في تعميم السنة التحضيرية لبلوغ 1833 قسما في القطاع العام ، ذلك أن الدراسات بينت أن الأطفال الذين يلتحقون بهذه الأقسام يكونون أقل عرضة للفشل المدرسي.
·       الاستمرار في تعزيز شبكة المدارس ذات الأولوية البالغ عدد المتأكد منها بالمرحلة الابتدائية 106 و ذلك بتخصيص ساعتين للدعم الإضافي لكل قسم ، يصرفها المدرس في التدارك و العلاج و كذلك بتعميم المطاعم المدرسية بها.

·       الشروع في تنظيم دروس اجباري الدعم و التدارك، لفائدة التلاميذ الراسبين بالسنة الرابعة من التعليم الاساسي، في ضوء نتائج الامتحان الجهوي التقييمي لتلاميذ السنة الرابعة.
·       بعث مدارس إعدادية تقنية ، في نطاق تنويع المسالك أمام التلاميذ ، بغاية احتضان ذوي المؤهلات العملية و المهارات التطبيقية قصد إعدادهم للالتحاق  بمسلك التكوين المهني أو الاندماج في الحياة النشيطة ، علما أنّ الإجراء يمثل أحد وجوه الربط بين منظومة التربية و التكوين المهني.
2.   ظاهرة ضعف مكتسبات المتعلمين
تتضافر التقييمات الداخلية و الخارجية و العالمية المقارنة على تأكيد ضعف  التلاميذ في اللغات ، مشافهة و تحريرا ، و تواضع قدراتهم على البحث عن المعلومة و على التأليف و حل المشكلات ، و يعزى ذلك إلى عوامل تتعلق بالبرامج ( غلبة المنحى الكمي التراكمي ، غلبة البعد المعرفي و النظري على التعلمات، صرامة البرمجة  و عدم قابليتها للتطويع من قبل المدرس, غياب تدريب التلاميذ على مناهج العمل) ، و عوامل تتصل بطرائق التدريس و أساليبه ( نمط التدريس لا يزال أقرب إلى تكديس المعلومات بدل تنمية كفايات و مهارات منهجية، اسلوب التدريس تلقيني عمودي في الأغلب ، رغم ظهور بوادر أسلوب تشاركي ، ضعف استخدام المساعدات البيداغوجية و التكنولوجيات الجديدة).
أمّا العوامل الأخرى فتهم التقييم ( غياب شبه كلّي للوظيفة التكوينية للتقييم، اعتماد أدوات في التقييم تقيس المراقي العرفانية الدنيا كاسترجاع المعلومات و التطبيق الألي بدل الاهتمام بقدرات التحليل و التأليف و التقييم ، اعتماد نمط من الاختبارات لا تقوم على وضعيات تدفع إلى توظيف المكتسبات و إعمال الفكر).
و لمجابهة هذه الظاهرة ، اتخذت الوزارة منذ سنوات إجراءات من شأنها أن تسهم في معالجة هذا المشكل ، منها:
·       وضع مرجعية جديدة في بناء المناهج الدراسية تقوم على تحديد مستويات معيارية مستوجبة في مختلف مجالات التعلم و على امتداد كافة المراحل التعليمية ( تعرف هذه المرجعية ببرنامج البرامج)
·       إعداد برامج تركز على القدرات و الكفايات.
·       مراجعة شبكة التعلّمات ، موادا و توقيتا، في اتجاه تعزيز مكانة اللغات ، و تطوير تدريس العلوم و التكنولوجيا و تعميم الإعلامية و توفير لائحة من المواد الاختيارية,
·       إيلاء التعلم بالمشروع عناية مخصوصة ضمن المواد الاختيارية لما يحققه من كفايات البحث عن المعلومة و انتقاءها و توظيفها.
·       إرساء برنامج للرحلات الدراسية لفائدة تلاميذ المرحلة الابتدائية
·       تركيز البرنامج الوطني لتكوين المدرسين على تطوير طرائقهم في التدريس و إيلافهم بأساليب جديدة في تقييم مكتسبات التلاميذ.
·       تكثيف أنشطة الإرشاد و التـأطير
·       التشجيع على البحث الميداني و التجديد البيداغوجي 
3.   ظاهرة الإفراط في المركزية
تتعلق هذه الظاهرة بطرائق التنظيم الإداري و المتابعة للمشاريع التربوية التجديدية و قد بينت التقييمات المجراة أنّ الإدارة المحلية ( المدارس و المعاهد ) و الجهوية لا تزال تفتقر إلى المبادرة و الاجتهاد، بل إنّها تقصر دورها في الأغلب على تنفيذ تعليمات الإدارة المركزية و تطبيق ما يرد عليها من مناشير و مذكرات، و لا تقوى على متابعة المشاريع التجديدية في مختلف المجالات,
و لتحرير المبادرة على الصعيدين المحلي و الجهوي ، أدخلت مفاهيم جديدة في القانون التوجيهي لسنة 2002 منها:
·       اعتبار المدرسة خلية أساسية في النسيج التربوي و هيكلا بيداغوجيا قائما بذاته، و بهذا جعل المشرّع من المؤسسة التربوية الإطار المادي و المعنوي الذي تتحقق داخله الأهداف التربوية الوطنية، بعد أن كان ينظر إليه كمجرد فضاء للتدريس( الفصل السادس) و كي يتحقق هذا المبدأ أقر القانون إرساء مشروع المدرسة و أقامه على قاعدة مشاركة كل الأطراف في وضعه و تنفيذه و تقييمه.
·       إحداث مجلسين استشاريين في كل مؤسسة ، أحدهما مجلس المؤسسة و الثاني المجلس البيداغوجي للمدرسين و ضبط مشمولات كل واحد منهما ( الفصلان 32 و 33)
·       تطوير الحياة المدرسية باعتبارها امتدادا طبيعيا للتعلمات و تنظيمها بالأمر  عدد 2437 لسنة 2004 مؤرخ في 19 اكتوبر2004. ( انتخاب نواب التلاميذ ، وضع خطة في الأنشطة و المشاريع ...)
·       اعتبار الجهة قطبا تربويا فاعلا منذ صدور الأمر الضابط لمشمولات الإدارات الجهوية للتربية و التكوين في 6 مارس 2007 و ستصير الجهة قادرة على إعداد مشروعها التربوي المميز لها، انطلاقا من واقعها و مؤشراتها في نطاق الأهداف الوطنية.
·       بعث مجالس استشارية للتربية و التكوين على مستوى الاقليم.
4.   ضعف الاحترافية
تشكو المنظومة التربوية و التكوينية من غياب الاحترافية لدى جلّ العاملين في المؤسسات التربوية و التكوينية ، سواء تعلق الأمر بمجال التدريس و التكوين أو بمجال  التسيير الإداري أو بمجال التأطير البيداغوجي ، فإذا استثنينا إطار التفقد البيداغوجي و إطار المرشدين في الإعلام  و التوجيه المدرسي و الجامعي اللذين يتلقيان تكوينا صناعيا ممهننا قبل مباشرة المهنة، أدركنا أن المدرسين ، عدا جزءا من الابتدائي والمديرين و أعوان التأطير لا يخضعون  لتكوين يؤهلهم لممارسة مهنتهم.
و في نطاق تحسين التكوين الأساسي و الصناعي لمختلف مهن التربية و التكوين ، أقرت الوزارة العمل بمبدأ الاحتراف و استحدثت لذلك مؤسسات مخصوصة هي معاهد مهن التربية و التكوين و أعطت الأولوية لمهنة مدرس المرحلة الابتدائية ، و أقيمت مناظرة كتابية لحاملي الشهادة العليا و سينطلق تكوين الفوج الأول في شهر فيفري 2008.
تلك هي بعض الإشكاليات المطروحة اليوم على منظومة التربية و التكوين و الإجراءات و المشاريع التي وضعت لتجاوزها . و قد تجلّى من خلال هذه التدابير المتنوعة ظهور ثوابت أخرى للسياسة التربوية ، تتمثل في الحرص الصادق على تشريك مختلف العاملين في المؤسسة التربوية  في الشأن التربوي ، مشاركة تضمن انخراطهم في مسيرة الإصلاح الدؤوب، كما تتمثل في دعم اللامركزية و تحميل  الجهات المسؤولية بالمشاركة في التصور و التخطيط و المتابعة و التقييم .
 III.            في آفاق المدرسة التونسية
لقد تحققت بالإصلاحات التربوية المتتالية مكاسب جوهرية غيرت واقع المدرسة التونسية ماديا و بيداغوجيا و أدخلتها في مسار الجودة  و اليوم، و قد اكتمل ارساء الهيكلة الجديدة للتعليم الثانوي / ووصل الفوج الأول من الدارسين في مسالكه و شعبه الجديدة إلى امتحان شهادة الباكالوريا ، فإن العناية يجب أن توجه إلى المدرسة الابتدائية و المدرسة الإعدادية التقنية و إلى تكنولوجيات الإعلام و الاتصال الجديدة.
فالمدرسة الابتدائية ، بالرغم من تحسن مؤشراتها في مجال التأطير ( فكّ الاكتظاظ ، معدل عدد التلاميذ للمدرس الواحد) و في المجال التربوي ( نسب التدرج و الارتقاء، نسب الرسوب و الانقطاع)، لا تزال تشكو من  عديد النقائص التنظيمية و التربوية، و لا يزال تلاميذها في حاجة ملحة لتكوين جيد يضمن لهم مواصلة الدراسة في المراحل الموالية دون عناء.
لذلك وجهت الوزارة العناية إلى مدرسي المرحلة الابتدائية فرفعت من الشروط العلمية لالتحاقهم بمعاهد مهن التربية و التكوين ( شهادة الباكالوريا زائد ثلاث سنوات تعليم عال بنجاح)، و من المؤمل أن تؤهل لنا معاهد مهن التربية و التكوين معلمين وفق المعايير الدولية المعمول بها علما أن الأنظمة التربوية في البلدان المتقدمة تربويا تنتدب لأطفالها مدرسين من حاملي الأستاذية غالبا. و من المؤمل أيضا أن ينعكس المستوى العلمي للمدرّس على نوعية مكتسبات المتعلمين.
أمّا المدرسة الإعدادية التقنية فتمثل مسلك نجاح للتلاميذ الذين يمتلكون مهارات تطبيقية و مؤهلات عملية و يطمحون إلى امتلاك مهارة تؤهلهم لإتقان مهنة. و ستكون هذه المدارس رابطا عضويا يصل بين منظومة التربية ومنظومة التكوين المهني و يحقق التكامل بينهما، و لا شك في أن النجاح في توسيع شبكة هذه المدارس يتوقف على إحكام عملية التوجيه و حسن توقيتها من جهة و يتوقف من جهة ثانية على ايلاف التلاميذ منذ التحاقهم بالمدرسة الابتدائية بدنيا المهارات و المهن  و التكنولوجيا. و للمدرسة التونسية تجربة مفيدة في العمل اليدوي منذ السبعينات.
أمّا المسألة الثالثة فتتعلق بالتحكم في التكنولوجيا الجديدة ، ذلك أن تكنولوجيات المعلومات تشكل اليوم خيارا استراتيجيا في مدرسة الغد ، مدرسة مجتمع المعلومات ، على أساس أن امتلاك هذه التكنولوجيات يُعدّ من أبرز سبل تأهيل الناشئة لمواجهة تحديات المستقبل ، لقد حققت الوزارة تعميم تدريس الإعلامية في المرحلة الإعدادية و المرحلة الثانوية ، و أعدت العدة لإرساء مؤهل الإعلامية و الأنترنات ، و شرعت في رقمنة محتويات البرامج التعليمية ، و أرفقت كتب المرحلة الابتدائية بأقراص ليزرية تفاعلية موجهة للتلاميذ.
هذا ، و تظلّ مسألة إدماج التكنولوجيات الجديدة في التعلّم و التدريس من المسائل المطروحة اليوم، إضافة إلى سبل توظيف التعلم عن بعد في تكوين المدرسين و تعهد معارفهم، و في مساعدة المتعلمين على التعلم الذاتي . تلك هي بعض آفاق المرحلة القادمة لمنظومتنا التربوية و التكوينية في نطاق ثوابت السياسة التربوية.

هادي بوحوش  متفقد عام للتربية - تونس - نوفمبر 2008


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire