I . في شرعية التسمية
لقد
اخترت الفسحة استهلالا للعنوان بدافع ذاتي رغبت فيه أن يكون حديثي عن الاحتراف هو
حديث المتعة رغم جديته وحديث الإقبال على شدة النزوع للتعرف إلى موقعه المهني في
لحظة استشرافية هي لحظة التفكير في ما ستكون عليه مدرسة الغد التي قرأنا من بين
ملامحها في الخطة التنفيذية أن '' تكون فضاء يطيب العيش فيه'' إلى جانب كونها فضاء
معرفة وتحصيل. الدافع الثاني للتسمية هو حضور الفسحة في الاختصاص الذي تكونت فيه
والذي أنتج نظريات فلسفية عظيمة ما زال حضورها قائما إلى اليوم ، وأقصد بذلك
الرواقية نسبة إلى أصحابها الذين ابتدعوا فلسفة قائمة على اعتبار المهمة الأساسية
للفلسفة هي الأخلاق، ودعوا في سياق ذلك إلى مواطنة عالمية وهم يتفسحون في أروقة
أثينا ، أما الأبيقورية نسبة إلى أبيقور فقد كان فضاء تفلسفهم هي حديقة البهجة.
وحبذا لو يقدر المتفقد المحترف أن يساهم في جعل مدرسة الغد فضاء بهجة للأستاذ
والتلميذ على حد السواء .
II سياق مولد مفهوم الاحتراف عالميا ووطنيا
يقتضي لفظ الاحتراف مقاربته
من جهة أنه مفهوم لأنه ينتسب إلى سياق نظري. ويمتاز هذا السياق بتعريف التربية على
أنها '' منظومة تنمو وتتطور '' وتعيش مشاكل تحتاج إلى حلول ويفرض عليها اليوم أن
تبحث في الطرائق التي من شأنها أن تُرفّع في مردوديتها وأن تستجيب لانتظارات من
أطراف متعددة اجتماعية واقتصادية وسياسية. الاحتراف إذن هو مفهوم أنشأه السياق
المعاصر الذي دخل في عملية التقييم للمؤسسات بحثا عن مردودية أفضل. وقد اقترن مع
نشأته بمفاهيم أخرى من قبيل ثقافة التقييم ومشروع المدرسة . وانخرطت السياسة
التربوية التونسية في هذا التمشي لتعلن عزمها على الاهتمام بالمدارس من هذا
المنظور العالمي الذي يأخذ في الاعتبار جودة التعليم ومردودية المؤسسة، فينظر في
النقائص ويبني استراتيجية يواجه بها مواطن الضعف على عدّة مستويات.
ونجد صدى لما ذكرنا في الخطة
التنفيذية للإصلاح التربوي التي أدرجت غياب الاحتراف في باب الإشكاليات ضمن
الأسباب التي آلت إلى ضعف مردود المؤسسة التربوية. وقد تحدثت عنه على النحو التالي
: "يتوقّف تحسين مردود النظام التربوي على توفر موارد بشرية رفيعة الأداء(
مدرّسين، إطار إشراف بيداغوجي وإداريين وقيّمين...)"، ذلك لأنّ تسيير
المؤسّسات التربوية وتنظيم شؤونها يتطلّب فضلا عن الحماس لمثل هذه المهن ، درجة
عالية من الاحتراف وهذا لا يتوفر حاليا. إذ لا يتلقّى المربّون على اختلاف أصنافهم
أيّ تكوين أساسيّ في هذا الصدد .
يتنزّل احتراف المتفقدين إذن
ضمن نظرة شمولية تربط النتائج المدرسية ونوعية التدريس بالاقتدار الذي يجب أن يكون
لدى كلّ الأطراف المساهمة في العملية التربوية .
لقد رسمت هذه الخطة مواصفات
الاحتراف بالنسبة إلى المدرّس من جهة أنها عرّفت الاحتراف كالآتي : " ويعني
الاحتراف بالنسبة إلى المدرّسين ، تمكنهم من المعرفة ومن فنون التدريس ، وقدرتهم
على بناء مشروعهم البيداغوجي وإنجازه انطلاقا من واقعهم المدرسي . والاحتراف
التخطيط وسلامة التقييم والتعامل مع وضعيات بيداغوجية متنوعة وخلق الرغبة في
التعلم لدى التلاميذ وتعديل التعلمات في ضوء عمليات التشخيص التي يقومون بها
باستمرار"[1]
لكنها سكتت تقريبا عن
الاحتراف لدى الأطراف الأخرى الفاعلة في المنظومة التربوية ما عدى تعليق بسيط ورد
كالآتي: " وفي مستوى آخر من نفس السياق، لا بدّ من وضع خطة موازية لدعم
احتراف مديري المؤسسات التربوية وإطار الإشراف البيداغوجي (متفقدين ومرشدين)
ومكوني المكونين"[2]
مفهوم الاحتراف إذن هو مفهوم
سياقي ولا بدّ لنا أن ننظر إليه من جهة علاقته بالمنظومة التي ذكرناها . فالأمر لا
يتعلق بتكوين تمثل شخصي عن الاحتراف ولا
باجتهاد ينتهي بنا إلى أوجه نظر مختلفة عن الاحتراف ودلالته. إنّ اللحظة التي تفكر
فيها في مسألة الاحتراف لتقتضي أن ننظر في مقوّماته وأبعاده ومدى قدرته على تحقيق
التوافق بين الغايات الثابتة للمدرسة وهي تربية الإنسان والوظائف المستحدثة
المركزة على الاستجابة لمتطلبات الحاجات الظرفية التي تتقاطع فيها المردودية مع
الجودة والمنافسة . ورغم أننا نتحدث عن الاحتراف من جهة أنه يهمّ مستقبل مدرستنا
فقد بدأنا نخطو في اتجاه إيجاد الاحترافية في منظومتنا التربوية عندما أرسيت دعائم
التكوين الصناعي قبل مباشرة المدرّس لمهامه المهنية وعندما يتسارع نسق التكوين
المستمرّ رغم الثغرات الموجودة فيه . وسيتدعم هذا المسار عندما بشمل هيئة التفقد
فيطبق التكوين المسبق في الصيغة الجديدة لمناظرة انتداب المتفقدين وتنظم آليات
التكوين الخصوصي في مختلف المهام التي يقوم بها أفراد هذا الإطار سواء تعلق الأمر
بالبرامج أو الامتحانات أو الكتب المدرسية أو غيرها.
III . دلالات الاحتراف ومقوّماته
بما أنّ الاحتراف مصطلح ناشئ من غير تربيتنا وبما أن
المختصّين وضعوا له تعريفات ومقوّمات، وبما أننا قبلنا الانخراط في هذا التمشي
التحديثي التربوي سأنطلق من عيّنة انتقيتها للتفكير في هذه القضية : يعرف الكاتبان
شارلوت CHARLOT و بوتياي BEAUTIER
الاحتراف من خلال تحديد مواصفات المحترف على النحو التالي: «المحترف هو
القادر على استعمال كفاياته في أي وضعية كانت، إنه إنسان المواقف القادر على التكيف والتحكم في أي وضعية جديدة . إننا
نعجب بالمحترف لقدرته الفائقة على التكيف ونجاعته وتصرفه كخبير. إنّ الاحترافية
لتنتهي بنا إلى ممارسة تقوم على أساس متين من المعارف العقلية وعلى إدماج تجارب
ناجحة حتى نحقق التكيف. السمة الثانية للمحترف أنه يستجيب للطلب أي الظرف أو
المشاكل المعقدة والمتنوعة ويتأقلم معها» وقد صاغ الكاتبان ستة معايير للمحترف هي
:
- أساس متين من المعارف
-ممارسة تأخذ بعين الاعتبار الوضعيات
- القدرة على توظيف المعارف في
الممارسات والأفعال
- استقلالية ومسؤولية ذاتية في ممارسة
الكفايات.
- تبني تمثّلاث وقيم جماعيّة تؤلّف في
مجموعها الهوية المهنية
-
الانخراط في فريق يبسط أو يؤلف استراتيجيات للرقي PROMOTION ويصوغ خطابات في التقييم وبيان المشروعية.
إن الناظر في تعريف المحترف والاحترافية والمتتبع لقائمة
المعايير التي وضعها ميدانيون في هذا المجال ليتبيّن أنها تتوفر على فضائل بعضها
معرفيّ وبعضها سلوكيّ وأخلاقيّ.
- 1 - أوّل المعايير التي وردت في قائمة المحترف هي
المعارف وقد أقدّر أن المعارف التي يحتاجها
المتفقد للقيام بمهمته والمساهمة في الرفع من مردود المؤسسة التربوية هي بالدرجة
الأولى المعارف الأساسية في مادة اختصاصه . فالاقتدار في أي وجه من وجوهه لا يكون
دون أساس معرفي ، وإقناع المنظورين ( الأساتذة) يشترط في الدرجة الأولى هذا
المقتضى الأولي والأساسي.
- 2 - ممارسة تأخذ بعين الاعتبار الوضعيات : هذه الصفة بعضها يُتعلّم وبعضها الآخر مبني في شخصية
الإنسان. فكفاية مراعاة الوضعيات تقتضي ذكاء عمليا وسرعة بديهة تهتدي بضرب من
الحدس العقلي إلى التمشي السليم. وعلى كلّ يمكن القول إنّ هذا العنصر المدرج ضمن
معايير الاحتراف ليستحثّنا على أن نتخلّى عن فكرة الحل الواحد والحقيقة الواحدة
ونستعدّ استعدادا نفسيا كي نوسّع الأفق الابستيمولوجي الذي لدينا حتى نتصرّف
بأشكال مختلفة إزاء قضية واحدة متعدّدة التجلّيات.
3- - القدرة على توظيف المعارف في الممارسات
والأفعال : إنّ هذا العنصر أو المعيار
ليدلّ على خيار قيميّ يقرن المعرفة بالنجاعة. فلا قيمة لمعرفة تبقى غير موظفة،
إنها معرفة لحل مشكل أو مجابهة صعوبة، وهذا يعني أنّ كلّ ما يطّلع عليه المتفقد من
نظريات تخصّ المجال التربويّ سواء تعلّق الأمر بالنظريات التواصلية أو النقل البيداغوجي
أو البيداغوجيا الفارقية أو المقاربات التربوية لا بدّ أن تنعكس في الممارسة وتشدّ
موقعها كموجّه للسلوك المهني للمتفقد.
- 4 - استقلالية ومسؤولية ذاتية في ممارسة كفاياته : إنّ هذه الصفة التي أعلن عن كونها ذاتية لَتلعب دورا
كبيرا في إنجاح عمل المتفقد وهي تنعكس على كل العناصر التي ذكرنا و سنذكر بها
لاحقا. فماذا يعني أن يكون المتفقد محترفا مستقلا وهو يعمل ضمن منظومة متعدّدة
المجالات والأطراف؟ وإذا كان الاحتراف خصلة مطلوبة لدى كل من يعمل في المؤسسة
التربوية بكيف يتعامل متفقد مستقل مع أستاذ مستقل و ومدير مستقل ؟ إن الاستقلالية
هي قبل كل شيء بيان حرية Manifeste
de liberté هي إعلان عن إرادة حرة
تمارس خياراتها بمعزل عن كل ضغط خارجي من شأنه أن يرغم الذوات أن تفعل ما لا ترتضي
فعله.
لقد ورد لفظ الاستقلالية مقرونا بالمسؤولية الذاتية ليكونا
معا الإطار الذي تمارس فيه كفايات المتفقد، وهي كفايات تتعدّد لتشمل مجموع المهام
المطالب القيام بها من قبل المتفقد. فإذا أخذنا على سبيل المثال إرشاد الأساتذة
وتفقدهم وجدنا أن هذه المعيارية تتطلب منا تحررا من سلطة الذوات الراغبة في تحويل
مقاصد التقويم الجزائي للتفقد بما هو أداة لتصنيف المدرسين حسب مردودهم المهني
وحسب القدرات التي يمتلكونها والمسلكية التي يتبعونها إلى اتجاه مغاير لا يجد سندا
له سوى العاطفة والوجدان اللذين يحركان المدرسين أحيانا للحصول على أعداد لا تعكس
مستواهم ولا تراعي في إسنادها معيارية قيس واضحة. الاستقلالية هي القدرة على الصمود أمام ضغط الأهواء احتراما
لأخلاقية العمل وإيمانا بجدوى الموضوعية على أنها المشترك الذي يمكن أن يجمع بين
الناس ويقدر على إقناعهم. الإنسان المستقل هو الذي يحمل فكرة واضحة عن مقتضيات
عمله، يتبعها ويعمل وفقها ويرى في ذلك قيمة لا يساوم في شأنها. إن هذه الاستقلالية
هي التي تفسح المجال أيضا لإثراء الحقل التربوي فالإنسان المستقل يعلن عن موقفه
ويدافع عن فكرته بالقدر الذي ينصت فيه إلى الآخرين ليعبروا أيضا عن قناعتهم وعن
أفكارهم.
إن الذوات المستقلة هي التي يمكن أن تدفع بحق إلى الأمام،
أما أهل التُبع فلا يمكن أن تكون لهم إضافة تذكر في مدرسة تشجع على المبادرة. إن
هذه الاستقلالية ليست مطلقة وهي بالتالي لا تعبّر عن حرية طليقة فهي استقلالية
مسؤولة، والمسؤولية فيها تتمظهر في الشعور بالأمانة التي تثقل كاهل كل من يقدّر
الدور العظيم المنتظر منه في إنجاح العمل التربوي. إنني أرى المسؤولية من زاويتين.
- الأولى هي مسؤولية إزاء المجموعة
الوطنية التي يساهم كل أفرادها في الإنفاق على التربية وينتظرون مقابل ذلك جودة في
التدريس وتقدّما يزيد من اقتدار ناشئتنا حتى
نهيّئها للمستقبل. إن هذه المسؤولية لتفرض علينا أن نلعب دور الخبير
والخبير لا يحقّ له أن يشهد بغير ما عاين. إنه يشخّص ويقيّم في ضوء معطيات
التشخيص، فإذا كانت لحظة الاختبار جزائية اقتضى الأمر أن تتطابق قيمة الجزاء مع
مستوى العطاء إن كانت لحظة الاختبار تكوينية ؟ لزم أن تنسجم آليات التدخل مع
خصوصية الوضعية. الخبير الأمين هو الذي يوظف خبرته من أجل مثل أعلى يضمن استمرار
المؤسسة ويضفي على آليات العمل التي يستعملها مصداقية.
الزاوية الثانية التي يمكن أن ننظر منها إلى المسؤولية هي زاوية الإنسانية
الكونية، فالمتفقد ذات تتعامل مع ذوات أخرى، ومقصده الأقصى من كل ما يفعل هو
التلميذ كما نصّت على ذلك القوانين التربوية المتعاقبة على البلاد التونسية. وأنا
أقول من هذه الناحية إنّ العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص التي وردت في ثنايا القانون
التربوي والخطة التنفيذية لسنة 2002 بما هي معايير قيمية يبنى عليها السلوك
التربوي، يمكن أن تُترْجم دلالة المسؤولية لأن تربية الناشئة على قيم العدل
والمساواة لا يأتي في صيغة نظرية صرفة بل إن القناعة بأهمية هذه القيم لا تكون إلا
إذا عاين المتعلم اعتماد هذه المعايير في كل الممارسات التي تخص المؤسسة التربوية، والأستاذ الذي يربي التلاميذ على هذه القيم لا يمكنه أن يسلك
ذلك المنهج معهم إلا إذا عُومل هو أيضا على هذا الأساس، وبالتالي نرى بأن تعامل الذوات المستقلة فيما
بينها لا يمكن أن يكون إلا على قاعدة الشعور بالمسؤولية وهي مسؤولية تضمن حماية
القوانين والقيم المشتركة بالحماس لها والالتزام بها. إن النفوس الحرة هي التي
يمكن أن تعطي المسؤولية بعدها الإنساني الحقيقي أما النفوس المستجدية فهي
مستعبدة تحكمها الانفعالات، وهي إما خائفة وإما طامعة وإما متجبرة وهي في كل الحالات لا تكون مستعدة لتعاون مثمر
مع غيرها، نظرا إلى الضبابية التي تحكم سلوكها.
5- - تبني تمثلات وقيم جماعية تؤلف في مجموعها
الهوية المهنية : لقد جاء هذا المعيار تاليا
للاستقلالية والمسؤولية ولعله ينبهنا إلى أن هذا المتفقد المحترف ليس عنصرا
معزولا، إنه ينتمي إلى بنية، إلى منظومة ( وهذا ما يؤكد ما ذهبت إليه في بداية
المداخلة من أن الاحتراف جاء ضمن تصور شامل للمنظومة التربوية) فالكفايات التي
وردت معرّفة بالمحترف تمثل مرجعا مهنيا مشتركا بين مجموعة من الأفراد ينتسبون إلى
نفس المهنة. وهذا يدل على أن كل شخص ينتسب إلى هيئة ما فإن سلوكه في حقيقة الأمر
لا يلزمه وحده كشخص وإنما أيضا يلزم المجموعة ككل. لهذا فإن أخلاقيات المهنة
لتقتضي أن يستحضر كل واحد منا الإطار كله عندما يقدم على عمل ما، أو يتخذ قرارا أو
يدلي بتصريح. إننا إزاء مفارقة ، فنحن من جهة أحرار ومن جهة أخرى نتحرك داخل دائرة
هوية مهنية تفرض علينا أخلاقية موحدة أو مشتركة.
ومع ذلك فلا خيار
لنا سوى أن نكون أحرارا لأن المدرسة التي ننتسب إليها تريد للإنسان أن يكون حرا
وأن يتربى حرا ومن يعتبر الحرية منطلقا ومنتهى عليه أن يكون شديدا في الدفاع عنها سواء تعلق الأمر بحريته
الفردية أو حرية منظوريه أو جميع الأعضاء الذين ينتسب إليهم . فأن أتمثل الكائن الذي أتعامل
معه على أنه حر فهذا يقتضي مني أن احترمه وأحترم حقوقه وأتفادى الإساءة إليه
وأداوم على محاسبة الذات والاستنارة بالمعرفة سواء أكانت معرفة بعلوم التواصل
وفنونه أو معرفة بكوامن الشخصية أو معرفة بحقوق الإنسان والقوانين المنظمة
للعلاقات بين الأطراف المنتسبة للعائلة التربوية حتى أضمن إتباع هذا المسار. إن
الجهد الذي يصرفه المتفقد المحترف لهو جهد في الملاءمة بين الحفاظ على الاستقلالية
بما هي حرية من جهة وبين تأكيد الانتساب إلى هوية مهنية تستدعي التعاون والمشاركة
من جهة أخرى. ولئن كان المتفقد المحترف هو إنسان
المواقف أي إنسان حل الصعوبات فليس له من مهرب سوى الوقوف عند حدود هذه
المفارقة التي يكون له شرف إيجاد التوازن بين طرفيها المتقابلين.
6- الانخراط في فريق يبسط ويؤلف استراتيجيات للرقي Promotion ويصوغ خطابات في
التقييم وفي بيان المشروعية.
إن هذه السمة التي وردت
ضمن قائمة المعايير التي حددها مختص في بيان الاحتراف لتعكس مقتضى أساسيا
هو القدرة على العمل مع الآخرين والقدرة على الإنتاج الجماعي والقدرة على بيان
وجاهة ما نفعل. فالمشروعية هي دلالة على أحقية أن نسلك هذا الخيار وليس خيارا آخر
، وأحقية أن نقيم على هذا النحو وليس على نحو آخر. الأحقية والمشروعية تفرضان
علينا إذن آداب سلوك أي إيتيقا Ethique تعترف بالآخر زميلا وتعترف به مساعدا وتؤمن بأن
دينامية الحوار تدعو البعض منا إلى الخروج من عزلتهم أو من قناعتهم الموهومة
بأن التجديد التربوي أو غيره هو من صنع
قلة نادرة موهوبة.
أخلاقية المتفقد المحترف تستلزم خيار التعاون والمشاركة
وتثمين ما يقدمه الآخر الذي يعمل معنا سواء أكان متفقدا أو أستاذا أو باحثا أو
مديرا.فإذا اقترب الأفراد من بعضهم البعض صار البحث ميسورا وصار التقدم نتيجة
منتظرة وأكيدة.
III - استخلاصات في ضوء ما ورد في تعريف المتفقد المحترف وما دلت عليه
المعايير الستة
المتفقد المحترف لا يحق له أن يعمل بصفته فردا معزولا يستوحي
قناعته وقواعد سلوكه من تجربته الذاتية أو من تجربة من سبقوه فحسب، إنه يعمل وفق
منظومة وهو مدعو إلى المعرفة وإلى توظيف صنوف المعارف للأغراض التالية :
- للتفكير في وضعيات
-للتحكم في بعض المشاكل وإيجاد الحلول
لها، بصفته عارفا، حاذقا في ميدانه أي بصفته خبيرا.
- للتكيف مع الأطراف الني يتعامل معها
نظرا لما لديه من قدرة على التفهم والتبصر.
- للاستجابة إلى منظوريه أو إلى
الأطراف التي تحتاج إلى خدماته
V جذور الاحتراف وآفاقه
إلى أي حد يمكن اعتبار الاحتراف استحداثا في مجال التفقد
بالنظر إلى المعايير التي ذكرتها ؟ هل أن المتفقد المباشر اليوم أو الأمس لا يتحلى
بهذه الفضائل :
- أليست المعارف معيارا من معايير الانتداب في مناظرة
التفقد؟
- أليست دعوة المتفقد لحل بعض المشاكل
التربوية أمرا قائما اليوم في مدارسنا؟
- أليس معترفا له بالخبرة عندما يدعى
لصناعة الامتحانات أو الكتب المدرسية أو غيرها؟
أليست الأخلاقية مستحضرة لدى معظم المتفقدين وهي المحددة
لصنوف من علاقات التعاون بين الأستاذ والمتفقد في كثير من النشاطات؟
إن المقارنة بين واقع المتفقد وما يطمح إليه الاحتراف
الإستشرافي لتبين أن الفرق بين هذا وذاك إنّما هو:
- التأسيس القانوني
- الهيكلة الإستراتيجية المؤسساتية.
- تنوع العناصر وتكاملها واندماج بعضها
مع بعض. معنى هذا أن مؤشرات الاحتراف وجدت
في ممارسة المتفقدين ماضيا وحاضرا وقد اهتدوا إليها بضرب من الحدس الخبري
والعصامية المحددة بحدود الاجتهاد الذاتي. فقد تكون وظيفة أمين المهنة الذي كان
موجودا ولا يزال في جل الأسواق ملهما للبعض بدور المتفقد الخبير ، وقد تكون
للثقافة التقليدية الداعية لحسن المعاملة مرشدا لهم لعقد علاقات طيبة مع الآخرين
لكن كل ذلك كان يحدث صدفة وبصفة فردية وقد لا يحدث لدى الكثيرين لتكون المحاسبة
والمعاقبة العنصرين اللذين يقوم عليهما التفقد. لهذا اعتبر الاحتراف استراتيجية
تريد هيكلة ما كان تلقائيا وكان تقنينه حتى يخرج من الدائرة الفردية ليعمم على الإطار.إن الاحترافية لتدعونا اليوم
أن نكون هذا وذاك. فوزارة التربية والتكوين حريصة اليوم على بناء مؤسسات مختصة
وبرمجة دورات تكوينية تتنزل ضمن إستراتيجية الاحتراف لتجعل التفكير في الممارسة
التربوية والتقييم والمقارنة والتجديد عوامل ممكنة بل وضرورية بها تتطور المنظومة
التربوية وتتقدم.
إن هذه الاستنتاجات لتستدعي تجاوز الفهم المتسرع للاحتراف
الذي يطلب الحرية المطلقة والاستقلالية التامة والابتكار اللامحدود . إن الوعي
المنظومي هو الذي يضمن إدراك الاحتراف ضمن السياق الاستشرافي المحدد برهانات
مضبوطة.
VI. الاحتراف في ميزان العقل : نظرة تقييمية.
إنّ ما وافانا به المختصون في بيان دلالة الاحتراف لا يمكن
أن يثير فينا إلا بعض الرضى لأنه ركز على كفايات هي في علاقة بقيم إنسانية ذات بعد
كوني من قبيل الحرية والمسؤولية والتواصل مع الآخر والتعاون معه ومشاركته، ومع ذلك
نكتشف بالتمحيص العقلي خطرا يتهدد الغاية التربوية الثابتة في المنظومات السابقة
وفي المنظومة الاستشرافية لمدرسة الغد ، ألا وهي غاية بناء الإنسان المرتبطة
بالنشاطات الفكرية التي لا تقاس بمعيارية الجدوى. إضافة إلى ذلك فإن عبارة الجودة
ملتبسة الدلالة وعلاقتها بالمردودية تجعل مدلولها شديد الارتباط بما هو اقتصادي
كمي . إن هذا الزوج المفهومي لينذر بتأرجح المدرسة بكافة محترفيها إلى خدمة أغراض
السوق وحاجياته إن لم نلتزم جميعا بالتشبث بالتوازن الضروري بين ما هو كمي وبين ما
هو كيفي قيمي وإنساني . فلا بد من أن نحذر من مزلق تسمية الأشياء بغير أسمائها
ومزلق السقوط في نفعية مباشرة تغيّب باسم الجدوى أبعادا قيمية إنسانية.
هذا عن الأسس الضمنية التي يمكن إثارتها في شأن الاحتراف،
أما عن مقتضيات تحقيقه في ضوء المعطيات الراهنة للتفقد فإن صعوبات وعراقيل لا بد
من التفطن إليها والعمل على إزاحتها حتى يتجسم الاحتراف جزئيا قناعة وممارسة .
أقول جزئيا لأن المعايير للاحتراف المعلنة
يرتبط بعضها بالمزاج الذي يعسر تغييره فإنه مجاهدة للنفس يقتضيها تدرب إنسان
سوداوي المزاج عبوس حتى يصبح منفتحا مبتسما؟
وإلى أي حد ينجح في ذلك؟ وكم زمن تستغرقه التدريبات النفسية حتى تحدث فيه
هذه النقلة، أم أننا ننتظر الأجيال الجديدة التي ستنتدب بمعايير جديدة ؟ هل ستراعي
سلطة الإشراف مستلزمات الزمن وتخفف وفيرة الأعمال حتى تساعد المتفقدين المباشرين
اليوم على تحقيق رهان الاحتراف؟
هل ستعيد النظر في هيكلة تقرير النشاط الشهري
وتستحدث خانة خاصة بتعهد الذات وتدعيم المعرفة وإجراء التجارب ؟ ليس هذا فحسب بل
المطلوب أيضا إعادة النظر في بنية تقرير التفقد وتصور احتمالات عديدة له يتضمن
بعضها خانات تشد الانتباه إلى قيمة المبادرة والابتكار. إن التأكيد على أهمية
التحلي باستقلالية مسؤولة ومنتجة ومهتمة بجانب نوعي رفيع من العمل ليدعو أيضا إلى
مراجعة آليات تقييم عمل المتفقد القائمة اليوم على الاحتساب الكمّي والآلي للنشاطات . إن هذه الملاحظات
لتؤكد أن الاحتراف لا يستقيم أمره إلا عندما تتجانس عناصر المنظومة التي يندرج
فيها وينتسب إليها.
خاتمة
أنهي بارتياح أشعر به عندما أقرأ كفايات متفقد المستقبل من
حيث أنها تشجع على روح التعاون وتؤكد على أهمية العلاقات الأفقية ولكن تواتر
مصطلحي الجودة والمردودية يفسد هذا الارتياح ويستثير في خشية الخوف على الإنسان أن
يتحول إلى عنصر أو رقم أو وسيلة ضمن المشاريع الاقتصادية. لهذا أوجه ندائي كي نحرص
جميعا على جعل غاية المدرسة القصوى هي تحقيق الإنسانية في الإنسان وهذا يستلزم
الضمان الدائم للتلازم بين الجودة والمردودية والقيم الإنسانية.
محمد
نجيب عبد المولى، متفقد عام للتربية.
للاطلاع على النسخة الفرنسية أضغط هنا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire