lundi 28 octobre 2019

أهمية البنية التّحتية المدرسيّة في تونس قبل الاستقلال





اختارت المدونة البيداغوجية  نشر مقال من تأليف أستاذ التاريخ المختار العياشي  حول تاريخ البنية التحتية المدرسية في بلادنا في العهد الاستعمار الفرنسي وقد صدر المقال    باللغة الفرنسية في كتابه  دراسات في التاريخ الثقافي : تاريخ التربية والحركات الشبابية في تونس- وقد تناول الباحث في هذا المقال تاريخ الشبكة التعليمية وتطورها في عهد الحماية مبرزا سياسة تهميش العنصر المحلي ( الأطفال التونسيين) الذي تم استبعاده عمدا إذ لم تتمكن سوى أقلية من الاستفادة من هذا المرفق العمومي الذي كان ممولا من الميزانية التونسية.
وقد سمح لنا الأستاذ مختار العياشي  بنشر المقال بالمدونة البيداغوجية  ومراجعة النص العربي  فشكرا له على كل ذلك .
تتقدم المدونة البيداغوجية بالشكر إلى السيد الحبيب السعدي أستاذ التاريخ والجغرافيا والمدير السابق لعدة مؤسسات تربوية الذي تفضل بتوظيب الخرائط المرافقة للمقال وقدمها في أحسن حلة .
 


الأستاذ  مختار العياشي أستاذ التاريخ بجامعة منوبة  و أبرز المختصين في تاريخ التربية والتعليم بالبلاد التونسية فقد ناقش أطروحتين في الموضوع : أطروحة المرحلة الثالثة سنة 1979 تتعلق بإصلاح 1949 واصلاح 1958 تحمل عنوان : دراسة مقارنة :
«  Etude comparative intitulée "Enseignement néo-colonial (1949-1958) et choix culturels de la Tunisie indépendante »
و اطروحة دكتوراه دولة في جوان 1997  موضوعها : « Ecoles et Société en Tunisie (1930-1958) ».
و بالإضافة  لهذين العملين أصدر الاستاذ العياشي عدة دراسات منها :
*        كتاب حول  جامع الزيتونة عنوانه " الزيتونة و الزيتونيون " 1881 - 1958
*        كتاب في تاريخ المدرسة التونسية  : "خلاصة 32 قرنا من الكتابة والمعرفة والتعليم(1101 ق.م - .2007) ، تونس: مركز النشر الجامعي، 2012، 420 ص. 
*        كتاب حول التعليم و حركة الشباب التونسي :
"Etudes d'Histoire culturelle: histoire de l'éducation et mouvements de jeunes en Tunisie".
كما تولى الأستاذ العياشي تأطير عدد من البحوث لطلبة الماجستير و شهادة الدراسات المعمقة و الدكتوراه تتعلق جلها بتاريخ التربية و التعليم بتونس.

غداة احتلال الجزائر، كان يوجد بالبلاد التّونسية عدد قليل من المؤسّسات التعليمية العصرية الابتدائية تعود بالنظر إلى هيئات خاصة (طائفيّة) إيطالية وفرنسية، تمّ تـأسيسها استجابة لحاجيّات الجاليات الأوروبية المستقرة  بالإيّالة التّونسية. وقد سبقت الجالية الإيطالية بفتح أول مدرسة ابتدائية في البلاد منذ سنة 1831، تلتها بعد ذلك بأربع سنوات (1835) مدرسة أخرى دينيّة فرنسية للبنين تمّ بعثها من قبل الأب بورجاد ( l'Abbé Bourgade ).
وبعد مرور عشر سنوات على ذلك التاريخ، فتح القس الباباوي (Mgr.Sutter) مدرستين بمدينة تونس (إحداها  للفتيات) ومدرسة ثالثة بحلق الوادي. وقبيل انتصاب نظام الحماية، إذا ما استثنينا المؤسّسات التّعليمية ذات الطابع الديني مثل الكتاتيب والزيتونة أو بعض المدارس التلمودية،  لم تكن بالبلاد سوى مؤسسة تعليمية عصرية وحيدة وهي المدرسة الصادقية التي تمّ بعثها سنة 1875 بعد غلق المدرسة الحربية بباردو (1869) والتي دام نشاطها ما يقارب عن الثلاث عقود. وقد كانت هيئة تعليمية أوروبية تؤمّن بهذه المؤسّسة، التي بعثها خير الدّين باشا، الوزير المصلح، في عهد الصادق باي، تكوينا عصريّا على النّمط الغربي إلى جانب، التعليم العربي الذي يؤمنه مدرّسون تونسيّون من جامع الزّيتونة.  وبعد مرور ثلاث سنوات على افتتاح المدرسة الصادقية، أنشأت الرابطة الإسرائيلية، بدورها، مدرسة عصرية بمدينة تونس (1878).
وإذ كانت مدرسة باردو تهدف، في السابق، إلى تكوين الإطارات العسكرية لجيش الباي، فإن المدرسة الصادقية، كان عليها (قبل الاستعمار) إعداد أبناء الطبقة الميسورة للوظائف الحرة والإدارية. وكانت المؤسّستان تهدفان إلى تلبية انتظارات السلطة التي تدرك درجة التّطور التّقني والاقتصادي لأوروبا ودورها المتنامي ومطامعها بضفتي المتوسّط. وبالتالي فقد كانت السلطة الحسينيّة تفكر في تطوير هياكل الدولة من خلال تزويدها بنخبة ذات تكوين عصري قادرة على وضع البلاد على طريق التقدم وحمايتها من الأطماع  المتنامية للقوتين المجاورتين الفرنسية والإيطالية.

وعند صدور المرسوم العلي، بتاريخ 6 ماي 1883، الذي يقضي بإنشاء إدارة التعليم العمومي في تونس، بعد عامين من انتصاب نظام الحماية، كانت البنية التّحتية المدرسية بالبلاد تتكون، بالإضافة إلى المؤسّسات التّعليمية الإسلامية ( الكتاتيب وجامع الزيتونة) والمدرسة الصادقية، من 23 مؤسسة أوربية خاصة[1] تقدم التعليم الابتدائي والابتدائي العالي وكذلك 20 مدرسة ابتدائية أخرى تابعة للبعثات الدينية المسيحية و3 مدارس تلموديية. وكانت مدرسة سان شارل هي المدرسة الوحيدة، عمليّا، التي تقدم تعليما ثانويا.[2]
 وبعد تبنيها معظم المدارس الابتدائية الخاصة الموجودة آنذاك، أو دعمها، لتصبح مؤسّسات عمومية تابعة لها، بادرت إدارة التعليم العمومي  خلال العودة المدرسية 1883-1884، إلى توسيع البنية التّحتية المدرسية بفتح مدارس ابتدائية فرنسية جديدة بالتّجمعات السكانية الرئيسية، حيث يوجد تركز للجالية الفرنسية والأوروبية.
وبصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة مثل المدرسة الصادقية أو جامع الزّيتونية، كان تعليم اللغة العربية المتوفّر في البلاد التونسية يكاد لا يذكر من ناحية الكيف.  أما من حيث الكم،  تجاوز عدد الكتاتيب بمدينة تونس وضواحيها المائة مؤسّسة، يؤمّها حوالي ألفي(2000) تلميذ، كما نجد أيضًا مئات الكتاتيب الأخرى المنتشرة في جميع أنحاء البلاد تعلم القرآن بشكل أساسي باعتماد طريقة تلقينيّة وكذلك بعض أبجديّات القراءة، والحساب وقواعد اللغة العربية.
ولم تكن، نظريّا، أي مدرسة تابعة لإدارة التعليم العمومي مخصصة  للفرنسيين أو للتّونسيين فقط، باستثناء المدرسة الصادقية ومدرسة لويز رونيه ميلّي - Louise Renée Millet  (المخصصة للفتيات المسلمات من العائلات الميسورة). ومع ذلك ، تجدر الإشارة إلى أن المدارس الفرنسية - العربية[3] ومراكز التدريب المهني للبنين كانت تضم التلاميذ التونسيين المسلمين فقط ، وأن المدارس الفرنسية لا تؤمها إلا أقلية صغيرة من الشباب التونسيين.
وقد أدى  تواجد التعليم الرسمي العصري مع نظام التعليم الوطني التقليدي، الذي حافظت على تواجده أواستمراره إدارة الحماية، إلى تجزئة أو تنويع النظام التعليمي إلى ثلاث قطاعات موازية:
-         التعليم الفرنسي (العصري)، المخصص أساسا إلى أطفال المعمرين الفرنسيين والأوروبيين[4]
-         التعليم الفرنسي-العربي (أو ثنائي اللّسان) الذي يلبي احتياجات الإدارة الاستعمارية،
-         والتعليم القرآني التقليدي، وهو قبلة أبناء الطبقات الشعبية.

كما يجب التأكيد أيضًا على أنه، في مستوى هذا التعليم التونسي التقليدي، أقدمت الإدارة الاستعمارية، بتفضيل بعض المؤسسات التي تقدم تعليما عصريّا نسبيّا، مثل الخلدونية، أو مدرسة اللغة العربية وآدابها، ودروس القانون التونسي والمدارس القرآنية العصرية.

I.                        شبكة البنية التّحتيّة المدرسية لنظام الحماية
في علاقة مباشرة مع الإمكانيات التي يمكن أن يوفرها الجهاز المدرسي الاستعماري، اتبع التعليم العمومي في تونس تطوراً في علاقة مع تقلبات السياسة الرّسميّة. فمن بين المعايير الأساسية لإنشاء المدارس العمومية هو وجود مركز استيطان استعماري و كذلك مراكز حضرية مهمة، حيث يوجد تركز للسكان الأوروبيين.[5] ولا يمكن إدراك التطور الكمي للتعليم بشكل مستقل عن البنية التحتية المدرسية نفسها  والتي يمثل التعليم الابتدائي قاعدتها.



ووفقًا للخريطة المدرسية للبلاد التونسية التي وضعها لويس ماشويل، مدير التعليم العمومي[6] في عام 1906، يتكوّن التوزيع الجغرافي لمجموع 153 مدرسة عمومية وخاصة في البلاد (باستثناء العاصمة) على النحو التالي:
- 25 مدرسة توجد بضواحي تونس العاصمة ،
- 66 مدرسة توجد بسواحل البلاد (من بنزرت إلى جربة)
- 62 مدرسة منتشرة، بشكل غير متساو في باقي المناطق.

إنّ هذا التّوزيع المدرسي الغير المتكافئ جعل هذا "الهلال الخصيب" أو المحور:  بنزرت - تستور - زغوان، على سبيل المثال، يضم 75 مدرسة، أي حوالي 50 ٪ من البنية التحتية المدرسيّة. كما أن التّباين مع الجنوب والوسط الغربي هو أيضًا كبير جدا : فكل الجنوب،  انطلاقا من محور صفاقس- قفصة، لا يعدّ سوى 18 مدرسة فقط. وينضم إليه القسم الغربي، انطلاقا من محور تستور - مكثر  ، الذي يعد  17  مؤسسة تعليمية فقط، أي ما يزيد قليلا عن 20 ٪ من المدارس، في مقابل 75 ٪ من المساحة الجمليّة للبلاد[7].

وإذا ما حظيت بعض المناطق في تونس بتفضيل نسبي أكثر من غيرها في التّوزيع الغير المتكافئ للشبكة المدرسية العمومية، فذلك يعود أساسًا إلى ثلاثة أسباب رئيسية : يتعلق الأول منها بالأهمية الاقتصادية للمنطقة والتي تتحكم في السّبب الثاني الذي هو الكثافة السكانية وخاصة السّكان الفرنسيين والأوروبيين؛ أما السّبب الثالث، الذي يفسّر عدم تكافؤ كثافة المدارس على المستوى الوطني، فيتعلق  بأهمية الحضور الجهوي لحركة التّحرير الوطنية. وهذا بدوره ما يحدد أهمية المطالب الاجتماعيّة والثقافيّة الوطنيّة. ويمكن القول، عموما، أنّ المدن والمناطق الغنية، نسبيًا، أو ذات التّمثيليّة في المطلبيّة الوطنيّة، هي الأكثر استفادة  من البنية التّحتية المدرسية من الريف والمناطق الفقيرة، التي لا تمثل أي فائدة  للاستعمار[8].

وبالتّالي، فإن "تونس الضّرورية" (La « Tunisie utile » ( التي تتكون أساسًا من جهة العاصمة ووادي مجردة والوطن القبلي ومنطقة الساحل هي التي استفادت الأكثر من البنية التحتية المدرسية. ومع توسع الاستعمار الرسمي، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تم إنشاء مزيد من المدارس في مراكز التّنمية الزّراعية الجديدة في المناطق الداخلية من البلاد،[9] إذ يحتوي كل مركز استعماري على مدرسة فرنسية بها عادة مبيت لأطفال المستوطنين المستقرين بعيدا عن مكان المؤسّسة التّعليميّة.[10]




هذه المدارس الفرنسية، الموجهة بالأساس لأطفال الجالية (الفرنسية والأوروبية)، يستفيد منها أيضًا جزء ضئيل من السكان التّونسيين، الذين يتكون أساسًا من أبناء الأعيان. ومع ذلك، فمنذ عشرينات القرن الماضي، شهدت المناطق الساحلية، بشكل خاص، تطوراً ملحوظاً في المدارس الفرنسية - العربية المخصّصة أساسا للشّباب التّونسي. لكن بشكل عام، ومقارنة بالتّطور الديموغرافي للبلاد التونسية، تميز نموّ البنية التحتية المدرسية الاستعمارية، بكل درجاتها، ببطئه  الشديد. ممّا جعل متوسّط ​​المدارس الابتدائية وغيرها من مؤسسات التعليم الابتدائي التي يتم إنشاؤها، دون العشر مؤسّسات في السّنة، وأقل من ستين فصلًا جديدًا سنويًا بين أعوام 1885 و1950.

من جانبها ، تنقسم مؤسّسات التّعليم الابتدائي الخاصة المموّلة والمراقبة من قبل إدارة التعليم العمومي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى مدارس فرنسية خاصة ومدارس قرآنية عصرية وكان الصنفان على نفس الأهمية خلال نهاية الثلاثينات ( 30 مدرسة مسيحية تضم 167 فصلا، مقابل 32 مدرسة قرآنية عصرية تعد 162 فصلا). 





نظرًا للتّمدرس الكلّي، تقريبا، للأطفال الفرنسيين والأوروبيين، ظلت شبكة المدارس الخاصة الفرنسية مستقرة نسبيًا حتى منتصف خمسينات القرن الماضي (46 مدرسة و398 فصلًا، بمتوسط ​​8.5 فصول لكل مدرسة) على عكس شبكة المدارس التّونسية (المدارس القرآنية العصرية) التي شهدت توسعا، منذ نفس هذه الفترة، لتعويض النقص الحاصل في التعليم العمومي، حيث ارتفع عددها  إلى 118 مؤسّسة (بمعدل 4.5 فصول لكل منها).

و لمزيد إدراك أهمية البناء المدرسي وتطوره، زمن الاستعمار، فمن الضروري أن نحاول توزيع المؤسّسات حسب مختلف درجات التعليم الرسمي: إن هذه المؤسّسات التّعليمية العمومية تمثل 99 ٪ من المدارس المتواجدة بالبلاد، سنة 1925، و نسبة 88.6 ٪ في عام 1950، بحيث تمثل المؤسّسات التعليمية العمومية تقريبا كل كتلة هذا البناء، إذ تشكل تسعة أعشاره. وهذا ما يدل على أن المدرسة العمومية هي، في الأساس، المدرسة الابتدائية.  فالمؤسسات الأخرى للتعليم الثانوي، أو ما بعد الثانوي، لا تمثل سوى 10 ٪ من البنية التحتية، بحيث  لا يمكن أن تشكل هرما تراتبيا  يضم مختلف درجات التّعليم.

فمع امتدادها المجالي، تتكوّن البنية التحتية التعليمية الاستعمارية، بشكل أساسي، من المدارس الابتدائية الفرنسية والمدارس الفرنسية - العربية المخصّصة للوطنين الأصليين[11]. ومع ذلك، فمن باب المقارنة، تجدر الإشارة إلى أن المدارس الفرنسية - العربية لا تمثل سنة 1926 سوى 39.4 ٪ من إجمالي المدارس الحكومية (أي 165 مدرسة من أصل 418 مدرسة قائمة). وبعد ذلك بعشرين سنة، وصلت هذه النسبة إلى مستوى 45٪. وفي سنة 1950، أي بعد مرور 70 عامًا على التّواجد الاستعماري، ظلت هذه النّسبة في حدود 59.6٪، فالتّفاوت في هذا المستوى بقي واضحا بين المواطنين التونسيّين، حيث نجد معدّل ​​مدرسة ابتدائية واحدة فقط لـكل 10.500 نسمة، بينما يستفيد الفرنسيّون بمدرسة لكل ألف ساكن. فالفرق كان، بالتالي، في حدود واحد إلى عشرة أضعاف لصالح العنصر الأجنبي.





           في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ظل الشريط الساحلي المنطقة الأكثر حضا من حيث البنية التحتية التعليمية إذ نجد 73٪ من المدارس الابتدائية العمومية (396 من أصل 507 مدرسة في البلاد) مقارنة بـ 27٪ في المناطق الداخلية من البلاد ( 138 مدرسة فقط). إن التباين بين المناطق الساحلية والبلاد "العميقة" - كما يظهر بشكل أوضح في ملحق خريطة توزيع شبكة المدارس الابتدائية العمومية - لا يفسر فقط بالأسباب الاقتصادية التي تحدد تركيز مراكز الاستعمار وأماكن إقامة الجالية الأوروبية، ولكن يفسر بشكل خاص، كما أكدنا ذلك، بالطلب الوطني القوي على التعليم في المناطق التي يكون فيها النشاط المطلبي أكثر أهمية.

هكذا تبرز ثلاث مجموعات مدرسية رئيسية:
-         منطقة تونس، التي تضم وحدها 200 مدرسة ابتدائية عمومية،
-         ومنطقة سوسة، التي تضم مائة مدرسة
-         ومنطقة الجنوب الشرقي (صفاقس، قابس) التي تضم أيضا قرابة المائة مدرسة ( أي ما يمثل 70  ٪ من إجمالي عدد المدارس الابتدائية العمومية في البلاد).

وبالتالي، فنحن أمام انتشار غير متكافئ لشبكة المدارس، عبر مختلفة مناطق البلاد أو مختلف المراقبات المدنية،  كما هو مبيّن، فيما بعد، على الخريطة الجغرافية للبلاد التونسية قبل حوالي عشر سنوات من إنهاء الاستعمار. إنها شبكة حضرية وساحلية بشكل أساسي.
                              II.         وضع التّمدرس الأساسي خلال الفترة الاستعمارية
بينما كانت أبواب المدارس الابتدائية مفتوحة على نطاق واسع في بداية كل سنة دراسية للأطفال الفرنسيين والإيطاليين واليهود التونسيين، كانت هذه المؤسّسات شبه مغلقة أمام الشباب التونسي، بسبب عدم توفر أماكن شاغرة أو بسبب تجاوز السن المسموح بها (14 عامًا). ففي جميع الأحوال، لن يكون الشبان التونسيون متساوين مع العنصر الأوروبي من حيث عدد الملتحقين بالتعليم في المدارس الابتدائية العمومية، إلا خلال منتصف الثلاثينيات (40.508 تلميذ تونسي من إجمالي 80.966)[12]، على الرغم من الوزن الديموغرافي للعنصر التونسي.

وبحلول نهاية العشرينات للقرن الماضي، تمكّن عدد التلاميذ التّونسيين في المدارس العمومية من تجاوز عتبة العشرين ألف، ووصل لأول مرة سنة 1928 إلى 30.310  وحدة.  ففي السنة الدراسية 1926-1927، على سبيل المثال، بينما كان 92٪ من الفرنسيين والأوروبيين في تونس في المدارس الابتدائية، فإن نسبة التونسيين (المسلمين) الذين التحقوا بالتعليم الابتدائي العام كان 13٪ فقط، مع عامل الفارق، يقدر بــأقل من 14.5%.  

       فإلى حدود الحرب العالمية الثانية، لن تتغير حالة التعليم الابتدائي العمومي بشكل كبير،  حين تراجع عدد التلاميذ ببعض الآلاف بسبب تضرر البنية التحتيّة. فقد كان عدد التلاميذ سنة 1944، على سبيل المثال، يتوافق مع العدد المسجل في عام 1934، أي قبل حوالي عشر سنوات، يمكننا أن نقول أن التّمدرس شهد عملياً ركودا  في تونس. فتطوّر عدد التلاميذ، إلى حدود عشية الاستقلال، كان يتراوح، بمعدل ​​سنوي، بين ألف وألفي وحدة. وبالتالي، نجد فجوة كبيرة مع المعدلات السنوية للنموّ السكاني الذي كان في حدود 30.000 وحدة، بحيث يمكن قراءة هذا الوضع على النحو التالي:

- من منتصف 1920 إلى أواخر 1930: تقدر الزيادة بــ 1.000 وحدة في السنة (من 28.000  إلى 46.000) وهو ما يعطينا نسبة  ما بين  46 ٪ و 52 ٪ من التلاميذ المسجلين في البلاد .
- في الأربعينيات، كانت الزيادة  السنوية بمعدّل 20.500 وحدة (من 46.000  إلى  71.000)، وهو ما يعادل نسبة تمدرس تساوي 63 ٪ من إجمالي التلاميذ الذين يؤمّون التعليم العمومي.
- عشية الاستقلال (النصف الأول من الخمسينيات)، بلغت الزيادة السنوية لالتحاق الأطفال التونسيين بالمدارس العمومية  12.400 وحدة (من 77.500 إلى139.000)، وهو ما يعطينا  نسبة 75٪ من الأطفال  التونسيين الذين يزاولون التعليم.

وإذا نظرنا من زاوية الاستفادة من المرفق التعليمي، فإن مؤسّسة المدرسة العمومية كانت تشتغل أساسا لفائدة  أطفال المعمرين بشكل جليّ. فمن باب المقارنة، على امتداد السنوات الثلاث التالية التي توافق تعدادات السكان خلال سنوات 1926 و1931 و1936، نجد النسب التالية لكل ألف ساكن، مقارنة لنسب التّمدرس لدى الجاليتين الرئيسيتين بالبلاد التونسية بين 1926-1936:[13]

نسبة التلاميذ الذين يؤمّون المدرسة الابتدائيّة العموميّة

السنة
السكان الأوروبيون
 (عن كل 1.000س)
السكان التونسيون
 ( عن كل 1.000س)
1926
192  تلميذ
13 تلميذ               
1933
188 تلميذ
16 تلميذ               
1936
192 تلميذ
17 تلميذ

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الجالية الفرنسية والأوروبية ليس لديها خدمات المؤسّسات العمومية فحسب، بل إنها تستفيد من خدمات المدارس الفرنسية الخاصة المدعومة، فهذه المدارس وحدها تستقبل حوالي ثلث أطفال الجالية الأوروبية. من جانب آخر، إن  نسبة تمدرس الأطفال في سن الدراسة (بين 6 و13 سنة) التي تم تقديرها من خلال تعدادات سكانية مختلفة بين عامي 1921 و 1952، كانت على النحو التالي:

الأطفال التونسيون في سن الدراسة و الأطفال الذين شملهم التمدرس بين 1921 و1952[14]
السنة
الأطفال في سن الدراسة (6 – 13)
المتمدرسون منهم بالتعليم العمومي
نسبتهم
1921
415.000
             -
          .-
1931
482.000
36.494
8.8%
1936
521.000
42.756
8.8%
1942
600.000
43.416
7.2%
1944
650.000
40.242
6.2%
1946 [15]
710.000
55.461
8.8%
1952
850.000
106.276
12.5%

إن القراءة المتأنّية لهذا الجدول تعكس تدني درجة التزام المدرسة العمومية، على الرغم من دعمها من قبل دافع الضرائب التونسي، بتعليم الشباب التونسي، و كما سبق أن أشرنا إليه، فالأمر يتعلق بـ "سوء تمدرس" تم تصحيحه بعض الشيء بفضل المجهودات التي بذلها المواطنون أنفسهم، عن طريق المؤسّسات التعليمية التّقليدية، مثل الكتاب والزيتونة وفروعها العديدة أو المؤسسات الخاصة، مثل المدارس القرآنية العصريّة.

وبالفعل، إذا ما اعتبرنا مختلف درجات التعليم، في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، كانت إدارة التعليم العمومي تستقطب 75.1 ٪ من مجموع  التلاميذ التّونسيين، مقابل 18.1٪ لمؤسّسات التعليم الخاص أوالمدعومة (المموّلة)، بما في ذلك المدارس القرآنية العصرية على وجه الخصوص، و6.7 ٪ لجامع الزّيتونة. أما على مستوى التعليم الابتدائي العمومي، فإن إدارة التعليم تؤمّن تدريس حوالي 79 ٪ من إجمالي تلاميذ هذا المستوى المدرسي، مقابل 21 ٪ للتعليم الخاص أو المدعوم.

خاتمة
على مستوى شبكة المدارس الأساسية في تونس قبل الاستقلال، فإن المناطق الأكثر حرمانًا من انتشار خدمات التّعليم العمومي هي، من ناحية، المناطق التي يكون فيها السكن مشتتا  (غالبًا ما تكون التجمعات القروية بها نادرة)، ومن ناحية أخرى، الجهات التي لم تجد اهتمام الاستعمار أو المعمرين الأوروبيين[16]. فعلى سبيل المثال، في قيادة  سوسة،  التي  تضم العديد من المراكز الحضرية والقروية - وحيث توجد للحركة الوطنية أسس مهمّة - يذهب 60٪ من أطفالها إلى المدارس عشية الخمسينيات، مقارنة بـ 8٪ فقط في قيادة السواسي المجاورة[17].

عموما، إن العامل الديموغرافي هو الذي يفسر، بشكل عام، ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس في جميع المناطق التي تتميز بتركز حضري أو قروي هام، مقارنة بالمعدلات المسجلة  بالمناطق التي يكون سكانها غير مستقرين إلى حد ما. إن هذا التّباين في التّوزيع الجغرافي للمدرسة والتّمدرس، والذي خصصت لدراسته أطروحة دكتورا دولة[18]، يقابل بين قسم "تونس المفيدة أو الضروريّة" التي تتكون من الساحل وقسم آخر لتونس الداخل، التي لم تستأثر باهتمام الاستعمار (مثل تاجروين، أولاد عون، أولاد عيار، تالة، سبيطلة، السواسى، القيروان، الفحص أو جلاص، قفصة  ومجال الهمامة).

عموما، يبدو أن العامل السياسي قد لعب دورا هو أيضا، في بعض الحالات، لصالح تعليم المواطنين في بعض المناطق "الطرفية" ((périphériques، إذ أن التأثير السّياسي لبعض الأعيان البارزين (خاصة المستشارين منهم) كان حاسما لفتح بعض المدارس في المناطق الريفية التي تتمتع "بحماية"ورعاية  تلك الشخصيات.

مختار العياشي باحث وأستاذ جامعي
نقل إلى العربية : المنجي العكروت متفقد عام للتربية وابراهيم بن عتقيق ، أستاذ مميز مراجعة الترجمة المختار العياشي.
تونس ، سبتمبر 2019.



[1] حسب ل. أرنولاي - لم يتجاوز عدد التلاميذ المسلمين الذين كانوا يؤمّون المدارس الأوربية - عند بداية الاحتلال- سبعة تلاميذ. أنظر أرنولاي لويس ، الانتشار الثقافي بالبلاد التونسية قبل انتصاب الحماية ورد في « المجلة الافريقية »، الجزء 98 (1954)، عدد 438-439 ،صفحات 140-182
[2] لمزيد من التفاصيل حول الجغرافية المدرسية إلى قبيل الحرب العالمية الأولى ، أنظر التوفيق بشروش .-  التعليم المشترك وجغرافية التمدرس الابتدائي بالبلاد التونسية (1883-1909) . « الكراسات التونسية»، عدد 133-134 ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية .1985.ص ص.71-112.
[3]  المدارس الفرنسية - العربية التي أسستها إدارة التعليم العمومي على نمط المدارس العربية الفرنسية الجزائرية بمقتضى أمر 14 جويلية 1850 هي مدارس رسمية موجهة بالأساس للتونسيين وحيث يخصص للغة العربية ثلث  التوقيت
 (9ساعات  أسبوعيا من جملة 30 ساعة ) وحيث  يسمح تعليم اللغة الفرنسية (حسب نفس برامج المعمول بها بالمدارس الفرنسية) للتلاميذ  بالمشاركة في امتحان شهادة  التعليم الابتدائي ومناظرة الدخول للسنة السادسة . وتخصص المدارس الفرنسية - العربية الريفية ما بين ساعتين أو ثلاث في الأسبوع للتدريب الفلاحي . للمدارس العربية الغرنسية الجزائرية راجع إيفات توران .- المواجهات الثقافية بالجزائر المستعمرة :  المدارس والطب والدين (1830-1880) .- باريز: فرانسوا ماسبورو،1971،434 ص.
[4]  انفتحت شيئا فشيئا المدارس الفرنسية أمام الأطفال التونسيين اليهود و أبناء العائلات الإسلامية المرفهة.
[5]  في سنة 1892 على سبيل المثال كانت توجد 73 مدرسة عمومية تعود بالنظر لإدارة التعليم العمومي موزعة على 44 تجمع سكاني . أنظر توفيق بشروش ، التعليم المشترك والجغرافية المدرسية... ذكر سابقا.ص .86.
[6]  لويس ماشوال. التعليم العمومي بالبلاد التونسية (1983-1906). - تونس : المطبعة السريعة،1906، أنظر خاصة الملاحق.
[7]  إن هذا التمييز المجالي سيشهد بعض التعديل  مع تنامي المطلبية الصادرة عن الحركة الوطنية خاصة بالمناطق التي تتواجد بها الحركة بكثافة.
[8]  بعد عشرية من تأسيس إدارة التعليم العمومي  تشكلت ملامح الشبكة المدرسية ، فالكثافة المرتفعة توجد بالقسم الساحلي  الممتد من سوسة إلى صفاقس ( 29÷ من المدارس) ثم تأتي مدينة تونس بــ 26÷ من المدارس العمومية فالشمال الغربي (7÷)  والوطن القبلي (4÷) والوسط (2÷) وأخيرا الجنوب الغربي (1÷)  أي 5/4 بين بنزرت وصفاقس. نفس المصدر .ص.87.
[9]   انظر . إدارة التعليم العمومي .- انجاز فرنسا المدرسي بالبلاد التونسية : 1883-1930.- تونس : مطبعة ف.بارتود.1931، 217 صفحة ، ص ص 19 و20.
[10]  هذه المبيتات منها مبيت أريانة الأهم كانت تأوي في بداية العشرينات 686 مقيما وفي بداية الثلاثينات كانت توجد 18 مبيتا موزعة بين عين دراهم وباجة   وسوسة وصفاقس  وغيرها...انظر تقرير حول وضع التعليم الابتدائي بالمملكة  مؤرخ في شهر أكتوبر 1932 ، 3 صفحات مرقونة .أرشيف وزارة التربية(موارد متحف التربية).
[11]  تجدر الإشارة لوجود صنف ثالث من المدارس الابتدائية ( رغم قلة انشارها) وهي « المدارس - مراكز بريد» التي بعثت على إثر اتفاق بين إدارة التعليم العمومي ومصلحة البريد حبث يضطلع المعلم بدور قابض البريد . ويبدو أن هذه الصيغة  قد ساعدت  على إحداث مدارس بالمراكز التي  كان « يقدر بأن إدخال تعليم اللغة الفرنسية سابق لأوانه لأن استعمالها من قبل الأهالي كان يبدو غير مفيدا في ذلك الوقت» انظر محضر الندوة الاستشارية ، سنة 1907، ص.573 ، ورد في مختار العياشي، مدارس ومجتمع (1930-1958) ، تونس: مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية:2003، ص.461.
ط
[12]  انظر الإحصائيات العامة للبلاد التونسية و بداية من 1940 الإحصاء البلاد التونسية.
[13]  الإحصائيات العامة للبلاد التونسية  وسكان البلاد التونسية.- ذكر سابقا  
[14]  محمود السكلاني .- السكان التونسيون- مرجع سبق  ذكره.
[15]  حسب تعدادات يمثل الأطفال التونسيين دون 14 سنة 42.1% من السكان سنة 1946.
[16]  حسب إحصاء 1946 مثلا  كان هناك 120 مدرسة موجهة لأبناء المعمرين  أساسا وكانت تشتغل بقسم أو قسمين فقط خارج المناطق البلدية والتجمعات التي تعد أكثر من 25 عائلة.
[17]  أدارة التعليم العمومي: .- الاسبوع البيداغوجي لشهر أفريل 1949 ( نشرية) ، تونس : المطبعة الرسمية ، 1994. أنظر مداخلة جون بونساي، أستاذ بالمدرسة الصادقية.
[18]  منجي بوسنينة .- التنمية المدرسية والتباين الاقليمي بالبلاد التونسية : دراسة جغرافية مدرسية. دكتورا في الأداب، باريز1، السربون.1983،3أجزاء، 590 ص.مرقونة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire