هادي بوحوش |
هذا
الأسبوع ، تفسح المدونة البيداغوجية المجال للسيد إبراهيم بن صالح متفقد عام
للتربية مرة أخرى وذلك بنشر نص مداخلة قدّمها سنة 2006 بالشارقة ( الإمارات
العربية المتحدة) في ندوة نظمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة
والعلوم[1]
و المنظمة الألكسو والمنظمة
الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الإيسيسكو[2] وقد شارك الأستاذ بن صالح في الندوة كممثل لوزارة التربية ونظرا للقيمة التاريخية لهذه المداخلة أردنا أن نقدمها لقراء المدونة . فشكرا للسيد إبراهيم
بن صالح على السماح لنا بذلك وعلى مساهماته في إثراء المدونة.
أقسام العمل
باب نظري : مقدمة ـــ مهام لجنة برنامج البرامج ـــ مهام
لجان مجالات التعلم ـــ مهام لجان
البرامج المختصة
باب فني إجرائي :
مقدمة
في مفهوم البرنامج ـــ تقنيات بناء البرامج ـــ تمشيات التصديق على البرامج ـــ من العوامل
المتدخلة في بناء البرامج ـــ الموارد المادية والبيداغوجية ـــ أنواع التقييم وأشكاله ـــ التوجيه المدرسي ـــ أصناف التعلمات : الأساسية والاختيارية
ملاحق.) غير مدرجة بهذا التقرير)
مقدمة
لا نظن أحدا يجادل اليوم في أن التربية تضطلع بالدور
المركزي في صنع الإنسان وبناء المجتمع، بل صار في عداد البديهي " أن قيمة الإنسان هي حصاد معارفه
وأن حضارة المجتمع هي المحصلة الجامعة لمعارف أبنائه التي وهبتها إياهم التربية ".
ولقد صدقت هذه الرؤية على الشعب التونسي
صدقا لا مراء فيه لأنه شعب آمن بالتربية وراهن عليها قيما تطلب لذاتها ولمنافعها
للناس فجعل السعي إليها يتنزل منزلة الواجب المقدس ، أفليس الشعب التونسي من أمّة
كان أول أوامر ربها إليها أن" اقرأ باسم ربك الذي خلق" صدق الله العظيم.
لقد أدرك الشعب التونسي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى
اليوم أن إشكالية التخلف وتحديد مكوناتها والعمل على إيجاد الحلول لها لا يكون إلا
بالجمع بين مطلبين متظافرين هما مطلبا العلم والحرية (حمادي بن جاءبالله) . لذلك
بمجرد حصول تونس على استقلالها في 20 مارس 1956 بادرت سلطة الإشراف إلى إصدار
قانون تربوي تونسي خالص في الرابع من نوفمبر من سنة ثمان وخمسين وتسع مائة وألف
(1958) بنيت على أساسه برامج اعتمدت في تكوين أجيال من المتعلمين على ثلاثة عقود
أو يزيد.
لقد استجابت مدرسة نوفمبر 1958 لمطامح الشعب التونسي
الذي ضحى من أجل الاستقلال بأنفس ما لديه فعمّ التعليم حتى صار أفضل سبيل للارتقاء
الاجتماعي وتحسين ظروف العيش وشروط الرخاء واتسعت فسحة الأمل وعقدت الأسرة
التونسية مستقبل أبنائها بهذه المؤسسة الجديدة.
ونتيجة لما اختارته مدرسة نوفمبر 1958من توجهات وبرامج
توصلت إلى تقديم الكثير لهذه البلاد فخرّجت من الكفاءات البشرية ما ساعد على تحقيق خطوات محترمة على درب التقدم
الاجتماعي والثقافي والاقتصادي كما خرّجت نخبة من العلماء والمفكرين جعلوا صوت
تونس المعرفي يسمع في الكثير من بلاد الدنيا قاصيها ودانيها.
غير أن مسيرة هذه المدرسة أصابها بعض الإرهاق لأكثر من
سبب بعد ما ينيف على ثلاثين سنة من العطاء الثري والإنتاج الغزير الأمر الذي
استوجب مراجعتها والاستدراك على نقائصها بواسطة خطط وتوجهات تربوية تنموية
وتنويرية جسمتها المبادئ العامة لثاني قانون تربوي تونسي في دولة الاستقلال
والصادر في التاسع والعشرين من جويلية من سنة 1991.
لقد أرادت مدرسة جويلية 1991 لنفسها أن تكون مدرسة الكيف
والتنوير بعد مدرسة الكم والتحرير ، أرادت لنفسها أن تكون الموضع الذي تقوم فيه
الحيرة والتساؤل كي تحصل في ذات المتعلم نقلة من نمط من الوجود إلى نمط آخر يتحرر
فيه من الوثوقية ومن النسبي يؤخذ مأخذ المطلق فتتسع حدقة فهمه وتنضج واعيته وتصفو
بصيرته بما يؤهله ليكون إطارا كفءا جيدا الجودة التي تحقق توازن الذات المفردة
وتلبي حاجيات الجماعة الواسعة.
وتوجهت مدرسة جويلية 1991 نحو الكيف بالرغم من سن قانون إجبارية
التعليم إلى السن السادسة عشرة وحرص الدولة على الرفع من نسبة التمدرس ومضاعفة
جهودها في نشر البناءات المدرسية وتقريبها من المتعلمين ،فكانت برامجها على غاية
من الكثافة والدسامة والشمولية وإحكام البناء ما حسّن في مردودية المدرسة من
الناحية النوعية خاصة غير أن النقلة إلى القانون الجديد تزامنت مع أسرع تحول عرفه الإنسان
وأعمق ما وقع في تاريخ البشرية ، وظهر من تبعات هذه النقلة حصاد علمي وتكنولوجي
ومعرفي وبخاصة في مجال الاتصال والمعلوماتية لم يعرفه الإنسان من قبل ولم يقدره
على نحو ما يحصل في حياته.
لقد كشفت "صدمة المستقبل" للأنظمة
التربوية في العالم وليس في تونس وحدها
عدم تلاؤمها مع المستقبل وبعدها عن مجاراة نسقه ، لقد درجنا على أن المدرسة هي
التي تصنع قيم المجتمع وتهيئ الأجيال للتكيف معه وتعدّ الناشئة لتلبية حاجياته ،
أما اليوم فقد أفاقت هذه المدرسة مهزوزة بسبب التغيرات المذهلة التي دعتها إلى
إعادة النظر في مهامها وأهدافها لكي تبقى على قيد الحياة.
إن بقاء المدرسة على قيد الحياة معلّق بقدرتها على
التكيف مع المتغيرات التي تحفّ بها ومعقود بطريقتها في الاستجابة للمقتضيات
الجديدة حاضرا ومستقبلا لذلك صار شرعيا طرح أسئلة من قبيل : ماذا نعلم؟ وكيف نعلم؟
لكي نجعل الأجيال القادمة تتكيف مع الواقع الجديد.
إن التطور المعرفي والمطامح الجديدة ذات الطبيعة الاجتماعية
والوجدانية والشخصية اقتضت من سلط الإشراف في تونس دعوة أهل الذكر إلى مراجعة
محتويات البرامج وطرائق العمل التي سنها قانون 29 جويلية 1991 فكان ميلاد ثالث
قانون تربوي تونسي في الثالث والعشرين من جويلية من سنة اثنتين وألفين (2002) وعلى
أساسه بنيت برامج جديدة وفق تمشيات تشرح مفصلة في التقرير التالي.
مراحل بناء البرامج التربوية بتونس ( وفق قانون 23
جويلية 2002 )
لبناء البرامج التربوية الجديدة التأمت لجان متعددة
ومتنوعة المهام لتشخص الوضع القائم وتقيّمه وتستحضر السياقات المختلفة التي يجري
فيها بناء البرامج وتقترح تصورات مرجعية لبنائها ومن أهم هذه اللجان نذكر لجنة
برنامج البرامج ولجنة برامج المجالات التعلمية ولجان البرامج المختصة واللجان
الاستشارية وغيرها.
لجنة برنامج البرامج
هي لجنة تضم ممثلين عن وزارات مختلفة ومن اختصاصات
متنوعة تضم أطرافا اجتماعية تمثل المجتمع بمختلف مكوناته ومهمة لجنة برنامج
البرامج وضع وثيقة مرجعية عامة تستند إليها مختلف اللجان المختصة وتهتدي بتوجهاتها
الكبرى و بالمعايير التي سطرتها لتكون البرامج المدرسية في مختلف الاختصاصات
منسجمة مع بعضها وترمي إلى الغائيات التربوية
التي جاء بها القانون التربوي. وقد وضعت هذه اللجنة هذه الوثيقة وهي متكونة
من أربعة أبواب:
الباب الأول: دواعي تجديد البرامج
عددت فيه اللجنة دواعي تجديد البرامج وحللتها فانتهت إلى
أن منها ما يتصل بمحتوى التكوين ومنها ما يتعلق بطرائق التكوين ومنها ما يعود إلى
الأطراف المتدخلة في عملية التكوين.
من الدواعي المتصلة بمحتوى التكوين( التشخيص)
بينت التقييمات الداخلية والتقييمات الخارجية التي اعتمدت
في مراجعة البرامج وإعادة بنائها أن برامج 1991(وما احتفظ به من البرامج السابقة)
كانت تشكو بعض النقائص نذكر منها دون
ترتيب أو تصنيف:
* قدامة بعض
المحتويات المسطرة في برامج درست على مدى عقود دون تغيير أو تعديل وإن كنا لا
ننكر قيمتها العلمية وفضلها في تكوين أجيال عديدة صارت من الإطارات العلمية
والإدارية التي أسهمت في تقدم البلاد أشواطا بعيدة فإن بعض مفرداتها أضحى لا يعبّر
عن حاجيات المتعلمين اليوم، بل لا يتماشى و التطور الذي دخل على المعارف والعلوم
بأنواعها لذلك وجب التدخل من أجل بناء برامج تعليمية جديدة.
*عدم تطابق بين ما
تقدمه المدرسة من التعلّمات وما ينتظره التلاميذ منها الأمر الذي خلق عند المتعلمين نوعا من
النفور من المدرسة وارتفاعا في نسب الرسوب والانقطاع المدرسي لذلك أضحى ضروريا
تركيز مناهج تعليمية مغايرة.
*الغفلة عن تطور تكنولوجيا المعرفة في تحولها من مجرد أداة فنية إلى مصدر من
مصادر المعرفة.
* الاتجاه نحو الكمّ في بناء البرامج .ففي تاريخ
سابق ومع أوّل قانون تربوي بتونس خاصة (4نوفمبر1958) كان المطلوب إلى المشرعين
بناء برامج تنحو منحى كمّيا الغاية منه تخريج إطارات متوسطة وفي سنوات قليلة تلبيّة
لحاجة المجتمع الذي استقل حديثا ووجد فراغا في عدة ميادين حيوية أمّا اليوم فإن
الكثير من هذه الحاجيات قد وقع سدّها وأضحى السقف المعرفي عاليا وما فتئ يزداد
ارتفاعا لأنّ أنواع العمل لم تفتأ تتطور وتتطلب قدرات وكفايات ذات جودة عالية، ومن
ثمّ وجب تطوير المناهج في اتجاه تحقيق الكيف، وصار يطلب إلى المدرسة أن تقدم
منتوجا أكثر جودة.
* تطور منظومة القيم
وعدم
اشتمال البرامج للبعض منها الأمر الذي اضطر المشرّعين إلى تطوير هذه المناهج من أجل تضمين هذه القيم الجديدة بها.
*حاجة البرامج إلى بعض التصحيحات إذ أن تطور المعارف والعلوم ودخول
تصويبات على عدة منظومات معرفية سواء في العلوم الدقيقة أو في العلوم الإنسانية
صار يحتم هذا الإجراء.
*نقص بعض التعلّمات
في بعض البرامج كالفيزياء والكيمياء في التعليم الإعدادي.
*فساد بعض الطرائق
التعليمية التي
تمنع التلميذ التونسي من استثمار مكتسباته وتوظيفها في حل المشكلات الجديدة.
* عدم التجانس بين المتعلمين في القسم الواحد أو
المدرسة الواحدة وذلك راجع إلى الزيادة الكبيرة في عدد التلاميذ نتيجة سن
قانون إجبارية التعليم، الأمر الذي اضطر المشرعين إلى إعادة النظر في المقاربات البيداغوجية
المتوخاة.
* ضعف التلاميذ في اللغات وفي التعبير الشفوي والتعبير
الكتابي
الأمر الذي حتّم الزيادة في عدد ساعات تدريس اللغات وهو إجراء اقتضى تغيير البرامج
القائمة وبناء برامج جديدة.
*طغيان المعارف العامة والنظرية على حساب المعارف
المنهجية والتطبيقية.
من الدواعي المتصلة بطرائق التكوين
وبعد هذا التشخيص الموجز والسريع - وهو في الحق خلاصة
دراسات علمية وميدانية ونقاشات طويلة وشاقة جدا -اهتمت اللجنة رأسا بأسس المقاربة
البيداغوجية التي بنيت عليها البرامج السابقة من حيث النظرة إلى المعرفة وطرائق
مقاربتها ومن حيث النظرة إلى التلميذ وإلى المدرّس، فقيّمتها ووقفت على
إيجابياتها،وهي كثيرة، وعلى سلبياتها وهي كثيرة أيضا ولاحظت ما يلي:
1- أن للمدرسة
السلوكية أثرا عميقا في بناء برامج 1991 إذ صيغت هذه البرامج وفق أهداف عامة
وأهداف مميزة وأهداف فرعية ومحتويات وتوجيهات بيداغوجية ورأـت أن المقاربة
بالأهداف جعلت المشرعين يبنون برامج بناء رشيدا قوامه التركيز على المعارف وعلى إقدار
المعلمين على إكسابها للمتعلمين بقدرات متنوعة وعلى قيس درجة اكتساب هذه المعارف
بالنظر إلى المدخلات والمخرجات واحتساب نسبة الهدر في هذه العملية، فهي من هذه
الناحية منهج بيداغوجي جيّد يساعد كثيرا على التخطيط المتعلق للبرامج ويراعي
التدرج في تعلمات التلاميذ ويحمل المدرسين على تنظيم أنشطتهم وفق أهداف مميزة
وبحسب تقسيم زمني دقيق يبتعد بالعملية التربوية عن كل ارتجال ويوفر قاعدة متينة
للتقييم.
2- أن المدرّس في
هذه المقاربة معلّم مجتهد يعدّ نفسه المصدر الوحيد للمعرفة أو يكاد فيسعى جهده إلى
الإتيان على كامل مفردات البرامج في الزمن المخصص لذلك بقطع النظر عن التفاوت الذي
قد يحصل بين المتعلمين ودون أخذ بعين الاعتبار زمن التعلم لأن الأمرين عنده سيان
أي زمن التعليم وزمن التعلم وأن التلميذ متقبّل سلبي، صفحة بيضاء يخطّ عليها
المدرس ما يشاء وكأن المتعلم خلو من كل معرفة أو تجربة في الحياة.
3-أن هذه المقاربة تركز على المحتوى المعرفي دون
الاهتمام بطرائق تبليغ المعرفة مقاربة تنزع بالتعلمات إلى الموسوعية والشمول، وهو
ما حصل لدينا في برامج جويلية 1991 فقد جاءت كثيفة جدا تنحو منحى موسوعيا ينزع إلى
استيفاء كل المعارف. ولئن وفرت هذه البرامج ثقافة مدرسية ثرية ومتنوعة فإن المعارف
ظلت مجزأة فيها لا تنشغل إلا بما هو جزئي ولم تسهم في تكوين فكر تأليفي قادر على
إدماج المكتسبات من أجل حلّ المشكلات التي تطرأ جديدة. لقد كرست المقاربة بالأهداف
ثقافة الاسترجاع والاستذكار وقصر التعلم على مدى استحضار المحفوظ أو قيس نسبة
الهدر بين المعروض من المعارف وما يتم رده بمناسبة تقييم أعمال التلاميذ، فلاحظنا
أن تلاميذنا يفتقرون إلى القدرة على إعادة توظيف مكتسباتهم لا في الحياة العامة
فقط وإنما حتى في السياق المدرسي أي من مادة دراسية إلى مادة دراسية أخرى لضعف
القدرة على التأليف والإدماج.
لقد أحسسنا بالحاجة إلى تربية النشء تربية جديدة تقوم
على تدريبهم على المبادرة والاستقلالية في التعلم والتعويل على الذات وعلى البحث
والاستنباط وعلى اصطناع المشاريع وهو ما لم يكن متاحا مع المقاربة السلوكية أدركنا
الحاجة إلى تربية جديدة تتوخي فيها بيداغوجيا حية نشيطة مغرية بالتعلم والمتابعة
تقوم العلاقة فيها بين المعلم والمتعلم على مبدأ المرافقة بديلا عن مبدأ المواجهة
والتدرب على البحث عن الحلول البديلة بدل القناعة بالحلول الجاهزة المعروضة.
لهذا اخترنا المقاربة البنائية مقاربة تسند المقاربة
الأولى ولا تغنينا عنها ومن أسس هذه المقاربة إدماج المعارف من جهة المحتويات
التكوينية واعتبار التلميذ محور العملية التربوية من جهة بناء التعلمات والمعارف.
إن المقاربة البنائية في التعليم كما أردناها هي التي
تدعو خاصة إلى تمكين المتعلمين من أدوار يضطلعون بها انطلاقا من معارفهم القديمة
لبناء معارف جديدة، بعبارة أخرى يركز التوجه البنائي على دور المتعلم في اكتساب
المعارف واصطناع منهج يتبعه لتملكها.وقد يستدعي هذا المنهج استحضار المعارف
المكتسبة وقد يستدعي حتى السياق الاجتماعي الذي تنجز فيه التعلمات (البنائية الاجتماعية)
إذ يرى البعض أن بناء المعرفة وإن تم بصفة فردية وداخلية فذلك لا يعني الغفلة عن
العوامل الاجتماعية التي سمحت ببناء تلك المعرفة ، فالمعرفي والاجتماعي مظهران لا
ينفصلان في بناء الفكر وباختصار نقول إن الذي أغرانا في تونس بهذه المقاربة
التعليمية هو أنها لا تختزل التعلم - مثل المقاربة بالأهداف- في عملية التركيم
المعرفي بل تذهب إلى اعتماد معارف المتعلم وما رسخ في بناه الذهنية من ثقافة
متنوعة ثم العمل على دعم الصائب منها وهدم
ما هو خاطئ وتعويضه بما هو صحيح فتنتج عن ذاك معارف أكثر صوابا وجودة، على أن يتم هذا
بواسطة وضعيات تعليمية دالة وعن طريق عقبات تعليمية تحفز المتعلم وتدعوه إلى
استنفار معارفه المكتسبة.
إن استحضار المعارف المكتسبة المختلفة لحل مشكلات طارئة
هو معنى الإدماج أي إسقاط الحواجز بين معرفة وأخرى أو بين اختصاص وآخر أو بين مادة
تعليمية وأخرى . إن أكبر عقبة في بناء
الفكر النقدي والفكر ألتأليفي والتفكير المنهجي هي تقديم المعرفة للمتعلمين مجزأة ،
متقطعة مفصولة بعضها عن البعض دونما رابط
يربطها ببعضها حتى لكأن الفكر
البشري أدراج كل درج يحوي وحده صنفا من أصناف المعرفة.
من الدواعي المتصلة بالأطراف التربوية
المعنى في التعلم
* أبرز الأطراف في العملية التربوية المعلم والمتعلم فقد
درجنا في مقاربة 1991 مثلما أشرنا آنفا على اعتبار المدرس مصدر المعرفة الوحيد تقريبا
وعلى اعتبار التلميذ عجينة يشكلها المدرس على النحو الذي
يشاء أو صفحة بيضاء يخط عليها ما يراه مفيدا والرابط الوحيد بين الطرفين هو
المعرفة المصوغة في أهداف إجرائية يرسمها
المدرس لنفسه أو للمتعلم أما نوع العلاقة بين الطرفين فهي علاقة عمودية علاقة
الآمر بالمأمور أو صاحب النفوذ بالمنفذ للأوامر.
لم نشأ أن تتواصل العلاقة بين المدرس والتلميذ على هذا
النحو لأن التلقين طريقة عقيمة في تقديم المعارف ولأن المعرفة لم يعد لها مصدر
واحد ولأن المعارف التي تبقى في ذهن المتعلم وتنتقش في نفسه هي التي يسهم هو بنفسه
في بنائها حتى تضحى ملكا له.
إن العلاقة الأفقية بين المعلم والمتعلم هي العلاقة
الأنجع لأنها تحقق تواصلا أمتن وأكثر مرونة وتجعل من المدرس عنصر مساعدة على حل
المشكلات وليس هو من يمسك بالحلول وبمفاتيح المشاكل إنها بيداغوحية المرافقة عوضا
عن بيداغوجية المواجهة ، بيداغوجيا التواصل عوضا عن بيداغوجيا المحاسبة والتصادم.
إن المتعلم -في ضوء المقاربة البنائية - لا يستطيع
فعليا أن يتمثل ما يقدم له من تعلمات أو
يساهم في بنائها إلا إذا كان لهذه التعلمات معنى ، فهو الذي يسمح له بامتلاك
المعرفة بإدماجها في معارفه السابقة . إن
إدماج هذه المعارف في المعارف القديمة هو واحد من أهم أهداف المدرسة
والمسؤولية في عملية الإدماج تعود إلى كل من المدرس والتلميذ فالمدرس هو المسؤول
عن توفير الظروف المساعدة على إدماج المعارف
وإعطاء معنى للتعلمات والتلميذ مسؤول عن توظيف مكتسباته في وضعيات مشكلية
جديدة.إن هذا التقاسم في المسؤولية هو الذي يحمّل التلميذ عبء جزء من عملية
التعلم وبهذا يكون هناك معنى للعقد التعليمي. فالعقد التعليمي إن نوقش ففي هذا
المستوى من المسؤولية المسندة إلى كل طرف. بعبارة أخرى هناك تقاسم أعباء من جهة أن
المدرس يطلب إليه توضيح المهام التي يروم تكليف التلميذ بإنجازها ومن جهة
أن التلميذ يطلب إليه أن يكتشف ما
يطلب منه الأستاذ اكتشافه . التوضيح من جهة الأستاذ والاكتشاف من جهة التلميذ
هاتان ركيزتان من ركائز العقد التعليمي ، غير أن الركيزة الأولى هي التي ينبغي أن
تحظى بالأهمية الأكبر لأن على الأستاذ أن يوفر أكثر ما يمكن من الوسائل لحل
المشاكل المقترحة.
كنا ننظر إلى المدرس من الزاوية التـيـ تعتبره المصدر الوحيد للمعرفة ،ــ
وتعتبر كل المعارف الخارجة عنه معارف غير ذات بال ولا قيمة لها ،ــ وأن على المتعلم أن يتخلى عنها وأن
يستبدلها بمعارف مدرسية ،ــ وأن الصورة المثلى التي تحتذى هي صورة المعلم ، لذلك
كان التلميذ مدعوا باستمرار إلى الاحتذاء والاقتداء فيقدم الأخلاقي على المعرفي.
أما اليوم فإن لم نتخلّ عن هذه النظرة فقد أصبحنا ننظر
إلى المدرسة على أنها بمعارفها ومحيطها والعلاقات التي تبنى فيها رافد من بين
الروافد التي تكون التجربة الشخصية للمتعلم.فالعلاقة التي يعقدها المتعلم بالمواد المدرسية
كالرياضيات واللغات والفلسفة ليست علاقة بمعارف مدرسية وحسب إنما هي معارف نظرية ينبغي
أن تتحول إلى معارف عملية وإلا فقدت معناها وجدواها.
فما لم يشعر المتعلم بالحاجة إلى محتويات البرامج
المدرسية في حياته العملية وما لم يشعر بأن منهج تفكيره يشكو خللا في وضعية ما وأن
ما يحصله من المدرسة يساعده على تدارك هذا الخلل ، وما لم يشعر بالحاجة إلى دمج
المعارف المدرسية في تجربته فيجعلها معارف عملية مطبقة في الواقع ستظل المعارف
المدرسية دون قيمة لديه ولا تكون من المعارف القابلة للاستمرار في الحياة.
بعبارة أخرى إن التعلم لا يتحقق بنجاح إلا إذا ظهرت حاجة
تجبر المتعلم على التعلم أي عندما تخونه المعارف القديمة في حلّ بعض المشكلات
فيلجأ إذاك إلى تجريب طرائق أخرى فيبنيها بنفسه، إن ما لا يسيطر عليه الإنسان هو
الذي يحمله على التعلم وعلى تغيير طرائقه باستمرار في كسب المعرفة وإدراك الأشياء
وتنظيم تصرفاته في المجتمع وفي العالم.
إن المعرفة بهذا المعنى ليست إلا بناء من إنتاج طرف أو
عدة أطراف ، والإنسان الذي يبني معرفته ، لا مصلحة له من بنائها إلا في حدود ما
يواجهه من مشاكل وما تفيده به هذه المعرفة في حلها وقد لا تكون بعض المعارف
المدرسية من هذا النوع فيسأمها المتعلم أو ينفر منها وتكون نتائجه فيها ضعيفة.
والخلاصة في هذا الباب أن المتعلم لا يشغله تمثل المواد
المدرسية ومعارفها وإنما الذي يهمه منها هو مدى مساهمتها في تنظيم التجربة الشاملة
التي يخوضها في الحياة من أجل بناء الذات ويناء العلاقة بالآخرين.
الاحتراف في التدريس
هذا من جهة المتعلم وقيمة معنى التعلم لديه أما من جهة
المدرس فإن المنظومة التربوية الجديدة ترى
المدرس المنشود هو المدرس المحترف الذي لا يأخذ التدريس على أنه عمل تقني يؤديه
بطريقة آلية وباعتماد توجيهات بيداغوجية أو وثائق منهجية وإنما يأخذه كذلك على أنّه
مبادرات فردية تدل على قدرة المدرس على تحمل المسؤولية في ما يمارس واتخاذ القرار
المناسب بصفة حرة لمعالجة وضع مستجد وإدخال التنويعات البيداغوجية الضرورية بحسب
حاجيات المتعلمين.
المدرس
المحترف هو في تقدير التشريعات التربوية الجديدة المدرس المستقل بنفسه صاحب وجهة
النظر في التكوين والمجتهد في بناء وضعيات التعلم القادر على مراجعة طرائقه باستمرار من أجل
الاستجابة لحاجيات التلاميذ الحقيقية. هو ذلك المدرس الذي يحسن تقييم الأوضاع
التربوية ويحسن استنباط الحلول للمشاكل والصعوبات التي تعترضه أو تعترض المتعلمين.إنه
المدرس الذي لا يأخذ وظيفته على أنها ترويض المتعلمين على نمط معين من السلوك أو
بسط السيطرة عليهم ونشر النفوذ بينهم بل يأخدها على أنها تدريب على كيفية التفكير
في مواضيع الحياة باعتبارهم ذواتا إنسانية حرة ينزعون إلى أن يكونوا أسياد أنفسهم
لهم أفكارهم الخاصة بهم ولهم رؤاهم الخاصة للأشياء وللعالم.يأخد وظيفته على أنّها
استنباط دائم لأوضاع تعليمية تسمح باكتشاف قدرات المتعلمين ومهاراتهم مما لم يكن
معروفا بعيدا عن ذلك التواصل الرتيب الجاف الذي يسود اليوم.
هذا
هو المعيار الأول في بناء البرامج الجديدة وهو معيار وإن كان ظاهره بيداغوجيا
تعليميا فإنّه في جوهره يذهب إلى ما هو إنساني لعلّ أسمى تجلياته "وعي الذات
بنفسها متعالية على كل شيء لأنها أساس التصورات على اختلاف طبيعتها وتنوع
موضوعاتها ولأنها أساس القيم،كل القيم،
" على حد تعبير الدكتور حمادي بن جاء بالله أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية.
انتهى الجزء الأول - يتبع
إبراهيم بن صالح متفقد عام للتربية
الشارقة - الإمارات العربية المتحدة - 17/19 سبتمبر 2006
للاطلاع على النسخة الفرنسية _ أضغط هنا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire