lundi 16 janvier 2017

من ذاكرة التربية : حصاد لجان البحوث التربوي : الإنشاء العربيّ بالمرحلة الأولى من التعليم الثانويّ: القضايا وسبُل حلّها



تصدير
عاشت المدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة، في السّنوات الأولى التي عقبت إصلاح 1958، فترة حبْلى بالأنشطة البيداغوجيّة. فكانت بذلك فترة بحث و "تفكير وتأمّل واستنباط"، في السّبل المُهيّئة لإنجاح تونسة المدرسة على مستوى الممارسة الميدانيّة.[1] وقد دعا كاتب الدولة للتربية القوميّة، آنذاك، الأستاذ محمود المسعدي، إلى " تشكيل لجان للبحوث التربويّة... الغرضُ من تأسيسها[2] ... هو ربط صلة قارّة بين أساتذة المعهد الواحد أو المعاهد المختلفة، وتمكينهم من البحث والتفكير معا في المسائل البيداغوجيّة العامّة، أو الخاصّة بالموادّ التي يدرّسونها"...

وقد أرادها محمود المسعدي " فرصة للأستاذ لإعمال ملكته النقديّة، والتمحيص لقيمة الطرق البيداغوجيّة المعروضة على بساط البحث، أو المستعمَلة فعلا، واقتراح التعديلات أو التنقيحات التي يرى من المستحسن أو من الضَّروريّ إدخالها عليها. وهي كذلك فرصة سانحة لكلّ أستاذ تمكّنه من التنظير بين تجربته وآرائه الشّخصيّة وتجارب زملائه وآرائهم، كما هي باعث قويّ على توحيد الجهود وتنسيقها. وهي، علاوة على ذلك كلّه، مناسبة للتفاعل الفكريّ الزاخر بكلّ ما للشّخصيات المختلفة من خاصّيات وفوارق تعود بالنفع على الجميع. وبفضل ذلك، يحُلّ عند كلّ أستاذ محلًّ الانفراد والعزلة المهنيّة الشّعورُ بذلك التضامن الفكريّ والأدبيّ، وليد الأعمال الجماعيّة والتفكير المشترك الذي تستمدّ منه مهنة المربّي روحَها النبيلة."[3]   
وقد اخترنا، هذا الأسبوع، أن نقدّم لمتابعي المدوّنة البيداغوجيّة نموذجا من نتائج نشاط لجنة من تلك اللجان التي اشتغلت على تمرين الإنشاء العربيّة بالمرحلة الأولى من التعليم الثانويّ، وتناولت مسألة اختيار الموضوع من حيث محتواه وشكله، ثمّ مسألة تقييم (إصلاح) عمل التلاميذ ومكانة كلّ من التفكير والتعبير. وفي القسم الثالث، تمّت دراسة مسألة إرجاع الأوراق للتلاميذ.
وفيما يلي نصّ التقرير كما ورد بالنشرة التربويّة للتعليم الإعداديّ والثانويّ، عدد 14 -أفريل 1963[4].

"التمرين الإنشائيّ بالنّسبة لشعبة "ب[5] " من المرحلة الأولى من التعليم الثانويّ
وقع الاتّفاق على أن تكون المحاضرة بطريقة المناقشة الجماعيّة، لا بطريقة الإلقاء من طرف أحد الأساتذة، تلي ذلك مناقشة عامّة في الموضوع.
‌أ.    اختيار الموضوع
ابتدأ النقاشَ الأستاذُ خلف الله بإلقاء ّالسّؤال التالي: هل يقع اختيار الموضوع من صميم النّصوص المفسَّرة، أم هل يكون من محور تلك النصوص فقط، ومتمّما لها؟
يرى الأساتذة ابن عمُّو والصغيّر والهاشمي أنّ حصر الموضوع فيما وقع درسه بالنّصوص يحدّد حرية التلميذ، ولا يمكّنه من التدرّج في الإبداع. غير أنّ هذا يمكّنه من التعبير الصّحيح، بفضل ما استوعبه من مفردات لغويّة من تلك النّصوص. أمّا إذا كان الموضوع تابعا لمحور الاهتمام، فإنّ ذلك يمكّن التلميذ من طرْق الموضوع بحرّية متّسعة، ومن الوصول أحيانا إلى الإبداع، بفضل خياله الفيّاض. لكنّ ربَّما عاقه التعبير، إذ أنّ دائرة تفكيره قد اتّسعت ولغتَه ما زالت محدودة. ولذا، فقد اتّفق الجميع على أن يقع اختيار الموضوع الإنشائيّ من محور اهتمام النصوص المفسَّرة، وأن يكون له، في آن واحد، مساس متين بتلك النّصوص.
ثمّ ألقى الأستاذ العماري السّؤال التالي: هل تكون عناصر الموضوع مضبوطة به، أم هل يكون الموضوع عامّا، ولا يقع ضبط عناصره إلّا عند تحليله بمشاركة التلاميذ؟
 يرى الأستاذ الصغيّر أنّ الأحسن أن يكون عامّا ومتَّسعا، وذلك لترك الحرّية للتلميذ في تحليله بنفسه وطَرْقه، ومثال ذلك:" وصف جولة على شاطئ البحر." ويرى الأستاذ خلف الله والأستاذ العماري والأستاذ ابن عمّو والأستاذ الهاشمي والأستاذة حرم الأسود أنّ الأفيَد أن تكون العناصر واضحة بنفس الموضوع، مثال ذلك:
'' ذهب أحد قاصدي بيت الله الحرام إلى إحدى وكالات الأسفار لحجز مقعد فخيّره الوكيل بين السفر برّا أو بحرا أو جوّا. احتار الرجل في أمره وأخذ يفكّر في أحسن وسيلة للسّفر. فما خالج بالَ هذا الرجل؟ وعلى ما استقرّ رأيه؟''
 وبالآخر، فقد اتّفق الجميع على أن يوحي الموضوع دائما بعناصره، وذلك بقطع النظر عن توضيحها بمشاركة التلاميذ.
وبالآخر، طُرح هذا السّؤال على بساط البحث: كيف يكون طرْق الموضوع؟ أو بالأحرى، ما هو صميم التحرير وعناصره؟
يرى الجميع أن لا بدَّ من مقدّمة، ومن عناصر لجوهر الموضوع، ومن خاتمة له. ويرى الأستاذ خلف الله أنّه يجب تحريض التلاميذ على اتّقاء المقدّمات العامّة التي تصلح لكلّ موضوع. ويرى الأستاذ الهاشمي أنّ أحسن مقدّمة هي ما كانت أكثر إيجازا. أمّا فيما يخصّ جوهر الموضوع، فإنّ الأستاذ خلف الله يرى أنّه يجب تدريب التلاميذ على الربط الحقيقيّ، المعنويّ واللفظيّ، وهو أمر صعب عليهم في البداية. أمّا الخاتمة فلا يجب أن تكون خلاصة للموضوع فقط، وإنّما يجب أن تكون حلّا طبيعيّا لمشاكل الموضوع، أو تفتح آفاقا واسعة يكون الموضوع نقطة انطلاقا لها.
‌ب.             إصلاح الموضوع بالمنزل
على أيّ أساس يبني الأستاذ إصلاحه؟ هذا ما طرحه على بساط البحث الأستاذ الصَّكْلي. فكان جواب الجميع الموافقة على أن يُراعى الاعتباران التاليان: أوّلا التفكير، وهو تحليل الموضوع إلى عناصر، وشرحه شرحا مفصّلا ومُلمّا بجميع نواحيه. وثانيا التعبير من حيث متانة اللغة وحسن تراكيب الجمل واحترام قواعد النّحو والصّرف في ذلك، ولذا، فإنّه يلاحظ للتلميذ، زيادة على أغلاطه، على الأفكار المصيبة التي أتى بها وعلى تعابيره الحسنة، ويكون ذلك في طُرَّة التمرين وفي الملاحظة العامّة.

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، هل يقع إصلاح الغلطات من طرف الأستاذ نفسه، أم يقع تسطيرها مع التنبيه عليها في طرَّة التمرين؟ يرى الأستاذ الصّكلي أنّ الطريقة المثلى هي الثانية، إذ تُمكّن التلاميذَ من إصلاح أغلاطهم بأنفسهم ومن الانتباه إلى القواعد اللغويّة والنّحويّة والصّرفيّة. وذكر الأستاذ ابن عمّو أنّ هذه الطريقة صعبة جدّا، وخصوصا في السّنة الأولى. ولذا يرى أنْ لا يوكل إلى التلميذ إلّا إصلاح الأغلاط التي وقعت دراسةُ قواعدها من قبل. أمّا الأخرى فلا يمكن أن يكون إصلاحُها موكولا إليهم، حيث إنّهم عاجزون عن ذلك. ولذا، وقع الاتّفاق على أن يكون الأمرُ، في ذلك، موكولا إلى اجتهاد الأستاذ.

وفي الآخر، على أيّ قاعدة يقع إسناد العدد؟
يرى الأستاذ ابن عمّو أن يُرسم للتلميذ عددان: عدد للتفكير وعدد للتعبير. ويرى الأستاذ الصكلي أن يعطى عددٌ للتحرير باعتباره خاليا من الأغلاط، ثمّ يقع خصم عدد من ذلك للأغلاط، ويرى أنّ هذا التفكيك للعدد أفْيَد إذ أنّه يحرّض التلاميذ على الاعتناء التامّ بالتحرير. ولا يرى الباقون رأيَهما، إذ يجب، في نظرهم، إسنادُ عدد واحد للتمرين باعتبار وحدة التفكير والتعبير، والملاحظة العامّة كافية لتوضيح قيمة الناحيتين. ويرى الأستاذ الهاشمي أنْ تعطى الأولوية للتعبير في السّنة الأولى، وللتفكير في السّنة الثالثة، مع اعتبار المساواة بينهما في السّنة الثانية.
‌ج.     إرجاع الموضوع
ماذا يعتبر في الملاحظة العامّة المسندة للتمرين؟
إنّ الملاحظة العامّة يجب أن تكون خلاصة للملاحظات الجزئيّة الموجودة بطرَّة التمرين. كما يجب أن تبيّن بوضوح الخلل بالنّسبة للمعنى العامّ، وبالنّسبة للتعبير، وأن تنصّ كذلك على النواحي الحسنة منه. أمّا أسلوب الإصلاح الجماعيّ فترى السيّدة المديرة أن تكتب على السبّورة الجملةُ الفاسدة التركيب مثلا، ثمّ يقع إصلاحها بمشاركة التلاميذ، وكذلك بالنّسبة إلى الأغلاط الأخرى. ويقع إرجاع التحارير إلى أصحابها وإصلاحها الفرديّ بالفصل، تحت مراقبة الأستاذ."
الأستاذ المقرّر: المنجي الهاشمي
 
التعليق على التقرير
1.حول المسائل المطروحة للنقاش
تناولت لجنة سوسة بالدّرس مسائل ما فتئت تُطرح على الأجيال المتعاقبة من مدرّسي اللغة العربيّة، كلّما مارسوا تمرين الإنشاء. وهي تتعلّق، أوّلا، بتَصَوُّرهم لصلة هذا النّشاط التعليميّ بالبرنامج المقرّر لمادّة القراءة المفسَّرة أو ما يسمّى شرح النصوص: فهل يكون الموضوع الإنشائيّ متعلّقا بالنّصوص التي شُرحت في القسم في نطاق محور مّا، أم يكون متّصلا بالمحور أساسا، بقطع النّظر عن النّصوص المفسَّرة؟ وهي تهُمّ، ثانيا، التمشّيَ المنهجيّ المتوخَّى في طرْح الموضوع الإنشائيّ: فهل يطرح على التلامذة موضوعٌ عامّ، مقتضَبُ الصّياغة، أم ينبغي أن تتضمّن صياغةُ النصّ الإنشائيّ معطيات تشير إلى محطّات كبرى أو عناصرَ رئيسيّة يقوم عليها التحرير، ويهتدي بها المتعلّمُ في تخطيطه لجوهر الموضوع وفي تحريره؟ ثمّ إنّها تتّصل، ثالثا، بجانب إجرائيّ عمليّ، وجهُه الأوّلُ معاييرُ الإصلاح، وما ينبغي أن نغلّب عند تقدير العدد، المبْنى أم المعنى، التعبير أمْ المضمون، الشّكل العامّ والبناء الداخليّ أمْ المحتوى والأفكار ووجاهة الرأي؟ ووجهُه الثاني يعالج التقنية الكفيلة بتقويم الأخطاء الفرديّة، وتصحيح الأخطاء الجماعيّة الشّائعة في تحارير التلامذة. أمّا وجهُه الثالث فينصَبُّ على وظيفة الملاحظة العامّة التي يُدوّنها المدرّس على مطلع التحرير الإنشائيّ، وكيفية صياغتها، والعلاقة بينها وبين العدد الإجماليّ المسند إلى التحرير.
2.      حول الإجابات المقدَّمة
نعتقد أن الإجابات المعروضة تعكس، لا شكَّ، الممارسة الفعليّة لمدرّسي العربيّة، آنذاك، في جهة سوسة، وهي ممارسة نرجّح أنّها نابعة من خبرة المدرّسين واجتهادهم، ولا نحسَبها تختلف عن ممارسة سائر المدرّسين للنشاط الإنشائيّ. هذا بصرف النظر عمّا تضمّنته التّوجيهات الرسميّة من توصيات وتنبيهات.[6]
§     في خصوص المسألة الأولى، اتّفق أعضاء اللجنة على ضرورة أن يتّصل الموضوع الإنشائيّ، في آن مَعًا، بمحور القراءة المفسّرة وبرصيد النّصوص المشروحة بالقسم، فوَفَّقوا بين التوجّهيْن القائمين: أوّلهما الدّاعي إلى التقيّد بالمحور أساسا، ما يعني أنّ النّصوص المنتقاة، من بين ما هو مطروح بالكتاب المدرسيّ، والمشروحة بالقسم، لا تمثّل سوى وجْه من المحور، وأنّ على المتعلّم أن يغني بمجهوده الشّخصيّ ما درس، لتكملَ لديه صورة المحور في أبعاده المختلفة. والتوجّهُ الثاني القاضي بقصْر الموضوع الإنشائيّ على رصيد النّصوص المفسّرة، ما يعني أنّ المتعلّم مدعوّ إلى توظيف ما تعلّم بالفصل، وغير مطالب ضرورة بالتوسّع. فالتوجّهان يعكسان تصوّريْن مختلفين لوظيفة التدريس، أحدهما نفعيّ آنيّ، ضيّق الأفق شيئا مّا، والثاني تأهيليّ، مُطوّر للقدرات، ويفتح الأفق شاسعا في وجوه المتعلّمين...
§      أمّا في المسألة الثانية فلئنْ اتّفق المشاركون على ضرورة أن يوحيَ الموضوع الإنشائيّ بعناصره وتصْميمه، ممّا يحصر اهتمام التلامذة في دائرة محدّدة، فيجنّبهم الوقوع في العيْب الشّائع والمتمثّل فيما يُسمّى "الخروج عن الموضوع،" والتوسّع فيما لا طائلة منه، فإنّهم اكتفَوْا بإقرار القالب العامّ الخارجيّ للبناء الإنشائيّ بأقسامه الثلاثة الكبرى: مقدّمة، جوهر، خاتمة، ولم يتطرّقوا إلى مسألة منهجيّة رئيسيّة تهمّ التخطيط لجوهر الموضوع الإنشائيّ، وكيفية بناء مختلف مكوّناته ومقاطعه، وهذا هو الجانب الذي كثيرا ما يتعثّر فيه التلامذةُ، جرّاء قلّة دربتهم على المنهجية. كما يتعثّرون في الصّياغة لأنّ العمل الإنشائيّ التحريريّ يقتضي بناءً وتأليفا.
§     وحول المسألة الثالثة لم يختلف أعضاء اللجنة في مسألة اعتماد معياريْ المعنى والمبنى، معًا، لتقييم الأعمال الإنشائيّة وتقديرها، لكنّهم عمليّا لم يتّفقوا على كيفية تطبيق ذلك: فبعضُهم يدعو إلى تغليب المبنى في مستوى تعليميّ مّا، وبعضُهم يرى أن يُغلّب المعنى في درجة تعليميّة أخرى، بينما يذهب آخرون إلى اعتماد المعياريْن معا، في مستوى تعليميّ ثالث. غير أنّنا لا ندري ما الدّاعي إلى مراعاة معيار مّا في مستوى تعليميّ مّا، أكثر من مراعاة المعيار الآخر.
§     أمّا في خصوص المسائل المتعلّقة بالجوانب الإجرائيّة لنقد التحارير الإنشائيّة حضوريّا، وتقويم الأخطاء المنهجيّة واللغويّة المشتركة، وإصلاح الأخطاء الفرديّة، فقد تمّ الاكتفاءُ باستعراض التقنيات الممكنة، وبيان نجاعتها أو صعوباتها، دون إقرار توجّه مّا يَسير على هدْيه المدرّسون، خلال الحصّة المخصّصة لإصلاح التمرين الإنشائيّ وإرجاع التحارير إلى أصحابها.
 وخلاصة القول إنّ هذا التقريرُ يمثّل، بما تضمّنه من تساؤلات وتصوّرات ومقترحات، خطوةً أولى في الاتّجاه الرامي إلى تقريب وجهات نظر مدرّسي العربيّة في مسألة التمرين الإنشائيّ، وهو ما كان يطمح إليه محمود المسعدي.
3.في مسألة التمرين الانشائيّ
إنّ التمرين الإنشائيّ، بشهادة الجميع، تمرين صعب، بما أنّه يقتضي، في آن واحد، توظيف قدرات متنوّعة: لسانيّة ومنهجيّة وفكريّة، فالبرامجُ الرّسميّة للغة العربيّة[7] اعتبرته " خلاصة تعليم العربية، وغاية الجهد المبذول فيه، إذ به يتّضح ما بلغه التلميذ من قدرة على التحليل وعلى التنسيق وعلى التعبير الواضح الفصيح عن المعاني المتناسقة الهادفة إلى غاية مضبوطة"؟ ص 21.
وأغلب الظنّ أنّ الصّعوبة الأولى التي تعترض المتعلّمين تتأتّى من أنّ الإنشاء يقتضي قدرات متنوّعة متعدّدة: قدرة على التخطيط والتصميم، بعد تفكيك الموضوع، وقدرة على البناء والتأليف، وقدرة على حسن الصّياغة، في حين يدرَّب التلميذُ، خلال حصص القراءة المفسَّرة للنصوص، على التفكيك والتحليل والعناية بالجزئيات والدقائق فقط. لذلك نلاحظ أنّ التلامذة يتعثّرون في الجانب المنهجيّ للعمل الإنشائيّ، كما يتعثّرون في جانب الصياغة والتحرير. ولا شكّ في أنّ ذلك يعزى إلى قلّة دربتهم على هذه الأبعاد الرئيسيّة، فلا حصص القراءة المفسّرة ولا حصص اللغة وقواعدها تنمّي فيهم هذه القدرات المركّبة.
أمّا الصّعوبة الأخرى فتتأتّى من المدخل المعتمد في وضع برامج القراءة المفسّرة بالمرحلة الأولى من التعليم الثانويّ: إنّه المدخل القائم على محاور الاهتمام، في حين تعتمد برامج المرحلة الثانية مداخل أخرى كالأجناس الأدبيّة وعصور الأدب... لقد أقرّت البرامجُ الرّسميّة للغة العربيّة هذا المدخلَ، دون تعريف المحور وبيان طبيعته وحدوده. "فهل يعالج المحورُ مسألة مضمونيّة بالأساس، أمْ يطرح مسألة فكريّة، أم يطرق إشكاليةً ذاتَ بُعديْن: أحدهما مضمونيّ وثانيهما منهجيّ وفكريّ؟ المرجَّح أنّ واضعي البرامج الأولى كانوا يفكّرون في اللغة[8] والمحتوى المعرفيّ أكثر من تفكيرهم في الأنماط والأجناس الأدبيّة التي ترد عليها النّصوص المنتقاة للتعبير عن محور الاهتمام. ولعلّ هذا ما يفسّر إقرار المشاركين في الندوة للبناء الشكليّ الخارجيّ للعمل الإنشائيّ، دون ربط ذلك بأيّ نمط من أنماط النصوص.
 وعلى الرّغم من انعقاد هذه النّدوات وتبادل وجهات النظر بين المدرّسين، فإنّنا نُرجّح أنّ ممارسة المدرّسين للتمرين الإنشائيّ العربيّ لم تتحسّن خلال الستينات، تدلّ على ذلك التوجّهات البيداغوجيّة التي ضُمّنتْ بالتوجيهات الرّسميّة لمادة الإنشاء العربيّ بالبرامج الرّسميّة لتعليم المرحلة الثانية، الخاصّة بمادة العربيّة، الصّادرة سنة 1969.
وقد مثّلت هذه التوجّهات تطويرا لتعلّمية مادة الإنشاء العربيّ، يتجلّى ذلك في:
§       تقْنين صلة نشاط الإنشاء بمحاور القراءة المفسَّرَة، فقد جاء بالتوجيهات: " وينبغي أن تكون المواضيعُ التي يكلّف التلاميذ بطرْقها في الدّرجة الأولى: " مُسْتوْحاةً من محاور النّصوص بدون أن تكون مجرّدَ محاكاة لهذه النّصوص، ولا باعثة التلميذَ على تلخيصها أو نقْل بعض فقراتها أو جملها." ص21/ 22[9]
§       اعتماد حصص تدريب في الأشهر الثلاثة الأولى من السّنة الأولى قصد " تمرين التلامذة على تحرير فقرات في مواضيع تتّصل بمحاور الاهتمام، يشترط أن تتضمّن جملة من الأبنية اللغويّة. ص 23، " كما يروّضهُم الأستاذ، بداية من الثلاثية الثانية، على تحرير مقدّمات وخواتم موجزة. ص 25
§       بلورة الجانب الإجرائيّ متمثّلا في ضبط مراحل حصّة الإصلاح والإرجاع وشبكة من الرّموز يعتمدها المصحّح عند تقويم التحارير بالبيت، وتقنيات إصلاح الأخطاء المشتركة والفرديّة. ص29
 أمّا التطوير الثاني لتعلّمية الإنشاء العربيّ فتمثّل في تعميم حصّة التدريب على الإنشاء على المستويات الثلاثة للمرحلة الأولى من التعليم الثانويّ، وجعلها حصّة شهريّة من حصص دورية الإنشاء، ما يُعَدّ اهتماما بالجانب المنهجيّ لهذا النشاط، والذي ظلّ التلامذة يتعثّرون فيه.
هذا، وشهدت التّسعينات تحويرا جذريّا للمداخل المعتمدة في بناء برنامج القراءة المفسّرة أو شرح النّصوص بالمرحلة الثانية من التعليم الأساسيّ، إذْ تخلّت اللجنةُ القطاعيّة لمادة العربيّة عن التدريس وفق محاور الاهتمام واستعاضت عنه بتدريس أنماط النصوص، فخصّصت السّنة السّابعة من التعليم الأساسيّ للنصّ السّرديّ أساسا، والسّنة الثامنة للنصّ الوصفيّ، والسّنة التاسعة للنّصّ الحجاجيّ. وقد ترتّب على ذلك تغيير جوهريّ شمل تعلّميّة تفسير النصوص، من جهة، وتعلّمية التدريب على الإنشاء، من جهة أخرى، فظهرت تصوّرات جديدة للعمل التحريريّ، وعُرضت على المدرّسين توزيعاتٌ مستحدثة نهضت بتمرين الإنشاء العربيّ بالمرحلة الثانية من التعليم الأساسيّ.
في خاتمة هذا التقديم والتعليق، نرى أنّ الاطّلاع على مثل هذا التقرير من تقارير لجان البحوث البيداغوجيّة التي شكّلها الأستاذ محمود المسعدي، لمواكبة الإصلاح التربويّ الأوّل، يتيح الفرصة لقيْس مدى تطوّر الممارسات التعليميّة بصفة عامّة، كما أنّها تمثّل مادّة أوّليّة للباحثين في مجال التربية.

تعليق الهادي بوحوش والمنجي عكروت، متفقدان عامّان للتربية متقاعدان.
تونس في 29 نوفمبر 2016




[1] . انظر الندوة الصحفيّة التي عقدها محمود المسعدي يوم 16 أفريل 1960 وخصّص قسما منها للنشاط البيداغوجيّ. عن التعليم في تونس، طبع ونشر كتابة الدولة للإخبار والإرشاد، دون تاريخ، صص 73/ 78.
[2] . تأسّست هذه اللجان في جانفي 1961 بتعليمات من كاتب الدولة للتربية القوميّة، وقد نشرت نتائجُ نشاطها بالنشرة التربوية للتعليم الثانويّ والإعداديّ في أعدادها المختلفة.
[3] . من افتتاحية العدد الأوّل من النشرة التربوية للتعليم الثانويّ والإعداديّ التي صدرت في ماي 1961 بقلم الأستاذ محمود المسعدي، كاتب الدولة للتربية القوميّة.
[4] . التقرير من إعداد جهة سوسة، وقد شارك في الندوة أساتذة من مدارس سوسة ومعاهدها، علما أنّ النشرة التربويّة تتضمّن في بعض أعدادها تقارير صادرة عن جهات أخرى تتعلّق بالمسألة ذاتها.
[5] . هي إحدى شُعَب ثلاث كانت قائمة آنذاك: الشعبة ب ثنائية اللسان، والشعبة أ القارّة وأحادية اللسان العربيّ، والشعبة ج أحادية اللسان الفرنسيّ والمفتوحة لمن لم يتعلموا العربية، أو للأجانب المقيمين ببلادنا. والمرحلة الأولى من التعليم الثانويّ توافقها اليوم المرحلة الإعداديّة من التعليم الأساسيّ.
[6] . تضمّن سفر برامج العربية لسنة 1958 صفحتين عن تمرين الإنشاء. انظر الفقرة د ص 13 وص 14. نسخة مرقونة، ذات مقاس كبير، تختلف حجما عن الأسفار الصّفراء المعهودة.
[7] . انظر برامج 1958 والبرامج الرّسميّة لتعليم المرحلة الثانية، السّفْر عدد1، مادة العربيّة، كتابة الدولة للتربية القوميّة، 1969، الشركة التونسيّة للتوزيع، صص21/ 31.

[8] . جاء بالصفحة 3 من برامج 1969: " لذا وجب أن نرمي في مختلف سنوات التعليم في المرحلة الثانية إلى تنمية المادة اللغويّة التي يتصرّف فيها التلميذ، وإلى تمكينه من حذق تراكيبها وأساليبها، ومن استعمالها بيسر ومهارة".
[9] . أوردت البرامج أربعة شروط اكتفينا بالشّرط الرابع منها لصلته بالمسألة المطروحة خلال الندوة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire