lundi 19 décembre 2016

محمّد مزالي يقيّم البرامج الدراسيّة والتكوينيّة[1] و يدعو إلى تونستها


تقديم
ألقى الأستاذ محمّد مزالي، بمناسبة التئام أسبوع التعريب لسنة 1971، محاضرةً على منْبر الاتّحاد العامّ للطلبة، بتاريخ 23 فيفري 1971، بيّن فيها رُؤيته للتونسة والتعريب وموقفه من البرامج التعليميّة القائمة آنذاك.


ولعلّه من المفيد أن نذكّر أنّه خاطب الطلبة، وهو يشغل، للمرّة الثانية، خطّة وزير للتربية القوميّة.[2] وفيما يلي مقتطف من هذه المحاضرة التي عنوانها" في التونسة والتعريب"، علما أنّ الفقرات السّابقة للمقتطف خُصّصت لبيان الخطوط العامّة لمقوّمات الأمّة التونسيّة، ولتحليل العوامل التي جعلت الشّبابَ التونسيّ يتّجهُ، في أغلبيته السّاحقة، اتّجاها يتنافى "مع نريده له من الغايات،" ومن بين هذه العوامل والأسباب نذكرُ التغييرات الجذريّة المجتمعيّة، والسّياسة التربويّة، وبرامج الدّراسة المعتمدة منذ الاستقلال. وعلى هذا السّبب الأخير، يركّز الأستاذ محمّد مزالي في مداخلته.

" ونعيد القول، حتّى يسود الوضوحُ مقاصدي، إنّ التونسة لا تعني الانفصال عن العروبة، ولا تتنافى مع محبّتها والإخلاص لتراثها، ولا أقصد بها التخلّص من مشكل التعريب، وإنّما التونسةُ روحٌ قبل كلّ شيء، ووفاء للذّات، وعمل لخلق شباب تونسيّ مؤمن بمقوّمات أمّته الأساسيّة: الدين الإسلاميّ، والحضارة الإسلاميّة، واللغة العربيّة، والتاريخ القوميّ...
والتونسة لا تعني أيضا الانغلاقَ على النفس، ولا الإدبارَ عن العالم المتمدّن، ولا تتنافى مع وجوب الإخلاص للحضارة الإنسانيّة، والوفاء للثقافة البشريّة، فبقدْر ما يكون شبابُنا تونسيّا، يكون إنسانيّا، إذ التفتّحُ لا معنى له إذا كان في اتّجاه واحد، ولم يقُمْ على قاعدة الأخذ على قدْر العطاء...
أؤكّد ثانية أنّ التعريب لا يعني حذفَ اللغات الأجنبيّة، وليس هو عمل رَجعيّ، وليس كلُّ المنادين به من المتعصّبين، ولا تعني الدعوةُ إليه العملّ على تعميمه حالا، لأنّنا لسنا من المغامرين أو البسطاء."
محمّد مزالي. مواقف، 1973، ص 37/ 38.


)...( "ثمّ لا بدَّ من وضع برامج التعليم في الميزان، إذْ هي تُكيّف، أساسا، الشّبابَ وتغرس فيه القيمَ العليا وتُعدُّه للحياة. فلو نظرنا مثلا نظرةً نقديّة فاحصةً في برامج التاريخ والجغرافيا بمدارسنا لوجدْناها مُغرقة في  "التفتّح"، مريضة بالموضوعيّة، ليس فيها ما يؤهّل الشّبابَ التونسيّ إلى أن يعرف نفسَه بمعرفة وطنه معرفةً تامّة شاملة، ومعرفة تاريخه القديم والحديث، ويظهَر ذلك بالمقارنة مع برامج التاريخ والجغرافيا في أكثرية البلدان، سواء كانت رأسماليّة أو شيوعيّة، غربيّة أو شرقيّة... ذلك أنّ تاريخ الوطن يكون في كلّ بلاد الله الإطارَ والمرجعَ الذي يُرجع إليه لمعرفة (ص 30) تاريخ الأقوام الأخرى، والوقوف على طبيعة العلاقات التي وجدت بينه وبينها، وكيَّفتْ الأحداثَ والأشياء. أمّا في برامج مدارسنا الثانويّة فإنّ تاريخنا يدرس باقتضاب كبير فيأتي مُجزّأً، مقطوعةً فتراتُه بعضُها عن بعض، ولا شيءَ يميّزه عن تاريخ أيّ بلاد أخرى، وكثيرا ما يأتي دورُه في آخر الكتاب فلا يجد الأساتذة الوقت الكافي للتعرّض إليه، ولا التلامذةُ الرّغبة في الوقوف عنده والتغذّي منه، أو بالأحرى الاعتزاز به) ...( ورغم حرص المسؤولين على العناية بالتاريخ القوميّ، وخاصّة اهتمام رئيس الجمهورية نفسه بالموضوع، منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، فإنّ عددا كبيرا من أساتذتنا بالجامعة، وحتّى بالمدارس الثانويّة، ما زالوا يردّدون أغنية التفتّح الزائف، ويُبدون شكّهم في أهمّية التاريخ القوميّ، وجدوى التبسّط في محتواه، بل منهم من أكّد لي شخصيّا أنّ المصلحة إنّما تكمُن في دراسة تاريخ العالم والدول العظمى. وقد تسرّبت هذه العقلية لدى عدد كبير من التلامذة، ممّا كشفه البحث العلميّ الذي أجراه جمعٌ من الأساتذة الأجانب بإشراف المعهد التونسيّ لعلوم التربية، سنة 1968، إذ أجاب معظمُ التلامذة، عندما سئلوا (ص31 ) هل يفضّلون درس تاريخ تونس أم تاريخ العالم، بأنّ تاريخ بلادهم لا نفع يرجى منه...وعندما أكدّت مرّة على أحد الأساتذة بوجوب تدريس تاريخ تونس في أكثر من سنة، بالنسبة لمدارس الترشيح على الأقلّ، تعلّل بقلّة المراجع، ثمّ صارحني بقوله: لو نفذتُ توجيهاتكم لضجَّ التلامذة أنفسُهم، وثاروا على برنامجكم... وكان صادقا لأنّ الدّاء أخطرُ ممّا يظنّ البعضُ...لكنْ، ألستُ متعصّبا في نظر هؤلاء الذين لا يزالون يدرّسون التاريخ كما درَسوه في الكليات الأجنبيّة، وبالاعتماد على مراجع أجنبيّة فقط)...(
ونحن، عندما ننادي بتوْنسة التاريخ، لا نعني أنّه يجب تزييُفه أو إعلاؤه، وإنّما ندعو لدراسته دراسة ضافية وتخليصه ممّا ضمّنه بعضُ أعداء الأمّة العربيّة الإسلاميّة من أغلاط وتشويه) ... "(
تعليق: اختار الأستاذ محمّد مزالي، لإقناع جمهور الطلبة بما يذهب إليه من رأي وموقف، مادّةَ التاريخ والجغرافيا بالمرحلة الثانويّة، إحدى الموادّ الاجتماعيّة، باعتبارها تجسّم، على أفضل وجْه، الغايات المنُوطة بالبرامج الدّراسيّة، كما حدّدها المحاضرُ، مطْلعَ الفقرة: تكْييف التلامذة، غرْس القيم لديْهم، الإعداد للحياة.
أمّا دَعْوتُه فتكْمُن في إعادة بناء مسائل مادّة التاريخ والمنهج البيداغوجيّ المتوخّى في تدريسها، لتُصبح دراستُها شاملةً لمختلف الحقَب التاريخيّة التي مرّت بها البلادُ التونسيّة، ناحتةً لملامح المتعلّمين، مستندةً إلى مصادر ومراجع وطنيّة، متخلّصةً من الأحكام المسْبقة والتشويه والمغالطات التي سرّبَها إليها مؤرّخون غيرُ مُنْصفين، لا يحبّون للأمّة التّونسيّة الخير، على حسَب ما يراه المحاضر.
أمّا الخطّة الحجاجيّة التي اعتمدها فتتمثّل في التركيز على المقارنة ببرامج البلاد الأخرى، وغايته أن يبرز عيوبَ البرامج المقرّرة للتاريخ الوطنيّ، من اقتضاب وتجزئة وموْقع متأخّر من الكتاب المدرسيّ، ومواقفَ مدرّسي التاريخ الجامعيّين وغير الجامعيّين المنصَرفين عن النّظر في التاريخ الوطنيّ، وجنوحَ التلامذة إلى اعتبار أنّ دراسة تاريخ بلادهم لا تُرجى منه منفعة. وهذا أنموذج من توظيف بعض السّياسيّين لظواهر حقيقيّة للإقناع برؤاهم وتوجّهاتهم.

"وقد أصْدم بعض الناس عندما أنادي بتوْنسة برامج اللغة العربيّة. ذلك أنّ المتصفّح لكتب النصوص الأدبيّة التي تدرّس من السّنة الأولى إلى السّنة السادسة من التعليم الثانويّ لا يكاد يجد فيها أكثر من عشرة في المائة من النّصوص التونسيّة، ممّا يورث عند الشّباب التونسيّ مركّبات خطيرة، واعتقادا بأنّ هذه البلاد عقيمٌ من الناحية الفكريّة، لم تنبت أدباءَ ولا شعراءَ ولا قصّاصين أو مفكّرين، وليس لها حضارة، مثلما أراد الاستعمار في الماضي تنشئتنا على غفلة من ماضينا وشَكّ في حاضرنا ومستقبلنا، وبذلك يعيش شبابُنا عالة على الغير، مستهلكا طولَ عمره، متهافتا على ما يقدّم له من الشّرق والغرب، والأدهى والأمرّ هو أنّه ينشأ من دون طموح إلى الخلق الأدبيّ والمغامرة الفكريّة. أمّا إذا نحن تصفّحنا الكتب المماثلة في كلّ بلدان الدّنيا، بما فيها البلدان العربيّة الشّقيقة، وجدنا أغلبية ص33 نصوص القراءة من تأليف أبنائها، وهذا لا يمنع التفتّح بمقدار. بلْ إنّي طلبت من أساتذة اللغة العربيّة، منذ سنة، أن تكون النّصوص مختارة بنسبة 50% من المؤلَّفات التونسيّة، قديمها وحديثها، والبقية يتمّ اختيارُها من أمّهات الكتب العربيّة الأخرى) ...("
تعليق: هذه المرّة، اختار محمّد مزالي مادة اللغة العربيّة،[3] باعتبارها ناقلة للحضارة العربيّة والإسلاميّة ولنظام القيم الذي عليه أجْمع التونسيّون، لكنّه لم يركّز كلامَه على مسائل البرامج المقرّرة لهذه المادّة بالمرحلة الثانويّة، وإنّما صبّ كلَّ اهتمامه على الوسائل التعليميّة المجسّمة لتلك البرامج، مُرَكّزا بخاصّة على جنسية أصحاب النّصوص المدرجة بالكتب المدرسيّة، ملاحظا أنّ عشُرها فقط لكتّاب تونسييّن، على خلاف الكتب المعتمدة بالبلدان الشّقيقة. وهكذا، يعمد الأستاذ محمّد مزالي مجدّدا إلى الموازنة، ليستخلص أنّ مركّبات تنشأ عن هذا الوضع لدى الناشئة المدرسيّة، وأنّ تشويهًا يصيب الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وأنّ غُبنا يلحق بالإنتاج الفكريّ والأدبيّ للأمّة التونسيّة. لذلك، صَدَع بدعوته القاضية بتخصيص نسبة 50% من النّصوص المدرسيّة لكتّاب وآثار تونسيّة.
ولئن حظي هذا القرار بدعم العديد من الكتّاب والشّعراء التونسيّين، الطامعين في إدراج نصوصهم بالكتاب المدرسيّ وآثارهم بقائمة كتب المطالعة الرسميّة، وعُقدت الملتقيات والنّدوات للتنويه به، واقتراح سُبل تنفيذه بالكتب المدرسيّة الصّادرة منذ 1971[4]، فإنّه لم يُحظ بقبول شريحة واسعة من المدرّسين، وواضعي الكتاب المدرسيّ للغة العربيّة،[5] وظلّ محلَّ أخذ وردّ إلى أن فصلتْ اللجنةُ القطاعيّة للغة العربيّة القولَ في هذه المسألة، مطلع التّسعينات.
ومع ذلك، فإنّ دعوة الأستاذ محمّد مزالي أفضت إلى إدراج العديد من الآثار التونسيّة الأدبيّة والفكريّة، ضمن البرامج الرّسميّة، وإلى اشتمال الكتاب المدرسيّ للغة العربيّة على نصوص من الإنتاج الفكريّ والأدبيّ التونسيّ، قَديمه وحديثه.

"أمّا برامج الفلسفة في مدارسنا فحدّث ولا حرج؟ فالمحتوى يكاد يكون مماثلا لما يدرس في فرنسا، وكلّ أستاذ " يتفلسف" بحسب المدرسة الرَوحيّة أو الجهة المذهبيّة التي ينتمي إليها، مع العلم بأنّ جلّ أساتذة الفلسفة أجانب، وما علمت أنّ " سلّمَ قيم" واضحا تمّ الاتّفاق عليه يوما، وطولب مؤلّفو الكتب الفلسفيّة، أو واضعُو النّصوص الفلسفيّة المختارة، بالتزامها والسّيْر على هدْيها، ثمّ تتعالى الأصواتُ بعد سنوات من الحصول على استقلالنا، مستنكرة أن ينشأ شبابُنا مقطوعا من أصله، غريبا عن شعبه، كأنّه يعيش في دار هجرة. 
تعليق: اختار الأستاذ محمّد مزالي الفلسفةَ مثالا ثالثا عمّا يريد الإقناع به والاستدلال عليه. فمآخذُه على هذه المادّة كثيرة: مسائلُ برامجها مماثلة لما يجري بفرنسا، ومدرّسوها يُعلّمون طبق قناعاتهم الروحيّة أو المذهبيّة، ونصوصُها المعتمدة لا تخضع لمعيار اختيار واضح معلن، وحصيلةُ تدريسها شباب غريب في تفكيره، منقطعٌ عن جذوره، منبتٌّ عن أصوله. لماذا اكتفى المحاضر هنا بالتشخيص، ولم يعرض تصوُّره لما ينبغي أن يكون عليه تدريسُ الفلسفة ببلادنا؟ أليْس هو من دعا، فيما بعدُ، إلى تعريب درس الفلسفة وأقام حوارات مع أساتذة الجامعة في الغرض، أمثال الأستاذ عبد الوهّاب بوحديبة، وحضَّ على إعداد كتاب مرجعيّ ومنتخبات نصّيّة معرّبة وعربيّة؟
وفي الحقيقة، فإنّ مادة الفلسفة وبرامجها ومدرّسوها وتعريبُها كانت تتنزّل ضمن الصّراع القائم، آنذاك، بين اليسار التقدّميّ واليمين بمختلف توجّهاته، وستستغلّ السلطةُ التربويّة والسّياسيّة اختبار الفلسفة في دورة من دورات البكالوريا، وما حرّره أحد المترشّحين، لتعلن رسميّا عن تعريب درس الفلسفة بالبلاد التونسيّة، بداية من 1975.

وشبيهٌ بما سبق حالُ عشرات آلاف المعلّمين والمعلّمات الذين تخرّجوا في السّنوات الأخيرة من مدارس الترشيح، ليربّوا أبناءنا وبناتنا. ص34 فبينما كان حظّ العربيّة يساوي أو يكاد حظّ الفرنسيّة في هذه المدارس، منذ عهود الاستعمار الأخيرة، نلاحظ اليوم تزايد حظّ الفرنسيّة لأسباب تجاوزت أفهامنا، فأصبح التاريخ يدرّس بالفرنسيّة، منذ سنة 1968، وكذلك علوم الأشياء، وبينما كانت الأخلاقُ وعلم النفس وعلم الاجتماع وبعضُ أبواب علم التربية وعلم نفس الطفل تدرَّس بالعربيّة وجوبا، ولكافة الترشيحيّين، سواء كانوا من ذوي اللسان الواحد أو من ذوي اللسانيْن، منذ عهد الحماية، أصبحت هذه الموادّ الأساسيّة تدرّس بالفرنسيّة شيئا فشيئا، بل أصبح التربّص التطبيقيّ الذي كان مزدوجا يجري بالفرنسيّة فقط ، منذ 1965، إلى حدّ أنّ مئات المعلّمين والمعلّمات من ذوي اللسانيْن أصبحوا اليوم يجدون صعوبة في التعليم بالعربيّة وينادون بإعفائهم منها...
تعليق: يكتنف الفقرة السّابقة الخاصّة بإعداد المعلّمين والمعلّمات شيءٌ من الغموض، لأنّ مادّة التاريخ والجغرافيا في مدارس الترشيح، وفي شعبة إعداد المعلّمين المفتوحة بالمعاهد الثانويّة، لم تكن معرّبة قبل 1968، ولأنّ التربّص التطبيقيّ كان يجري باللغة الفرنسيّة أساسا وبمراجع فرنسيّة من تأليف السّيّد شَرْميون/ CHARMION كانت توزّع على كافة المعلّمين المتربّصين، لكنّه كان يجري أيضا باللسان العربيّ.

 وإنّهُ من ألْزَم الّلازم أن نستخلص العبرة من نتائج خمسةَ عشرَ عاما من سياستنا التربويّة والتثقيفيّة، ونتمعّن في الدّراسات القيّمة التي ظهرت في السّنوات الأخيرة، حول عقلية شبابنا ونظرته للوجود وسلوكه الاجتماعيّ... ونهتديَ إلى الأسباب الحقيقيّة التي جعلت شبابَنا يعاني اليوم أزمة حضاريّة وأخلاقيّة، ويشكو جروحا عميقة في تفكيره الرّوحيّ، فنحتفظ بالنّواحي الإيجابيّة الكثيرة، والحمد لله، التي حقّقها هذا النّظام التربويّ والتثقيفيّ، ونتصدّى للجوانب السّلبيّة فنعالجها بكلّ حزم ووضوح رؤية وطول نفَس.
ولن يكون ذلك إلاّ إذا أوْلَيْنا التكوينَ الوطنيّ والدينيّ والرّوحانيّ العنايةَ التي نُوليها لديمقراطية التعليم نفسها وللتكوين العلميّ والفنّيّ الذي نعتبره حيويّا، واجبَ التشجيع والتركيز والتعميم، وتساوى حرصُنا على المستوى العامّ... مع حرصنا على التربية الوطنيّة (ص37) ، ولن يكون شيء من ذلك ما لم تمتلئ نفوسُنا هولا بالخطر الذي يهدّد شبابنا وأمّتنا، وإذا ما تمادى هذا الحال، وما لم نتّفق على وجوب التوْنسة حالا، وضرورة وضع خطَّة مرحليّة مضبوطة ومعتدلة ورصينة للتعريب الذي هو ركن أساسيّ للتوْنسة، والذي لا يتنافى مع استبقاء لغة حيّة يتعيّن أن تحذقها الناشئة، وتكون عندها بمثابة الأداة التي بها يتمّ الاتّصال بالعصر وتتحقق السيطرة على العلوم والاكتشافات والتكنولوجيا..."
محمد مزالي، مواقف، الشّركة التونسية للتوزيع، 1973.
تعليق: استنادا إلى تقييم موادّ التاريخ والجغرافيا والعربيّة والفلسفة وبرامج إعداد المعلّمين والمعلّمات بمدارس الترشيح، يقرّ الأستاذ محمّد مزالي بإيجابيّات النظام التعليميّ التونسيّ، لكنّه يدعو إلى استخلاص العبرة من السّياسة التعليميّة والتثقيفيّة المعتمدة منذ حصول البلاد على الاستقلال الداخليّ، سنة 1955، وتقدير أثرها في نظرة الشّباب التونسيّ إلى الحياة والمجتمع، وفي شخصيته المُجْترحة المتأزّمة من الناحيتين الرّوحيّة والأخلاقيّة.
يرى الأستاذ محمّد مزالي أنّ شفاء الشّباب التّونسيّ ممّا أصابه من جراح وانْبتات يكْمُن في" إيلاء التكوين الوطنيّ والدّينيّ والرّوحانيّ" العناية نفسها التي توليها الدولة" للتكوين العلميّ والتقنيّ".
إنّها دعوة إلى التعادليّة، أي مناداة بالتنشئة المتوازنة التي تراعي، بالدّرجة نفسها، تنمية البُعد الوطنيّ الرّوحيّ والبُعد العلْميّ والتقنيّ، لدى شباب المدارس والمعاهد،[6] ما يعني أنّ محمّد مزالي يرى أنّ النّظام التربويّ، وليدَ الاستقلال، مُقصّر في المجالات الوطنيّة والدّينيّة والرّوحيّة، وأنّه غلّب الأبعادَ العلميّة والتقنيّة. ثمّ إنّه يرى أنّ تحقيق هذا التوازن يتوقّف على:
·       وجوب التوْنسة حالا، بالمعنى الذي ضبطه الأستاذ محمّد مزالي أعلاه، ما يعني بناء برامج تعليميّة مقوّماتُها:" الدّينُ الإسلاميّ، والحضارة الإسلاميّة، واللغة العربيّة، والتاريخُ القوميّ،" لتخريج شباب تونسيّ مؤمن بأمّته.
·       ضرورة "وضع خطَّة مرحليّة مضبوطة ومعتدلة ورصينة للتعريب الذي هو ركن أساسيّ للتوْنسة".
·       "استبقاء لغة حيّة يتعيّن أن تحذقها الناشئة... وتكون عندها بمثابة الأداة التي بها يتمّ الاتّصال بالعصر وتتحقّق السّيطرةُ على العلوم والاكتشافات والتكنولوجيا".
وفيما يهمّ تعريب التدريس، فإنّ الأستاذ محمّد مزالي يميّز بين طائفتين من الموادّ: طائفة أولى " يمكن وضع خطّة عمليّة لتعريبها شيئا فشيئا، وخاصّة بالنّسبة لمدارس الترشيح،" وتضمّ" التاريخ والجغرافيا وعلم الأشياء والفلسفة بمختلف فروعها"، وطائفة ثانية تضمّ" العلوم الصحيحة" والتي يجب التأنّي والتروّي في شأن تعريبها، وتوفير أسباب النجاح لها...إلى " جانب عمل جدّيّ وجذريّ لتونسة الإطار وإيجاد المراجع ومضاعفة تعاوننا مع البلدان الشقيقة في الاتّجاهين".[7]
هذا، ويجدر التنبيه إلى أنّ خطّة الأستاذ محمّد مزالي للتعريب تتوافق والخطّة التي اقترحتها اللجان القارّة للتعليم الثانويّ.[8]

تقديم وتعليق الهادي بوحوش والمنجي عكروت، متفقدان عامّان للتربية متقاعدان
تونس - ديسمبر 2016.




[1] . مقتطف من محاضرة ألقاها الأستاذ محمّد مزالي يوم 23 فيفري 1971 على منبر اتّحاد الطلبة في نطاق أسبوع التعريب، ونشرتها جريدة الصباح يوم 25 فيفري 1971.
[2] . تولّى الأستاذ محمّد مزالي وزارة التربية القوميّة في ثلاث مناسبات: أولاها من 26 ديسمبر 1969 إلى 12 جوان 1970، والثانية من 29 أكتوبر 1971 إلى 17 مارس 1973، والثالثة من 31 ماي 1976 إلى25 أفريل 1980.

[3] . عرّف الأستاذ محمّد مزالي اللغة " بأنّها ليست مجرّدَ أصوات وألفاظ، بل هي الوطنُ العقليّ والإطار الوجدانيّ والرُّكْن الركين للشّخصية الوطنيّة، والعنصر المتين للذاتيّة القوميّة". مواقف، 1973، ص 26.
[4] . تضمّنت الكتب المدرسيّة، خلال السّبعينات، مختارات لنصوص تونسيّة شملت التعليم المهنيّ والتعليم التقنيّ والتعليم العامّ بمرحلتيه الأولى والثانية. فلْننظر في سلسلة كتاب الجديد للأستاذ عبد المجيد عطيّة وزملائه، ولْنقرأ، على سبيل المثال، ما جاء بمقدّمة كتاب الممتع في الأدب، للأستاذ أحمد خالد، بالجزء الأوّل المخصّص للأدب التونسيّ: " ومحافظة منّا على روح البرنامج، وضعنا الأدب التونسيّ في صدر الكتاب حتّى تدرك ناشئتنا قيمة ذلك الأدب الذي ظلّ مغمورا على طرافته، وتتعرّف على مدى مساهمة بلادها في بناء صرح الحضارة العربيّة الإسلاميّة..."ص 7.
[5] . أفادنا بعضُ المؤلّفين للكتاب المدرسيّ للغة العربيّة أنّ أحد المقرّبين من الوزير محمّد مزالي، والمنتصرين لأفكاره، كان يتّصل بواضعي الكتب المدرسيّة ويعرض عليهم نصوصا لكتّاب ومفكّرين تونسيّين، ويطلب إليهم إدراجَها ضمن المحاور المقرّرة للنصوص.
[6] . ستكون هذه التعادليّة القائمة على توازُن الروحيّ والعلميّ محلَّ نقد من قبل المناهضين لتوجّهات الأستاذ محمّد مزالي، الذين يرون أنّه أفسد ما كان شيّده الأستاذ محمود المسعدي، وسيشهد إصلاح 1991 الدعوة الصريحة إلى إقامة توازن من نوع آخر: " تتكافأ فيه الطبيعيّات والإنسانيّات والتقنيّات والمهارات والأبعاد المعرفيّة والأخلاقيّة والوجدانيّة والعمليّة." انظر القانون عدد 65 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991، الفصل الأوّل، البند 8.
[7] . محمّد مزالي، مواقف، ص 38 وص 39.
[8] . انظر التقرير التأليفيّ الموسوم ب:" الخطوط الرئيسيّة لإصلاح هياكل التعليم الثانويّ ونظامه". وزارة التربية القوميّة، جوان 1972، ص 11 وص 12.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire