إسهاما منّا في إثراء الحوار حول الإصلاح التربويّ الذي
تعتزم وزارة التربية القيام به، نتقدّم، بصفة برقيّة، بجملة من
المقترحات والملاحظات التالية.
I.
في مفهوم الإصلاح
§
الإصلاح عملية معقّدة ومركَّبة وطويلة الأمد، تبدأ وجوبا
بتقييم دقيق للمنظومة التربويّة الحالية لتدارك نقائصها، على ضوء استشارة عميقة
تفضي إلى بناء تصوُّر واضح يُشترط في إنجازه توفُّر إرادة سياسيّة قويّة وإمكانيات
مادّيّة هائلة[1].
§
تشكّل عناصر المنظومة التربويّة وحدة متكاملة، وقد ينجز
الإصلاح دفعة واحدة أو على مراحل متلاحقة، شريطة أن يتمّ ذلك عبر إطار تصوّر شامل،
للحيلولة دون تعارض عناصر الإصلاح فيما بينها، عند الإنجاز.
§
التريّث وعدم التسرّع أمران مطلوبان في مثل هذا النوع من
الإصلاحات العميقة التي لا تمسُّ قطاع التربية فحسب، بل تشمل عدّة قطاعات من
المجتمع. لذلك نؤكّد على تعميق الاستشارة محلّيّا و جهويّا ووطنيّا، لدى كلّ
المتدخّلين في العملية التربويّة، دون استثناء ( مدرّسون، متفقدون، إداريّون ،
مجتمع مدنيّ ، منظّمات وطنيّة، أولياء وتلاميذ ...).
§
لا يعني الإصلاح نسف كلّ المنظومة الحالية و الانطلاق من
الصّفر، بل هو بناء تصوّر ينطلق من مكتسبات الماضي الإيجابيّة لتدارك سلبيّات
المنظومة التربويّة على مستويات عدّة (البرامج، الزمن المدرسيّ، التوجيه، البنية التحتيّة،
الموادّ، الضوارب، الكتاب المدرسيّ)
§
لا يعني الإصلاح أيضا إعادة إحياء تجارب الماضي و في مقدّمتها
تجربة الأستاذ محمود المسعدي، كما ينادي البعض، فذلك من باب الحنين إلى الماضي لا غير،
ومن منطلق عاطفيّ وجدانيّ لا عقلانيّ، تلك التجربة نجحت في ظروف معيّنة (استقلال
حديث – وازع وطنيّ قويّ - شغف بالعلم و اكتساب المعرفة ...) لقد ولّى ذلك الزمن الذي كانت تُدعى فيه وزارة
التربية وزارةَ المعارف أو كتابة الدولة للتعليم العموميّ.
§
من شروط نجاح الإصلاح، إضافة إلى الإعداد الجيّد والتصوّر
الواضح والإرادة السياسيّة القويّة، اقتناع المنفّذين بجدوى الإصلاح و تحمُّسهم له،
و لكنّ المتأمّل خاصّة لشريحتي المدرّسين و الإداريّين أساسا، يلاحظ عدم تجانس عناصرهما
وتباين مكوّناتهما، علميّا و مهنيّا و فكريّا و ايديولوجيّا، حتى إنّ التباين يصل
أحيانا إلى حدّ الصّراع العلنيّ الحادّ، داخل المؤسّسة التربويّة و خارجها.
§
الإصلاح يشمل أيضا البنية التحتيّة المتهرئة للمؤسّسات
التعليميّة وتجهيزها وتوفير الظروف الملائمة لتلقّي المعرفة، بدْءا بالظروف المادّيّة
للمدرسة: قاعات تدريس غير لائقة، ونقص فادح في الضروريات الأساسيّة، ومنها الماء
الصالح للشّراب على وجه الخصوص، والمرافق الصّحّيّة المنعدمة أحيانا، وصولا إلى
ضرورة توفير وسائل النقل للتلاميذ وإصلاح الطرقات والمسالك الريفيّة وإحداث
المطاعم المدرسيّة وتجهيز المؤسّسات التربويّة بالمعدّات البيداغوجيّة والعلميّة.
§
يشمل الإصلاح أيضا تحسين الظروف المادّيّة للمدرّسين
والإداريّين والمتفقّدين، لأنّ هيبة هؤلاء من هيبة الدولة، وقد يساعد ذلك على الحدّ
من ظاهرة الدروس الخصوصيّة التي استفحلت في السّنوات الأخيرة وأصبحت من أبرز عيوب
منظومتنا التربويّة في كلّ المراحل التعليميّة، بما ذلك التعليم العالي.
§
وأخيرا، إنّ الهدف الرئيسيّ من الإصلاح في نظرنا أن تكون
المؤسّسة التربويّة فضاء معرفيّا ينمّي أساسا لدى التلميذ الفكر النقديّ وإعمال
الرأي، وينير الأذهان ويرسّخ فيه قيم الجمهورية والشعور بالاعتزاز بالانتماء إلى
وطن له حضارة ضاربة في التاريخ.
خلاصة القول: إنّنا نصبو إلى أن تكون مدارسنا ومعاهدنا
مؤسّسات تعليميّة حداثيّة مواكبة للعصر، وقد يبدو ذلك من باب الحلم. ولكن للتذكير
فإنّ الأحلام جزء من تاريخ كلّ شعب يرنو إلى الرقيّ والتقدّم.
II.
المنظومة التربوية
نعني بالمنظومة التربويّة مختلف مراحل أو الدرجات
الدراسيّة التي استقرّت منذ سنوات عديدة في ثلاث مراحل: الابتدائيّة ( 6 سنوات)
الإعداديّة ( 3 سنوات ) والثانويّة ( 4
سنوات). ولعلّه من الأفضل ضمن الإصلاح المحافظة على هذه المراحل الكبرى، وإن اقتضى
الأمر إدخال تحويرات و إصلاحات على مستوى الجزئيات.
§
من ذلك مقترح مثلا إدراج السنة التحضيرية بصفة رسميّة
ضمن المنظومة وتعميمها على كافة المدارس الابتدائيّة، وأن يُعهد تدريسها إلى
مربّين مختصّين في تعليم هذا الصنف من الطفولة.
§
و كذلك تعميم تدريس الموادّ الفنّيّة (رسم - موسيقى - رقص...)
على كلّ المدارس الابتدائيّة والإعداديّة، سواء في شكل نواد أو حصص التدريس
الرسميّة التي توكل إلى أساتذة مختصّين. فالعديد من التلاميذ ينهون المرحلة
الاعدادية دون ممارسة أيّ نشاط فنّيّ أو دراسة الموادّ الفنّيّة.
§ اتّخاذ إجراءات جذريّة
لتسترجع شهادة البكالوريا مكانتها وقيمتها العلميّة وطنيّا ودوليّا، وقد حان الوقت
للتخلي عن احتساب نتيجة المراقبة المستمرة
في المعدل النهائي لامتحان الباكالوريا (
نسبة 25 % الشهيرة )[2]
و إعادة النظر في معايير الإسعاف ليتمتع
به من يستحقّه دون غيره و حتى التفكير في حذف الإسعاف إن أمكن. و أخيرا اعتبار
الصفر عددا مقصيا لنيل الشهادة، أو تحديد حد أدنى للأعداد المقصية في موادّ
الاختصاص.
§
ندعو بجدّية إلى إرجاع دور ترشيح المعلّمين والأساتذة
بتوجيه التلاميذ الى الصنف الأوّل في أعقاب السنة أولى ثانويّ (جذع مشترك) وإلى
الصنف الثاني بعد الحصول على شهادة البكالوريا، ويشترط في كليهما معدّلات متميّزة.
وإن استحال ذلك فلا بدّ من إخضاع المنتدبين للتدريس لفترة تكوين بيداغوجي ونفسي
طويلة وتكثيف جهود التأطير من طرف المساعدين البيداغوجيّين والمتفقدين في السّنوات
الأولى من انتداب المدرسين الجدد. في انتظار ذلك، فإنّ هذه الإحاطة ملحّة اليوم
لمن التحق بالتدريس في إطار العفو التشريعي العامّ لانعدام خبرتهم المهنيّة.
§
يمكن التفكير بجدّيّة في تشجيع التعليم المهنيّ في
المرحلة الإعداديّة لمن تجاوز سنّا معيّنة في نهاية المرحلة الابتدائيّة أو لمن
يجد من التلاميذ صعوبة بمزاولة التعليم العامّ بالمرحلة الإعداديّة، إذ لا جدوى من
الرسوب المتكرّر لمن هو محدود الإمكانيات الذهنيّة.
§
يمثّل التوجيه الجامعيّ إحدى إشكاليات المنظومة
التربويّة، خاصّة بانسداد سوق الشغل أمام خرّيجي بعض الشعب. لذا وجب التفكير مليّا
في استنباط شعب جديدة تفضي إلى الشغل في قطاعات تكون البلد في حاجة ماسّة إليها أو
تقليص طاقة استيعاب بعض الشّعب. وفي هذا الإطار، وجب ردّ الاعتبار إلى دور
المعلّمين العليا بوصفها المؤسّسات الجامعيّة الوحيدة الكفيلة بتكوين الأساتذة من
حاملي الباكالوريا بتفوّق.
§
رسم هدف سام للمنظومة التربويّة التونسيّة واختيار تمشّ
يضمن تكوين ناشئة مستنيرة عمادها في ذلك تنمية الحسّ النقديّ والتفكير العقلانيّ،
وتكريس قيم الجمهورية واحترامها، أي بعبارة اخرى منظومة تربويّة حداثيّة مواكبة
للعصر.
III.
الموارد البشريّة
نعني بالموارد البشريّة
كلّ المتدخّلين مباشرة في الإصلاح التربويّ الذين يمثلون عاملا هامّا في إنجاحه أو
إفشاله، باعتبار عددهم الضخم من ناحية، ودورهم الأساسيّ في التنفيذ من ناحية أخرى.
ولعلَّ من أهمّ سلبيات هذا العنصر البشريّ الهامّ عدم تجانسه وتباين مكوّناته على
أصعدة عدّة كالتكوين والكفاءة المهنيّة والتوجّه الفكريّ، وحتى العقائديّ الذي يصل
أحيانا إلى حدّ الصراع العلنيّ. تفاقم هذا التباين بعد الثورة بالتحاق عدد كبير
ممن شملهم العفو التشريعيّ العامّ بالمؤسّسات التعليميّة للتدريس أو للتسيير الإداريّ،
رغم انعدام خبرتهم، فانعكس ذلك سلبا على مستوى التعليم عامّة وتجانس العنصر البشريّ
داخل المؤسّسات التربويّة.
لا أحد ينكر اليوم تدنّي
مستوى التعليم ببلادنا وتراجع كفاءة المربّين البيداغوجيّة من خرّيجي كلّيات
ومعاهد عالية عديدة، في غياب الدُّور المتخصّصة في تكوين المدرّسين تكوينا علميّا
وبيداغوجيّا ونفسيّا متينا، على غرار دور ترشيح المعلّمين والأساتذة سابقا.
فعلى مراكز التكوين
المستمرّ تدارك هذه النقائص برسكلة المدرّسين. وعلى المتفقّدين تكثيف نشاطهم
التأطيريّ البيداغوجيّ، أمّا تدنّي مستوى التسيير الإداريّ للمؤسّسات التعليميّة فيرجع
اساسا إلى غياب المعايير الواضحة في إسناد الوظائف الإداريّة الذي كان من المفروض أن
يكون على أساس الكفاءة لا المحسوبية والتحزّب، لذا نقترح أن تسند إدارة المدرسة أو
المعهد لمن تدرّج في السلّم الوظيفيّ من ناظر فمدير مدرسة إعداديّة فمدير معهد
ثانويّ، وبرهن على كفاءة مهنيّة مرضية في أداء الخطّة الوظيفيّة بحسب تقارير
منظوريه.
تبدو الموارد البشريّة
في قطاع التربية ضخمة كمّيّا، و الواقع أنّها في حاجة إلى التعزيز بانتدابات جديدة،
ذلك أنّ علوم التربية الحديثة تعتمد على تدريس مجموعات محدودة لا يتعدّى معدّل
التلاميذ فيها 20 في الفصل الواحد، ثمّ إنّ الوزارة عازمة
على تعميم تدريس كلّ الموادّ، على حد السّواء بما في ذلك الموادّ التي أهملتها
المنظومة التربويّة الحالية، على غرار الموادّ الفنّيّة (الرسم والموسيقى و المسرح)
والرياضة. لقد انعكس هذا الإهمال سلبا على تكوين شخصية التلميذ التونسيّ (نموّ
الفكر الظلاميّ والتعصُّب الدينيّ وغياب الفكر النقديّ والعقلانيّ...) فتعميم
تدريس هذه الموادّ وتوفير الموارد البشريّة المختصّة لتدريسها هو استثمار مربح على
المدى القريب والبعيد.
ضرورة اعتبار تحسين
الوضعية المادّيّة لرجال التعليم بمختلف أصنافهم من هيبة الدولة، وسبيل من سبل إرجاع
مكانة المدرسة التي ما انفكّت توفّر لبلادنا طاقات بشريّة هائلة وكفاءات عالية أشعَّت
داخل الجمهورية وخارجها.
لقد بات من الضّروريّ
تعصير أساليب التدريس في زمن الإنترنت وسبورات التفاعل والحواسيب، وبالتالي بات
لزاما على سلطة الإشراف تنظيم دورات تكوينيّة للمدرّسين في استعمال هذه
التكنولوجيات العصريّة ورسكلتهم بصفة مستمرّة، لمواكبة التطوّرات العلميّة وطرق
التدريس الحديثة. لكنّ هذا التوجّه العامّ، خاصّة في العالم المتقدّم، لا يجب أن
ينسينا الواقع التونسيّ الذي علينا التأقلم معه والعمل على تطويره تدريجيّا.
خلاصة القول إنّ
الاستثمار في الموارد البشريّة لا يقلّ أهمّية عن أيّ استثمار في المجال الاقتصاديّ،
خاصّة في بلد كتونس لا نفط ولا غاز ولا موارد طبيعيّة كبيرة.
انتهى القسم الأول - يتبع - للاطلاع على القسم الأول - اصغط هنا
فريد بن سليمان –
متفقد تعليم ثانوي سابق و أستاذ جامعي في التاريخ بكلية منوبة
تونس 2013
Pour accéder à la version FR, cliquer ICI
[1] هذه
الخواطر كتبها صاحبها مع انطلاق الحوار الوطني و قبل صدور مخرجاته و قبل نشر
الكتاب الأبيض لذلك قد يتسائل القارئ بوجود مقترحات و توصيات قد أدرجت في خطة الإصلاح
الواردة بالكتاب الأبيض
[2] انطلاقا من دورة
2016-2017 سيلغى احتساب نتيجة السنة
الدراسية و يحتسب المعدل النهائي باعتبار الاختبارات النهائية فقط. - قرار من وزير
التربية مؤرخ في 12 أوت 2016 يتعلق بتنقيح القرار المؤرخ في 24 أفريل 2008 المتعلق
بضبط نظام امتحان البكالوريا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire