dimanche 12 février 2023

بعض النتائج المنحرفة للإصلاح التربوي لسنة 2002 في تونس:التعلمات الاختيارية ومادة إنجاز مشروع نموذجا[1] - القسم الثالث: نماذج من النتائج المنحرفة للتجديدين موضوع البحث.

 


د.م.الشيخ الزوالي

تواصل  المدونة نشر بحث الدكتور مصطفى الشيخ الزوالي تناول فيه بالدرس إشكالية مهمة جدا في علاقة بمصير التجديدات البيداغوجية انطلاقا من تجديدين تمّ إقرارهما بالبلاد التونسية مع إصلاح 2002هما التعلّمات الاختيارية ومادة انجاز المشروع.

في الجزء الأول من البحث عرض علينا الباحث التجديدين مبرزا أهميتهما في تكوين المتعلم ثم انتقل، في الجزء الثاني، لتحليل بعض النتائج المنحرفة التي أفرزتهما وليفسر لنا أسباب فشل التجديدين مؤكدا على ثلاث عوامل أساسية هي: الأسلوب الأحادي والفوقي للوزارة، ضعف انخراط المدرسين ومعارضة نقابة التعليم.


يخصص هذا القسم لتقديم آليات البحث المعتمدة من قبل الباحث واستعراض  بعض النتائج المنحرفة  الناتجة عن تطبيق تجربة "التعلمات الاختيارية" في المدرسة التونسية، وقد وضع الباحث في آخر القسم جدولا ليقارن فيه بين توقعات وزارة التربية والنتائج المنحرفة (الجدول عدد3)

 

تتقدم المدونة بالشكر إلى الدكتور الشيخ الزوالي على الثقة التي وضعها فيها بالسماح لها بإعادة نشر هذا البحث القيم.

 

 

 

"إنّ الإصلاح المُؤمّل اليوم إصلاحٌ لمنظومة القيم والمثل، قبل أن يكون إصلاحا تقنيّا أو بيداغوجيا... إصلاحٌ ينبغي أن يقوده ابتكارُ القائمين على الشّأن التربويّ حلولا للقضايا المطروحة تكون مغايرة للحلول السّابقة...."

الهادي بوحوش والمنجي العكروت(2015)

 

  1. نماذج من النتائج المنحرفة للتجديدين موضوع البحث

انطلاقا من فهمنا لإحدى الخصوصيات الابستمولوجية لعلوم التربية، كما تحدث عنها الباحث الفرنسي "برنار شارلو"، وهي "العمل على مواجهة خطاب الغايات بواقع المؤسسات والوضعيات والممارسات"...وكذلك "وضع الغايات والممارسات على محك المعارف والعكس بالعكس.." (Charlot 1995 p.19)، سعينا إلى الكشف عن الواقع الميداني للتجديدات البيداغوجية المؤسساتية في تونس ولتفاعلات المدرسين معها، وعن النتائج المنحرفة للتعلمات الاختيارية ومادة إنجاز مشروع.

لجمع المعطيات حول موضوع البحث، اعتمدنا المنهج الكمي إلى جانب المنهج الكيفي، نوّعنا مصادر المعلومات وأدوات البحث، فاستخدمنا الاستبيان المعتمد أساسا على تقنية الفرز Q-Sort(ن=162) وأجرينا المقابلات البؤرية(3) وعشنا الملاحظة الميدانية المباشرة. اعتمدنا أيضا طريقة السيّر الحياتية(ن=9)، ورجعنا إلى الوثائق البيداغوجية والإحصائيات الرسمية لوزارة التربية وإلى البيانات والوثائق النقابية.

نستعرض هنا جزء من المعطيات التي أفرزها البحث ونركز اهتمامنا على ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي "ريمون بودون" (Boudon 1977) "الآثار غير المتوقعة أو المنحرفة للفعل الاجتماعي"(Effets pervers) والتي من شأنها أن تولّد اتجاهات سلبية إزاء التجديد موضوع البحث وغيره من التجديدات المؤسساتية. بصفة عامة يمكن تعريف "الأثر المنحرف" بأنه نتيجة سلبية ضارة وغير مرغوب فيها لعمل يتحول ضد نوايا صاحبه[2]   سواء كان فردا أو مؤسسة أو المجتمع عامة. حسب "ريمون بودون" : "نتحدث عن أثر منحرف، عندما يوجد شخصان أو أكثر، أثناء البحث عن تحقيق هدف معين، في وضعية  لم يُسع إليها وقد تكون غير مرغوب فيها من وجهة نظر أحدهما أو كليهما". (  p20 , 1977(Boudon, 

1.نتائج البحث حول التعلمات الاختيارية

1.1            نتائج الدراسات السابقة

تتوافق المعطيات التي أنتجها بحثنا حول التعلمات الاختيارية مع نتائج الدراسة المسحية التي أنجزتها وزارة التربية سنة 2005. هذه الدراسة عبارة عن تقرير داخلي يتكون من 420 صفحة تحت عنوان" متابعة التعلمات الاختيارية بالمدارس الإعدادية 2004-2005" صادر عن إدارة البحوث والدراسات بالتفقدية العامة للتربية. استخدمت الدراسة المذكورة تقنية الاستبيان في أربعة نسخ مختلفة شملت الأطراف المعنية بالتعلمات الاختيارية من تلاميذ(ن=1829) وأساتذة(ن=1172) ومديرين(ن= 744)  ومتفقدين(ن=229).

نتفق مع هذه الدراسة في تعديد مظاهر الاخلالات وتأكيد غياب الظروف الملائمة لنجاح التجديد. لكننا نختلف معها في إهمالها لأحد أهم المسائل التي جاءت من أجلها التعلمات الاختيارية في الأصل وهي مسألة التربية على الاختيار والإعداد للتوجيه المدرسي.

حسب دراسة وزارة التربية(2005) فإن نسبة 76.7 % من الأساتذة المستجوبين أعربوا بأن تكليفهم بتأطير التعلمات الاختيارية تم بدون رغبة منهم. في حين صرح 81.56% منهم بأنهم لم يقع التشاور معهم في اختيار زملائهم الذين يشاركونهم تأطير الأفواج.  أما المديرون فنجد أن نسبة  78.89% منهم اختاروا الأساتذة المؤطرين للتعلمات الاختيارية باعتبار ما تتيحه الموازنات من نقص في ساعات التدريس المطلوبة رسميا من المدرس.

وجدنا أيضا دراستين لكل من مجيد النقاشي(2006) وفريدة بن محمود( 2007) أنجزتا في إطار نيل شهادة الماجستير المتخصص في الإرشاد والإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي. اهتمت كل منهما بمسألة العلاقات بين التعلمات الاختيارية والتوجيه المدرسي وذلك باعتبارها تمثل "الأهداف الحقيقية التي من أجلها تأسست التعلمات الاختيارية" وذلك في محاولة لتغطية النقص الذي ميز التقييم الوارد في دراسة وزارة التربية المشار إليها آنفا.

توصلت دراسة مجيد النقاشي في خلاصتها العامة إلى تأكيد "إسهام التعلمات الاختيارية في تحقيق كفايتين: كفاية تصور المشروع التوجيهي وصياغته وإنجازه وكفاية أخذ القرار" (النقاشي2006، ص60). وأشارت الدراسة إلى أن "إنجاح مشروع التلميذ التوجيهي لا يكون بالقرارات والتوصيات فحسب بل يكون أساسا بالاشتغال على مقاربات بيداغوجية لافتة شأن التعلمات الاختيارية". وأكّد الباحث في النهاية أن الحاجة ملحة إلى التعلمات الاختيارية في مستوى اشتغال نظام التوجيه خصوصا والنظام التربوي عموما. ففي ظل غياب " التربية على الاختيار"، كآلية مرافقة وإعداد للتلاميذ من أجل بناء مشاريع مستقبلية ناضجة، تكون التعلمات الاختيارية جسرا ينفتح بفضله النظام التوجيهي على النظام البيداغوجي(النقاشي2006، ص61) .

أما دراسة فريدة بن محمود، فقد توصلت إلى تأكيد العلاقة المفترضة بين التعلمات الاختيارية وموضوع التوجيه المدرسي إذ بينت أنه "كان للتعلمات الاختيارية تأثير دال في تحقيق النضج في اتخاذ القرار لدى التلاميذ وذلك من حيث تمكينهم من تحقيق معرفة أفضل باهتماماتهم وقيمهم ومؤهلاتهم من جهة  وتحقيق معرفة أفضل بالشعب الدراسية والمهن من جهة أخرى" (p.952007 Ben Mahmoud, ).

تناولت كل من الدراستين السابقتين – النقاشي وبن محمود- مسائل هامة ذات صلة بالتعلمات الاختيارية وبالعلاقة المفترضة بموضوع التوجيه وأبعاده المميزة ومدى تأثير بعض المتغيرات المستقلة المتصلة بالمشاركين في البحث وهي كلها مسائل متداولة في  أدبيات علم نفس التوجيه وعلم الاجتماع المدرسي. يعتبر الاشتغال على مثل هذه المواضيع والاختصاصات مساهمة أساسية في نشرها وتوطينها في بلادنا. ومع تثميننا للمجهودات المبذولة من الباحثين، نسوق التعليق النقدي التالي حول الدراستين:

§       المبالغة في الاهتمام بالنواحي الإيجابية والنجاحات مع الإشارة العابرة للصعوبات والعوائق (الاكتفاء بذكر الصعوبات المادية والتنظيمية) وذلك رغم أن الباحثين قد شرع كل منهما في إنجاز بحثه بعد صدور قرار إنهاء العمل بالتعلمات الاختيارية. وقد جاء هذا القرار نتيجة صعوبات متنوعة ونتائج منحرفة كما ستبين دراستنا الراهنة.

§       وجود بعض الخلط بين دور الباحث – المطالب بالحذر العلمي وبالحفاظ على التباعدية-  ودور المتحمس لنشر التجديد ، والباحثان كلاهما كانا أستاذين مكلفين بالتكوين في التعلمات الاختيارية في جهته، قبل أن يلتحقا بالتكوين من أجل نيل الماجستير المتخصص في الإرشاد والإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي - واتخاذ موقف الدفاع اللامشروط عن التجديد وذلك رغم تصاعد أشكال الرفض والمقاومة له. نتساءل هنا هل يكفي أن يكون التجديد جيدا حتى ينجح مهما كان السياق الذي يتنزل فيه؟ أو هل"يكفي تبني خطاب مجدد حتى يتأسس التجديد الذي ندافع عنه" كما توحي بذلك المقاربات التقنوية للتجديد Tomasetto ;C., Carugati F. 2002) .) ونتساءل أيضا عن مدى موضوعية الاستنتاجات التي ذكرتها الباحثة فريدة بن محمود عندما تتحدث عن "الفراغ الحاصل بعد إلغاء التعلمات الاختيارية " واعتبار "القرار نكوصا (Regression ) عن أهداف الإصلاح التربوي2002" و"عقوبة للتلاميذ"، وعن "سحب مفاجئ وغير منتظر للتعلمات  الاختيارية،»  « Retrait subite qu’inattendu...  Ben Mahmoud, 2006,p.2)) ... كيف يمكن القول بكل ذلك، إذا علمنا أن السياق العام المميز لتجربة التعلمات الاختيارية منذ انطلاقها هو سياق الرفض النقابي الحاد لها وذلك إضافة إلى الجدل الذي أثارته والذي تجاوزت انعكاساته نطاق التعلمات الاختيارية إلى بقية التجديدات المؤسساتية التي أطلقتها وزارة التربية بل تجاوز المجال التربوي والنطاق الوطني ليشمل المجال السياسي والنطاق العربي والإسلامي كما سنرى في الفقرات التالية من هذه الدراسة.

2.1           التعلّمات الاختيارية ومسألة التوجيه والتربية على الاختيار

لاحظنا انطلاقا من عديد المؤشرات أن التعلّمات الاختيارية مستوحاة من تجارب مشابهة: مثل مسارات الاكتشاف[3] في فرنسا والتي انطلقت سنة 2001 أو التربية على الاختيار الموجودة في كندا. لاحظنا مؤشرات التشابه مع التجربة الفرنسية في هذا المجال عند مقارنة محتوى الوثيقة البيداغوجية للتعلمات الاختيارية مع محتويات عديد المراجع المكتوبة باللغة بالفرنسية مثل كتاب "كاستينكو وزخارتشوك" Castincaud et Zakhartchouk2002))[4]

كان من المتوقع أن تشكل التعلمات الاختيارية فرصة لتجسيم مبدأ التربية على التوجيه والاختيار على نطاق واسع وذلك لما تكفله من تعاون مباشر مع عدد كبير من المدرسين. وهي بذلك تمثل أيضا فرصة حقيقية لتفعيل التكوين الأساسي الذي تلقاه المستشارون في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي وتحريك الطلب الاجتماعي على خدماتهم ومهامهم المتصلة بالتلاميذ والمدرسين والأولياء. فهذا السلك المهني هو أحد التجديدات المؤسساتية التي ظهرت في النصوص القانونية سنة 1993 في إطار الإصلاح التربوي لسنة 1991 مع الوزير محمد الشرفي. وتخرجت أول دفعة من هذا السلك في جانفي 1996 ولكنه لا يزال يلقى صعوبات تتمثل أساسا في قيامه بمهام ضعيفة الصلة بما تلقّاه من تكوين نظري وتطبيقي في علوم التربية عموما وعلم نفس التوجيه خصوصا [5]  .

 خلال السنة الأولى لتجربة التعلمات الاختيارية تم تكليف عدد من مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي بتكوين المدرسين المكلفين بتنشيط التعلمات الاختيارية وتأطيرهم . تمت كذلك صياغة مشروع "دليل الأستاذ في التعلّمات الاختيارية". احتوى الدليل في غالبيته على مقترحات عملية ومجموعة من التمارين التنشيطية التي تجسم مبدأ التربية على الاختيار والإعداد للتوجيه المدرسي والمهني. واعتمد في تأليف جزء هام منه على ترجمة من مصدر مكتوب باللغة الفرنسية بعنوان "المشروع لدى الشباب" للكاتبين الفرنسيين" بيمارتان ولاقر" (Pemartin, et Legres, 1988  ). غير أن هذا الدليل أثار ضجة كبيرة وجدلا واسعا بسبب ما ورد في صفحتين من مشروع الدليل حيث نجد تمرينا تنشيطيا بعنوان "الطلاق" وآخر بعنوان "التحية". ويقدم كل تمرين تعليمات تدعو للقيام بحركات مختلفة واستخدام أعضاء الجسم...[6]  .

من مظاهر الجدل الواسع المثار حول التعلمات الاختيارية ما هو مدون -منذ أكتوبر2003 إلى اليوم - بموقع الواب اخوان أون لاين - فلسطين –العنوان التالي: الحكومة التونسية تشجع على الفساد الأخلاقي وتنشر خطة لتشجيع "الاحتكاك الجسدي" بين الطلبة والطالبات وورد في مطلعه:  "أصدرت الوزارة وثيقة عنوانها "دليل الأستاذ في التعلّمات الاختيارية وقع توزيعها على المدرسين في مفتتح هذه السنة الدراسية، قصد اعتمادها كوثيقة منهجية... ونجد بالموقع تذكيرا بالموقف النقابي وتصريحات لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي يندد فيها بالتعليمات الاختيارية. وقال عنها: "إنها تمثل إهانة للوطن، وللشعب التونسي، وللدين، وللدستور... (بقية التفاصيل بالعنوان الالكتروني التالي: .http://www.ikhwanonline.com/New/print.aspx?ArtID=2885&SecID=342

من المهم التوضيح أن الدليل المذكور عبارة عن وثيقة مرقونة بصفة غير نهائية من ناحية الشكل والمحتوى وهو موجه إلى المكونين ولا يتم توزيعه على المدرسين أو التلاميذ، إضافة إلى أنه تم التخلي عنه نهائيا بعد حوالي شهر من انطلاق العمل بالتعلمات الاختيارية. رغم كل ذلك فقد تم التركيز على هذا الدليل دون غيره من الوثائق لمهاجمة "التعلمات الاختيارية". وساهم الجدل المذكور في تعميق سياق الرفض والمقاومة للتجديد وتسبب خاصة في تعطيل الترابط بين التعلمات الاختيارية ومسألة التوجيه والتربية على الاختيار. وقد عرفت التجربة منذ بداية سنتها الثانية-في سبتمبر 2004- تكليف مجموعة من متفقدي المواد بالتعليمين الإعدادي والثانوي بمتابعتها بالجهات عوضا عن مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي

3.1 الموقف النقابي من التعلمات الاختيارية

أصدرت النقابة العامة للتعليم الثانوي ثلاثة بيانات تدعو فيها المدرسين إلى مقاطعة التعلمات الاختيارية. صدر البيان الأول بتاريخ 10 أكتوبر 2003، دعا هذا البيان المدرسين صراحة إلى "...الامتناع عن القيام بحصص التعلمات الاختيارية لأنها خارجة عن مشمولات المدرسين ومهامهم وضاربة لتطلعاتهم التربوية وآفاق المدرسة التي ينشدونها..." وذكر البيان نفسه أنّ هذه الدعوة تستند إلى الاطلاع على "مضمون الوثائق المنظمة للتعلمات الاختيارية"، واستخلص أنها  تحتوي على "مفاهيم وقيم لا تربوية تبتذل المعرفة والتعلم والمدرس والمؤسسة التربوية وتنشر الانحلال والتسيب".

تجدر الملاحظة هنا أن الاستنتاج الأخير قد استند إلى ما أثير من جدل حول التمرينين المذكورين أعلاه وليس إلى مضمون الوثيقة الرسمية المنظمة للتعلمات الاختيارية. انطلاقا من الحكم على محتوى تمريني "الطلاق" والتحية" المذكورين آنفا، تم التعميم على كامل محتويات بقية الوثائق الرسمية.

صدر البيان الثاني حول التعلمات الاختيارية بتاريخ 6 سبتمبر 2004 ليذكّر بموقف النقابة الرافض للتعلمات منذ بدايتها ويطالب الوزارة بـ"فتح تفاوض جدّي حولها، خاصة بعدما لوحظ وجود مضامين غير مقبولة تربويا وعلميا... وما أحدثته تجربة السنة الماضية من إرباك وردود فعل في صفوف المدرسين..."

أما البيان الثالث حول التعلمات الاختيارية بتاريخ 9 سبتمبر 2005 فقد واصل المطالبة بفتح التفاوض الجدّي حولها وبتقييم التجربة، لائما الوزارة على "المُضي قدما في توسيع العمل بها في السنة الأولى من التعليم الثانوي رغم مساوئ التجربة وآثارها على المنظومة التربوية". وأكّد البيان على أن "التعلمات اختيارية طوعية لا يحق للإدارة إلزام أي مدرس بها كما يحق للمدرس التمسك بتدريس مادة اختصاصه لا غير..."

على مستوى التحليل الإحصائي باستخدام تقنية الفرز Q-Sort، وجدنا أن الموقف النقابي لم يكن محل إجماع لا في الرفض ولا في القبول بين المدرسين عينة البحث( ن=162) وحاز أعلى نسب الإجابات المحايدة. أما على مستوى الملاحظات الميدانية والمقابلات البؤرية والفردية، فقد لاحظنا أنه لم يكن عاملا مساعدا للمدرسين في مواجهة صعوبات التنفيذ التي عايشتها التجربة من بدايتها إلى تاريخ إلغائها. لاحظنا ظهور أشكال مختلفة من التعبير عن الرفض للتعلمات الاختيارية لدى أعداد متفاوتة من المدرسين حسب التفاعلات التي كانت تتم مع مديري المدارس الإعدادية والمكونين. نذكر من أشكال الاحتجاج التي استخدمها المدرسون الملتزمون بالموقف النقابي الرافض للتعلمات الاختيارية ما يلي:

·       مقاطعة التكوين المبرمج في التعلمات الاختيارية وعدم الحضور بالمراكز الجهوية للتربية والتكوين المستمر.

·       حضور اللقاءات المبرمجة وتحويلها إلى منابر احتجاجية للتعبير عن الموقف النقابي.

·       رفض التعاون مع الإدارة في كل ما له صلة بالتعلمات الاختيارية

·       الإضراب عن العمل( وقد مثّل مطلب تعليق العمل بالتعلمات الاختيارية أحد أهم المطالب النقابية في البيانات الصادرة عن النقابة العامة للتعليم الثانوي بمناسبة الأيام التي دعت خلالها المدرسين إلى الإضراب عن العمل )

كشفت نتائج البحث أيضا عن وجود تناقض بين الموقف النقابي الرافض للتعلمات الاختيارية وما ورد في وثيقة نقابية مرجعية من دفاع عن أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها تلك التعلمات الاختيارية نفسها وهو مبدأ تداخل المواد وتكاملها. ففي تشخيصها لواقع البرامج الرسمية خلصت "لجنة البرامج والمناهج والوسائل التعليمية" (سبتمبر- 2002 )، إلى ملاحظة أساسية تتعلق بإحدى السمات المميزة للمعرفة في السياق العالمي الراهن وفي تونس وهي"انعدام التفمصل والاندماج بين المواد مما يمنع تحقيق التراكم المعرفي ويؤدي حتما إلى تمثل القيم الاستهلاكية" (ص7). لقد انتبهت النقابة إلى خطورة انغلاق المواد وأدركت أنّه يساهم في تدعيم القيم الاستهلاكية وعدم تكوين الإنسان الشامل ذي الثقافة العامة الواسعة، لكنها رفضت – بعد أقل من سنة، وبشدة كما رأينا- المادة الهادفة إلى التخفيف من وطأة انغلاق المواد الدراسية، وهي التعلمات الاختيارية.

كمثال عن النتائج غير المتوقعة من المدرسين، نستحضر هنا نموذجا عايشناه بجهة المهدية لأحد المدرسين ممّن نشط بحماس وفاعلية التعلمات الاختيارية في سنتها الأولى، لكنه رفض مواصلة ذلك لأن النجاح الذي حققه مع تلاميذه كان ملفتا للانتباه، وأثار غضب النقابيين إزاءه ودفعهم إلى عدم مساعدته عندما طلب نقلته إلى موطنه الأصلي في إطار ما يعرف "بحركة نقلة الحالات الإنسانية" خلال مفتتح السنة الدراسية 2004/2005.

سواء تعلق الأمر بالموقف من التعلمات الاختيارية أو من غيرها من التجديدات البيداغوجية المؤسساتية، يبدو أن مجهودات الإطارات النقابية مركزة على الاحتجاج والرفض الكامل لكل ما أقدمت عليه الوزارة من تجديدات. تبرر النقابة هذا الاحتجاج "بالصبغة الإلزامية والفوقية للإصلاح التربوي لسنة2002" ، "وبعدم موافقتها على الاختيارات الإيديولوجية التي تتأسس عليها التجديدات المقررة" وتعتبرها "خاضعة لإيديولوجيا الهياكل والمنظمات الدولية".

يظهر هنا دور نقابة التعليم الثانوي كحركة اجتماعية مناهضة للعولمة، "تدافع عن المدرسة العمومية وتتصدي للخصخصة". وقد وجدنا من خلال تحليل مضمون عديد النصوص النقابية "رفضا لأسس "المشروع الحضاري الغربي" "وما يتميز به من قيم المجتمع الاستهلاكي وهيمنة البراغماتية". ولاحظنا، إلى جانب ذلك، وجود أحكام قيمية عامة حول التعلمات الاختيارية مبنية على ما أثير من جدل حول بعض محتوياتها الجانبية أكثر منه تدقيق في محتويات الوثيقة البيداغوجية. فمن خلال اللقاءات التكوينية أو الزيارات الميدانية التي أنجزناها لفائدة المدرسين بالمدارس الإعدادية بجهة المهدية -من أكتوبر 2003 إلى ماي 2004- كانت لنا حوارات مع النقابيين المعارضين بشدة للتعلمات الاختيارية واكتشفنا عدم اطلاع  غالبيتهم على محتوى الوثيقة البيداغوجية.

   تتوافق هذه الوقائع حول اتجاهات نقابة التعليم إزاء التجديدات المؤسساتية مع ما أوردته دراسة الباحثة البوليفية "ماريا لويزا تلافيرا" ( 2002 Talavera) المعنونة: "التجديد ومقاومة التغيير بالمدارس البوليفية" حيث تناولت الباحثة أشكال مقاومة التجديد المدفوعة بظروف العمل التي يعيشها المدرسون ومساهمة النقابات في تدعيم تلك المقاومة للتجديد. نستشهد هنا بما استخلصته الباحثة في الدراسة المذكورة إذ تقول: "عادة ما يخضع المدرس لضغط برنامج الإصلاح التربوي، حيث يولّد لديه سياق التغيرات أحاسيس بالعجز وعدم الارتياح والغموض والحيرة. تجد برامج الإصلاح التربوي نفسها مقطوعة ومعزولة عن المعنيين بتنفيذها: يقدم الإصلاح التربوي القليل للمدرس ويطلب منه الكثير... يدعو المسؤولون النقابيون المدرس باستمرار إلى معارضة الإصلاح التربوي وذلك دون تقديم مشاريع بيداغوجية بديلة، وكأنّ مسألة التجديد لا تشكل جزءا من العمل أو المسؤولية الملقاة على عاتق المدرس."        ( 2002.p.9 Talavera).

نختم تناولنا لنتائج البحث حول التعلمات الاختيارية بالجدول عدد3 الذي يلخص أهم مظاهر التناقض بين توقعات الوزارة وواقع التجربة التي مرت بها التعلمات الاختيارية:

الجدول عدد3: تجربة التعلمات الاختيارية بين توقعات وزارة التربية والنتائج المنحرفة

توقعات الوزارة من التعلمات الاختيارية

النتائج المنحرفة للتجربة

كان من الغايات المنشودة للتعلمات تشجيع المبادرات الفردية ودفع المدرسين لاستخدام طرق جديدة في التنشيط وتمشيات بيداغوجية غير مألوفة في النمط التقليدي السائد:  ، العمل الجماعي، التفتح على المحيط، إدماج تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعلم، تكثيف التعاون  والتكامل بين المدرسين من مواد دراسية متنوعة...

 

وجدنا وقائع وممارسات معاكسة لما دعت له  التعلمات الاختيارية: غياب المبادرة الفردية من التلاميذ والمدرسين، احتكار عدد قليل من التلاميذ إنجاز الأنشطة والمهام المطلوبة واكتفاء الغالبية بتسجيل أسمائها مع المجموعة، انتشار التساهلية والاتكال على الأصدقاء والأولياء، توظيف سلبي للانترنت(نقل أعمال جاهزة)، مزيد من الانغلاق بين المواد الدراسية...

كان من المتوقع أن تشكل التعلمات الاختيارية قاطرة التجديدات التي أتى بها الإصلاح التربوي لسنة2002 و"أفضل ما فيه" بمقياس"حجم التغيرات البيداغوجية المنشودة ونوعيتها".

كان من المنتظر أن تدفع هذه التجربة المدرسين إلى الانخراط في التجديد البيداغوجي وإلى إنجاح عديد التجديدات الأخرى التي نشرتها الوزارة.

أمام تحديات التنفيذ التي لاقتها التعلمات الاختيارية قررت وزارة التربية "التراجع" وإلغاء التعلمات الاختيارية وكانت بذلك أول المشاريع التجديدية التي "اعترفت" الوزارة بأنها قد تسرعت في إرسائها.

مع تراجع الوزارة عن التعلمات الاختيارية زاد شعور المدرسين بالشك والريبة إزاء كل ما تدعو له الوزارة من تجديدات.

من أبرز أهداف التعلمات الاختيارية "تمكين التلميذ من أسباب النجاح في عملية التوجيه المدرسي" وكان من المأمول أن يقود نجاح التعلمات الاختيارية في النهاية إلى إرساء ثقافة التوجيه والتربية على الاختيار وتطوير منظومة التوجيه المدرسي والمهني. وأن تمثل فرصة حقيقية لتفعيل التكوين الأساسي الذي تلقاه مستشارو الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي وتحريك الطلب الاجتماعي على خدماتهم.

 

منذ السنة الأولى للتجربة تعطلت محاولة الربط بين أنشطة التعلمات الاختيارية ومسألة التوجيه والتربية على الاختيار وأُقصي مستشارو الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي من الإشراف على التجربة وزادت عزلتهم داخل المنظومة التربوية.

قد يكون من الدوافع غير المباشرة للتعلمات  الاختيارية تلميع صورة النظام السياسي وإظهاره "كرائد في مجال الإصلاح والتجديد والتغير الاجتماعي ومواكبة الحداثة والتطورات التكنولوجية..."( التعلمات الاختيارية نسخة مطابقة تماما لما يسمى في النموذج الفرنسي "مسارات الاكتشاف" " les itinéraires de découverte (IDD)

كانت التعلمات الاختيارية من أكثر التجديدات التي توافقت حولها الحملات المضادة للوزارة والنظام السياسي من قبل أطراف نقابية وحزبية متعارضة في مرجعياتها الفكرية(ما نجده في موقع "إخوان أون لاين فلسطين" بعنوان:"الحكومة التونسية تشجع على الفساد الأخلاقي..."وبها مواقف كل من نقابة التعليم الثانوي وزعيم حزب حركة النهضة وتوظيف لموقف أم زياد..

 

انتهى القسم الثالث، يتبع . للعودة إلى القسم الأول اضغط هنا و للعودة إلى القسم الثاني اضغط هنا

مصطفى الشيخ الزوّالي ، مستشار عام في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي/تونس

للاطلاع على النسخة الفرنسية – اضغط هنا

 

 

 

 



[1]  هذه الدراسة منشورة بالعدد 264 من مجلة الحياة الثقافية (أكتوبر 2015).

 

[2]  - هذا المعنى قريب من القول الشائع "طريق جهنم معبد بالنوايا الحسنة".

[3]  IDD : les itinéraires de découvertes

 

[4] نجد بمواقع الكترونية فرنسية عديدة تناولا لهذا الموضوع نذكر منها:"

www.eduscol.education.fr/cid46756/itineraires-de-decouverte

www.ac-creteil.fr/mission-college/IDD

www.cafepedagogique.net/lesdossiers....

[5]  لمزيد التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الاطلاع على دراستنا المنشورة بمجلة الحياة الثقافية عدد250 أفريل2014 تحت عنوان:"سلك المستشارين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي: الإشكاليات والآفاق" وهي موثقة أيضا بموقع أرشيف المجلات العربية :

http://archivebeta.sakhrit.com/newPreview.aspx?PID=2660974&ISSUEID=16340&AID=367941

[6]  تم تعريب نص التمرينين حرفيا دون اهتمام لما أورده المؤلفان الفرنسيان من توصيات  في عديد المناسبات وفي أسفل كل  تمرين بـ"التزام الحذر في المجتمعات، التي تكون فيها الاتصالات الجسدية محرمة عادة، والشيء نفسه بالنسبة إلى الفرق المختلطة." (Pemartin, et Legres, 1988)  ).

 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire