تشرع المدونة هذا الأسبوع في نشر بحث للدكتور مصطفى الشيخ الزوالي تناول فيه بالدرس إشكالية مهمة جدا في علاقة بمصير التجديدات البيداغوجية انطلاقا من تجديدين تم إقرارهما بالبلاد التونسية مع إصلاح 2002هما التعلمات الاختيارية ومادة انجاز المشروع. في القسم الأول من البحث عرض علينا
الباحث التجديدين مبرزا أهميتهما في تكوين المتعلم ثم انتقل، في القسم الثاني،
لتحليل بعض النتائج المنحرفة التي أفرزتهما وليفسر لنا أسباب فشل التجديدين
مؤكدا على ثلاث عوامل أساسية هي: الأسلوب الأحادي والفوقي للوزارة، ضعف انخراط
المدرسين ومعارضة نقابة التعليم. إن
هذا الفشل كان حتميا لأن هذه التجديدات كانت
تجديدات مسقطة من فوق فقد أكد
العديد من الباحثين هذا المصير بالنسبة إلى مثل هذه الإصلاحات والتجديدات فقد أشارت مثلا منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.(اليونسكو) في "
دليل من أجل وضع سياسة
تعليمية" إلى خطر "عدم تشريك المدرسين في
الإصلاحات" ملاحظة أن "
العديد من الإصلاحات يتم تصورها وفرضها من قبل
السلطات التربوية بطريقة
أحادية أو بمشاركة ضعيفة جدا من
قبل الأطراف المعنية ".إن الأطراف المعنية مباشرة والتي لها أكبر دور في
نجاح أي إصلاح هم المدرسون
وممثلوهم ولن تكون - في أحسن الحالات- الإصلاحات المفروضة من القمة نحو القاعدة
ناجعة بالكامل لأنها لم تشرك المهنيين
الذين سيتولون عملية التطبيق على الميدان وفي أسوأ
الحالات تتم معارضتها معارضة شديدة من قبل المدرسين وممثليهم إلى درجة إفشالها كليا" [2].وهو ما حصل للتجديدين الذين درسهما الباحث. تتقدم المدونة بالشكر إلى الدكتور
الشيخ الزوالي على الثقة التي وضعها فيها بالسماح لها بإعادة نشر هذا البحث
القيم. |
"إنّ الإصلاح المُؤمّل اليوم إصلاحٌ لمنظومة القيم
والمثل، قبل أن يكون إصلاحا تقنيّا
أو بيداغوجيا... إصلاحٌ ينبغي أن
يقوده ابتكارُ القائمين على الشّأن التربويّ حلولا للقضايا المطروحة تكون مغايرة
للحلول السّابقة...."
الهادي بوحوش والمنجي العكروت(2015)
تقديم
تعاقبت الإصلاحات التربوية والتجديدات
البيداغوجية التي عرفتها تونس منذ الاستقلال. لعل أهمها الإصلاح التربوي لسنة 1958
ثم الإصلاح الذي جاء به قانون 29 جويلية 1991 وآخرها ما يُعرف بالقانون التوجيهي
للتربية والتعليم المدرسي الصادر بتاريخ 23 جويلية 2002. منذ المصادقة على هذا القانون، أقدمت وزارة
التربية، دفعة واحدة، على نشر العديد من مشاريع التجديد البيداغوجي المؤسساتي...
كثرت هذه المشاريع وتنوعت من حيث مواضيعها وأدواتها، وصدرت في شأنها الأوامر
الرئاسية والمناشير والمذكرات الوزارية والتراتيب الإدارية. سعت الوزارة إلى إحداث تغييرات جذرية تمس كل مكونات المنظومة
التربوية وتمس كل الأطراف المتدخلة في الشأن التربوي.
نشأت
لدينا فكرة إنجاز بحث ميداني حول الإصلاح التربوي لسنة 2002، خلال معايشتنا
الميدانية المباشرة للتجديدات التي ارتبطت بهذا الإصلاح ولما واجهته من صعوبات
أثناء تنفيذها. عشنا
تلك التجربة واكتشفنا تلك الصعوبات بمناسبة اللقاءات المباشرة مع المدرسين وإطار
الإشراف الإداري والبيداغوجي بالمدارس الإعدادية والمعاهد وذلك في إطار عملنا
كمستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي. تجسمت فرص اللقاءات المذكورة عندما
كلفتنا سلطة الإشراف بالإعلام والتكوين حول الإصلاح التربوي والتجديدات
البيداغوجية التي تنطلق في تنفيذها. وقد كلفتنا وزارة التربية خلال السنة الدراسية
2003-2004 بالإعلام والتكوين والمتابعة لتجربة "التعلمات الاختيارية".
انطلقنا في بحثنا
من ملاحظة ظاهرة انتشار التجديدات وكثرتها وأهميتها وطنيا ودوليا، وطرحنا
قضية عامة وجوهرية تتصل بإشكاليات تطبيق "تجديدات بيداغوجية مؤسساتية"
متداولة عالميا ووليدة تطور
المجتمعات المتقدمة-الأقدم في التحديث والحداثة- في بلد مثل تونس تتداخل فيه
أوضاع وظواهر عيش ما قبل حداثية، حداثية وما بعد حداثية[3].
قادتنا
هذه القضية إلى التساؤل عن مدى التوافق بين
محتوى التجديدات التي تنشرها وزارة التربية في تونس واتجاهات المدرسين إزاءها وعن
العوامل المؤثرة في تلك الاتجاهات، سواء كانت عوامل فردية متصلة بشخصية المدرس
وسيرته الحياتية أو عوامل مؤسساتية متصلة بأسلوب الوزارة في الإصلاح وشروط
العمل داخل المؤسسة التعليمية والموقف النقابي من الإصلاح التربوي[4]
. اخترنا أن نركز في بحثنا على نموذجين من التجديدات البيداغوجية المؤسساتية في تونس وهما التعلمات الاختيارية ومادة إنجاز مشروع.(الشيخ
الزوالي2015)
في هذه الدراسة،
سنتعرف في عنصر أول على "التعلمات
الاختيارية" و"مادة إنجاز مشروع" ثم نعرض في عنصر
ثان نتائج الدراسة ونركز على الآثار أو النتائج المنحرفة التي أفرزها تطبيق هذين
التجديدين. (les effets pervers)
- التعلمات الاختيارية ومادة إنجاز مشروع
1.
دوافع الدراسة ومبررات
اختيار التجديدين موضوع البحث
تمثّل دراستنا للنموذجين
المختارين مدخلا منهجيا لفهم واقع التجديدات البيداغوجية المؤسساتية عموما وتحليل
مكوناته وآفاقه ومن خلال ذلك فهم واقع العالم التربوي في تونس وسبل تطويره. يستند
اختيارنا لنموذج التعلمات الاختيارية وإنجاز مشروع كمادة اختيارية دون غيره من
التجديدات المؤسساتية إلى المبررات التالية:
-
تمثلت أهمية
هذا التجديد في طموحه إلى "تأسيس التعليم والتعلم على مقاربات وتمشيات مغايرة للطرق السائدة"
وهو يتضمن في الآن نفسه عديد التجديدات البيداغوجية.
-
يبدو أن وزارة
الإشراف قد تعاملت مع هذا التجديد كخيار استراتيجي. فهي قد ألغته في شكله
الأول-التعلمات الاختيارية- في مارس 2006 وذلك بسبب الصعوبات الكبيرة التي لقيها
أثناء التنفيذ، ثم تؤسسه– وبحذر شديد- في التاريخ نفسه في شكله الثاني-المادة
الاختيارية إنجاز مشروع- كتعويض للشكل الأول. ولعل في إصرارنا على إجراء هذا البحث الأكاديمي حول التعلمات
الاختيارية – رغم إلغاء العمل بها- مساهمة في التعريف بها وتثمينها ودعوة إلى
إعادة إدماجها في المنظومة التربوية عندما تتوفر الظروف الملائمة لذلك.
-
مثلما
يشكل "برنامج مشروع المدرسة" "الإطار العام الذي أُريد له
أن يضمن التمفصل والانسجام بين مختلف المشاريع والتجديدات التي تعيشها المؤسسة
التربوية" (Cros 2008 p.29)
، أي أنه يمثل مشروع المشاريع، بالكيفية نفسها يمكن – نظريا على الأقل- أن تشكل
المادة الاختيارية إنجاز مشروع المجال الذي يتمرس من خلاله المدرسون على التجديدات
البيداغوجية المتعددة التي يحتاجها تطوير التعليم.
-
هذا التجديد يرتبط مباشرة بعديد التجديدات
الأخرى المتمحورة حول فكرة "المشروع"، وهو يتنزل ضمن" محاولات
"تدارك" النقص في التكوين حول المبادرة داخل هياكل التربية والتعليم
العالي" كما يرى ذلك الباحث التونسي في مجال "المبادرة" الطاهر
الميلي (Mili, 2006 p.31)[5]
ويربط باحث آخر، هذا الحرص على بيداغوجيا
المشروع بالرغبة في صياغة ملامح نظام تربوي "ترتبط فيه التعلمات بمهارات
التماثل مع التوجه العالمي للأنشطة التربوية مثل التدرب على الابتكار
والمبادرة... ( القيزاني، إبراهيم 2007، ص231) . وحسب الباحث نفسه "...فإن
الجزء الأكبر من إصلاح 2002 كان إعداد الفرد التونسي من أجل أن يتوافق فكريا
وتقنيا مع العولمة في مفهومها الثقافي والتربوي..." في سياق الانسجام مع "تيار القيم
والتصورات التي تفرضها عملية الانخراط في العولمة... وتزايد تدخل القطاع الخاص
وتضخمه وهو تدخل يفرض قيمه ورموزه مثل قيم المبادرة والابتكار وإنجاز
المشاريع." ( القيزاني، إبراهيم 2007، ص230، 231)
2. الإطار القانوني للتعلمات الاختيارية ومادة إنجاز مشروع:
يتمثل أولا في القانون التوجيهي للتربية والتعليم
المدرسي (جويلية 2002 )، حيث نقرأ في فصله التاسع: "تعمل المدرسة في
إطار وظيفتها التعليمية على ضمان تعليم جيد... يمكن من تنمية مواهب المتعلمين
وتطوير قدراتهم على التعلم الذاتي والانخراط في مجتمع المعرفة. والمدرسة
مدعوة بالخصوص إلى... تمكين المتعلمين من حذق استعمال تكنولوجيات المعلومات
والاتصال..."
ونطالع
بالفصل 57 من القانون نفسه:" تصنف
الكفايات والمهارات العامة كالآتي:
§
مهارات عملية
تُكتسب بالتمرس والتجريب...
§
مهارات منهجية
تتمثل في إكساب المتعلمين القدرة على البحث عن المعلومة الوجيهة وترتيب
المعلومات وتحليلها وتبين العلاقات بينها واستثمارها في تصور الحلول البديلة.
§
كفايات
المبادرة وتتمثل في تنمية روح الابتكار عند المتعلمين وإكسابهم القدرة على
تصور مشروع والتخطيط لإنجازه وتقييمه بالنظر إلى المعايير والأهداف المرسومة.
وتكتسب هذه الكفايات من خلال أعمال فردية وجماعية تنجز في جميع مجالات التعلم وفي
الأنشطة المدرسية الموازية.
أما في "الخطة
التنفيذية لمدرسة الغد (2002-2007)، وهي الوثيقة التي صرحت بالمحاور
الرئيسية للإصلاح التربوي في تونس ومنها التعلمات الاختيارية، فنجد بالصفحة 28
حديثا عن "كفايات المبادرة وبعث المشاريع وتتمثل في تنمية روح الابتكار عند المتعلمين
وإكسابهم القدرة على تصور مشروع والتخطيط لإنجازه وتقييمه بالنظر للمعايير
المرسومة وتكتسب هذه الكفايات من خلال أعمال فردية وجماعية ..." كما
نقرأ بالصفحة 58 العنوان التالي: "إدراج تعلمات اختيارية في المرحلة
الثانية من التعليم الأساسي" كبند رابع مجسم "للتوجه الأساسي للإصلاح
التربوي الجديد" وهو "وضع التلميذ في قلب العملية التربوية".
بالنسبة إلى
"إنجاز
مشروع كمادة
اختيارية" فقد ذُكر لأول مرة في المنشور عدد 23-1-2006 الصادر عن
وزير التربية بتاريخ 30 مارس 2006 يتعلق بالتوجيه المدرسي. قد ورد ذلك في مصاحيب
المنشور المذكور وضمن كل جدول من الجداول الستة حول شبكات توقيت التعلمات وضواربها
الخاصة بكل شعبة دراسية من شعب التعليم الثانوي الستة. أضيفت أسفل الجداول
الملاحظة التالية للتعريف بالمادة الاختيارية الجديدة:
" يتمثل في إنجاز التلميذ مشروعا
من اختياره يطور فيه قدرته على التصور والتخطيط والإنجاز ويوظف تكنولوجيات
المعلومات والاتصال وسنمدكم لاحقا بوثيقة توضيحية في الغرض".
ظلت هذه
الفقرة القصيرة- المتوارية في منشور التوجيه المدرسي- هي المصدر الرسمي الوحيد
الذي يتحدث عن المادة الاختيارية إنجاز مشروع وذلك إلى حين إصدار الوثيقة البيداغوجية في شهر سبتمبر 2006 .
انتهى
الجزء الأول – يتبع
مصطفى الشيخ الزوّالي ، مستشار عام في
الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي/تونس
للاطلاع على النسخة الفرنسية – اضغط هنا
[1] هذه الدراسة
منشورة بالعدد 264 من مجلة الحياة الثقافية (أكتوبر 2015).
[2] Guide pour l’élaboration d’une
politique enseignante. UNESCO 2019
https://www.open.edu/openlearncreate/mod/oucontent/view.php?id=165476§ion=1.3
[3] استلهمنا هذه القضية من
المفكر المغربي محمد عابد الجابري(1994) الذي يعتبرها "مشكل العصر. يتحدث الجابري عن
هذه القضية في تناوله لموضوع "الديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمعات
العربية"
[4] يمكن الاطلاع على ما نشرناه من نتائج بحثنا حول اتجاهات المدرسين إزاء التجديدات البيداغوجية والعوامل المؤثرة فيها: الدراسة الأولى حول العوامل المؤسساتية بمجلة الحياة الثقافية عدد 253 /سبتمبر 2014 والدراسة موثقة بنصها الكامل بالموقع التالي: أرشيف المجلات العربية: https://archive.alsharekh.org/Articles/115/16343/36008
أما الدراسة الثانية حول العوامل الفردية فنطالعها بالمجلة التونسية للعلوم الاجتماعيةعدد142/2014
[5] بعد عرضه للتجديدات
المتصلة بمشروع المدرسة ولتجربة التعلمات الاختيارية يذكر المؤلف "اليد في العجينة" وهي
طريقة مجددة في تدريس العلوم بالمرحلة الابتدائية وتسعى إلى تمكين كل تلميذ من
القيام بالتجارب العلمية وإيجاد الحلول بنفسه. ويضيف المؤلف الإجراءات المتخذة في
التعليم العالي لتدعيم ثقافة المبادرة:
- دروس في بعث المشاريع
- وحدات التكوين وملتقيات التحسيس حول المبادرة وبعث
المشاريع( بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية)
- ملتقيات التحسيس حول مخطط الأعمال
- الماجستيرات المتخصصة( بالمدرسة الوطنية للمهندسين
بتونس، بالمعهد الأعلى للتصرف بسوسة بالتعاون مع المدرسة العليا للتجارة
بقرونوبل)(31. Mili,.2006 p)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire