بالتوازي مع محاولات إصلاح
التعليم الأصليّ، شهدت البلاد التونسيّة نشأة نوع جديد من المؤسّسات التعليميّة المنفتحة
على العالم الغربيّ الأوروبيّ، كان بعضها من إنجازات الدولة في نطاق سياسة الإصلاح
والتعصير إنجازات الدولة في نطاق سياسة الإصلاح والتعصير.
لقد كان المشير أحمد باي،
الذي حكم البلاد التونسية من 1837 إلى 1855، مُطّلعا على ما أقدم عليه محمّد عليّ،
حاكمُ مصر، من إصلاحات شملت الجيش. وكان حريصا على النّسج على منوالها، تعزيزا
لرغبته في الاستقلال عن السّلطة المركزيّة للسّلطان العثمانيّ.
وفي هذا السّياق، انكبّ
أحمدُ باي على تعزيز الجيش النظاميّ التونسيّ، فأقدم على إنشاء مدرسة عسكريّة بضاحية المحمّديّة، القريبة من العاصمة
تونس، سنة 1837، " لتكوين الإطارات العسكريّة والإداريّة التي تحتاجها
البلاد". وفي 5 مارس من سنة 1840، أنشئ المكتبُ الحربيّ بضاحية باردو،
ثمّ حُوّل إلى مدرسة التقنيات أو مدرسة المهندسين بباردو[1]، وأوكلت
إليه مهمّة انتداب ضبّاط الجيش التونسيّ والموظفين السّامين الذين تحتاجهم الإدارة
المدنيّة للإيّالة، وتكوينهم تكوينا عصريّا[2].
تتميّز
هذه التّجربة الإصلاحيّة بأنّها:
-
تَقْصر روّادَ هذه المدرسة
المتخصّصة على أبناء طبقة معيّنة، هي الطبقة الحاكمة وحاشيتُها. فقد كان
التلاميذ ينتدبون من بين أمراء العائلة الحسينيّة، ومن بين شبّان من المماليك
واليونانيّين والشّرْكَس، إضافة إلى أبناء بعض العائلات الحضريّة القريبة من
السّلطة.
-
تركّز
على شريحة عمريّة تتراوح سنّها ما بين 12 و14، ممّا يسهّل تلاؤمها مع طبيعة
التكوين المُسْدى، وحتّى تتخرّج، برتبة ملازم، في عنفوان الشّباب، أي في سنّ لا
تتعدّى 20 سنة.
-
تعتمد نظاما تكوينيّا مُستلهما
من النّظم الأوروبيّة، ممّا يدلّ على مقاصد مُنشئها واختياراته المتمثلة في السّير
بالإيّالة نحو أوروبا ونمطها الحضاريّ والتقنيّ. فقد كان نظامُ الدّراسة يدوم ستّة
أعوام، ويستند إلى برامج التعليم المعتمدة بالمدارس العسكريّة الفرنسيّة، يُؤمّنها
أساتذة ومدرّبون من الضبّاط الأوروبيّين الذين شاركوا في الحروب التي اندلعت
بأوروبا.
-
تُركّز
في التكوين على العلوم والتقنيات العسكريّة وعلى التاريخ والجغرافيا: كانت دروس
الرّياضيات مكثفة جدّا، إذ تتواصل على مدى سنة ونصف، بمعدّل سبع ساعات أسبوعيّا،
وثماني ساعات لإنجاز التمارين. ويتابع التلاميذ في الأشهر الثمانية عشر الأولى
دروسا في الحساب، ثمّ دروسا في الحساب المطبّق على الجبْر. وكان تعليم الجغرافيا
والتاريخ متطوّرا أيضا، إذ تمتدّ دروس الجغرافيا على سنتين، بمعدّل ستّ ساعات أسبوعيّا.
-
تعتمد
في لغة التدريس اللغات الأوروبيّة، من قبيل الفرنسيّة والإيطاليّة، إضافة إلى
اللغة التركيّة، وكانت هذه اللغات تدرّس لغاية تبليغ المعلومات في الموادّ
العلميّة والتقنيّة. وإلى جانب هذه اللغات الأداتيّة والمكوّنين الأوروبيّين، كان
الشّيخ محمود قبادو مكلّفا بتدريس الأدب العربيّ الإسلاميّ، ومشرفا على ترجمة أفضل
الكتب الأجنبيّة التي كان يتولاّها أنجب الطلبة، بالتعاون مع أستاذ مستشرق إيطاليّ
الجنسيّة.
وعلى
هذا الأساس، يكون المشير أحمد باي أوّلَ منْ أقرّ، منذ تأسيس هذه المدرسة، مبدأ الثنائيّة
اللسانيّة في التدريس، مع تغليب نصيب اللغات الأجنبيّة المعتمدة في تدريس
العلوم والتقنيات العسكريّة. أمّا اللغة العربيّة فلتعلّم الأدب العربيّ والفقه
ولترجمة أفضل الكتب والمؤلفات.
وبالرّغم من الصّعوبات التي عاشتها هذه المؤسّسة [3]خاصّة
بعد وفاة منشئها أحمد باي، فإنّها نهضت بدور حاسم في تاريخ الإيّالة التّونسيّة،
إذ تخرّج فيها أبرز القادة والوزراء أمثال خير الدّين ورُسْتُم وحُسَين، وكانت
فضاء لتشكّل مجموعات سياسيّة، ولنشأة فكر ثقافيّ وسياسيّ وإيديولوجيّ عصريّ
".[4]
مقتطف من تاريخ موجز للإصلاحات التربويّة في البلاد التونسيّة منذ
القرن التاسع عشر إلى اليوم : إصلاحات فترة ما قبل الحماية الفرنسيّة )الجزء الثاني (-
الهادي بوحوش والمنجي العكروت - المدونة البيداغوجية - 9/11/2015
[1]. يقول أحمد بن أبي الضّياف في تاريخه:
" وفي غرّة محرّم من سنة 1256 للهجرة، رتّب الباي مكتبا حربيا بباردو، وجعله
في سرايته التي انتقل منها إلى القصر الجديد." أدار المدرسة عند انطلاقها ضابط إيطاليّ مستعرب يسمّى
كَليقريس CALLIGARIS بمساعدة ثلاثة ضبّاط: إيطاليّ وإنجليزي وفرنسيّ.
[2] راجع البشير التليلي(2010): العلاقات الثقافة والإيديولوجيّة بين الشّرق والغرب في البلاد التونسيّة خلال القرن التاسع عشر، (1830 -1880) (المجلد 2). المركز الوطنيّ للترجمة تونس -ترجمة عبد المجيد البدوي، تونس: دار النشر سيناترا. ج 2 ص 514.
[3] أغلقت المدرسة سنة 1868
أو سنة 1969 حسب الروايات: " الأستاذ حمّادي الساحلي يميل إلى التاريخ الثاني:
سنة 1969، مع دفعة محمد القروي، قرّر الصادق باي، إثر بعث اللجنة المالية الدولية،
الغلق النهائي للمدرسة باردو الحربية بسبب ارتفاع كلفة تسييرها ..."
Cité par Hatem El Karoui, L’école militaire
du Bardo : Un monument historique qui gagnerait à être réhabilité http://www.alterinfo.net/L-ecole-militaire-du-Bardo-Un-monument-historique-qui-gagnerait-a-etre-rehabilite_a88295.html
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire