lundi 7 novembre 2016

من ذاكرة المدرسة التونسيّة : أبو الحسن القابسيّ وتأجير المعلّمين



" فإنْ نقص تعلّمُ الصّبيّ ممّا عُلّم به، نقَصَ من الأجر المُسمّى بمقدار ما نقص من تعلُّم الصّبيّ، حتّى ينتهي من نقص التعليم إلى أقلّ ما ينفعه، فيكون له بمقدار المنفعة التي له فيه".
أبو الحسن القابسيّ

استثمرنا أيّام العطلة الصّيفية الأخيرة لإعادة قراءة كتاب شيّق ومفيد، تعود كتابتُه إلى القرن العاشر ميلاديّا، القرن الرابع هجريّا، اهْتم بالتربية وبالمُربّين والمتعلّمين، هو" الرسالة المفصّلة لأحوال المتعلّمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين لأبي الحسن القابسيّ."[1]

وقد اخترنا أن نقدّم لقراء المدوّنة البيداغوجيّة مقتطفا قصيرا منه، يتناول فيه القابسيّ، المربّي القيروانيّ الذي عاش خلال القرن الرابع الهجريّ، مسألة أجْرة المعلّم ومكافأته: (متى تجوز المكافأة). وقد لفتَ انتباهَنا ما ذهب إليه ابو الحسن القابسيّ من ربط الأجرة التي تحُقُّ للمعلّم بنتيجة الصّبيّ الذي كُلّف بتعليمه. والطريفُ في الأمر أنّ صاحب الرّسالة يؤسّس لمبدإ عاد للظّهور والانتشار في السّنوات القليلة الماضية، وهو مبدأ مكافأة المُدرّس على حسَب الجدارة، وعلى حسَب نتائج التلاميذ الذين في عهدته.

تقديم المؤلّف والكتاب

قبل أن نقدّم المؤلّفَ وكتابَه، وجب علينا تكريمُ الأستاذ أحمد خالد[2] الذي درس الأثَر وحقّقه وعلّقَ عليه، وصنَع فهارسَه وترْجم نصّه إلى اللغة الفرنسيّة، ونشره سنة 1986. وقد اعتمدنا، بصفة كلّيّة، عملَه لإعداد هذه الورقة. ونغتنم هذه الفرصة لنرفع إلى أستاذنا وأخينا الكبير عبارات التقدير والإكبار، راجين له موفور الصّحّة وطول العُمر.
المؤلّف: أبو الحَسَن عليّ القابسي القيروانيّ: 324/ 403 هجريّا
" هو أبو الحسن عليّ بن محمّد بن خلف المعارفي القابسيّ الفقيه القيروانيّ، ولد سنة 324 للهجرة / 935 م بالقيروان، على الأرجح، ومن ثمّة جاءتْ نسبةُ القيروانيّ" ..." قضى حياته في تلك العاصمة، وتولّى بها خطّة الإفتاء التي فرضت عليه فتأبّاها وسدَّ بابَه دون الناس، ثمّ قبلها عن مضَض" ... وأصبح، بعد وفاة ابن أبي زيد القيروانيّ سنة 386 ه، رئيسا للمدرسة المالكيّة بالغرب الإسلاميّ ..."[3]

الكتاب:" الرّسالة المفصَّلة لأحوال المتعلّمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين "

يقول الأستاذ أحمد خالد، في تقديمه للكتاب: إنّ "الرسالة المفصَّلة في أحوال المتعلّمين وأحْكام المعلّمين والمتعلّمين ... هي كتاب يجمع حقًّا مبادئَ التربية الُمتَّبَعة في العصر الوسيط الإسلاميّ بالكتاتيب."
و المسألة التي تناولها المقتطفُ الذي نقدّمه لاحقا تتعلّق "بضبط أجْرة المعلّم على حسَب نتيجة التلميذ الذي عُهد إليه تعليمُه: "فعندما قرأنا المقتطف الذي اخترنا تقديمه استحضرْنا الجدل القائم في الأوساط السّياسيّة والتربويّة في عدد من أقطار العالم، في السّنوات القليلة الماضية، حول إرساء مبدإ اعتماد الجدارة و نتائج التلاميذ لضبط مكافأة المدرّس ومنحته، و قد ظهر هذا التوجُّه بقوّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في الثمانينات، وأعيد طرحُه بمناسبة  المصادقة على  قانون " No Child Left Behind "  الذي يمكن ترجمته كالتالي: النجاح لجميع الأطفال، سنة 2002، في عهد إدارة الرئيس بوش، وقد تبنّت أنقلترا التوجُّه ذاتَه، كما أدْرجه المرشّح ساركوزي في برنامجه للانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة سنة 2007".[4]
واليوم، " يأخذ حوالي نصف دول منظمّة التعاون الاقتصاديّ والتنمية الأوروبيّة، OCDE، بعين الاعتبار جدارةَ المدرّس عند تحديد أُجْرته: ففي أنقلترا مثلا، يصنّف المدرّسون إلى مجموعات بحسب درجة تميُّزهم، وبالولايات المتّحدة الأمريكيّة تَعتمد بعضُ المقاطعات نتائج التقييمات الوطنيّة في اللغة والرّياضيات لتقدير مستوى أجور المدرّسين.[5] وقد تتعرّض المؤسّسات التي لا تحقّق تحسّنا في نتائجها من سنة إلى أخرى، أو تلك التي تحقّق نتائج دون المرجُوّ، إلى جملة من العقوبات التي تتصاعد إذا لم تتحسَّن نتائجُها، مع مرور الزمن، وقد يصل الأمر إلى حدّ إعفاء كامل فريق المدرّسين وإغلاق المدرسة''[6].
وعند قراءة المقطع الوارد أسفله، يفاجَئ القارئ بالشَّبه بين مواقف القابسيّ والإجراءات التي يدافع عنها أنصار مبدإ تأجير المدرّسين على حسب نتائج تلامذتهم.


المقتطف[7]

 ص 149 " قال أبو الحسن: قد قدّمتُ لكَ منْ وصف ما يَطيب للمعلّمين، يأخذونَه من المتعلّمين، ومنْ وصف ما ليس لهم أخذُه، وما يكون نزاهةً من أهل الورَع منهم، ما فيه الكفايةُ والبيانُ لما سألتَ عنه)...(
وسألتَ عن الختْمة[8] متى تَجبُ للمُعلّم، وعلى أيّ وجْه تَجب له، وكيف يكون حالُ الصّبيّ في حفظه، وقراءته، وإجارته، فيَسْتَوْجبُها المعلّمُ؟

قال أبو الحسن: ووُجوبُ الختمة للمعلّم، فيما سألتَ عنه، على وجهيْن:

أحدُهما أن يَستظْهر القرآنَ حفظًا من أوّله إلى آخره، فهذا الذي تجبُ له الخِتْمةُ على نظر حاكم المسلمين، المأمون، على النّظر في ذلك. وتكون على قَدْر يُسْر الأب وعُسْره، وقَدْر ما فهمَه الصَّبيُّ، ممّا علَّمَه المعلّمُ، مع اسْتظْهاره للقرآن. وليس في ذلك حدٌّ مؤقّتٌ، إنّما ما يُرى أنّه هو الواجبُ في عادات الناس، في مثل هذا المعلّم، بمثل هذا الصبيّ، وفي حال أبيه.
والوجْهُ الآخرُ أن يكون الصَّبيّ استكمل قراءة القرآن من المُصحف نظرا، لا يَخفَى عليه شيءٌ من حروفه، مع ما فهمه الصّبيَ ممّا ينضاف إلى ذلك، من ضَبْط الهجاء والشّكْل، وحُسْن الخطّ، فيكونُ الاجتهادُ في الواجب لمعلّم هذا الصّبيّ، أيضا، على قَدْر عادات الناس في أحوالهم. إلّا أنّ ) ص 150( المُسْتظْهَر للحفظ، مع ما صاحَبَه من حُسن خطّ، وضبْط شكْل، وهجاء، وإعراب قراءة، يكون الاجتهادُ أفضلَ جُعْلا ممّن لم يستظْهر الحفظَ، إنّما قويَ على تلاوة القرآن نظرا. وما نَقُص تعلّمُ كلّ واحد منهما عمّا وصفتُ لك، كان الاجتهادُ له فيما يجب من الجُعْل دون منْ استكْمل ذلك.
فعلى هذيْن الوجْهيْن، يُحْمَل ما يجب للمعلّم على المتعلّم، إذا هو استكمل ختمَ القرآن. وهذا إذا لم يكُن شرْطُ المعلّم للختْمة جُعْلا مُسمَّى. فأمّا إنْ شرَط ذلك، كان له ما شرَط، إذا حذق الصّبيُّ الوجْهَ الذي عُلّمَ من ظاهر أو نظَر.

فإنْ نقص تعلّمُ الصّبيّ ممّا عُلّم به، نقَصَ من الأجر المُسمّى بمقدار ما نقص من تعلُّم الصّبيّ، حتّى ينتهي من نقص التعليم إلى أقلّ ما ينفعه، فيكون له بمقدار المنفعة التي له فيه. وإنْ كان لم يشترط للختْمة شيئا مُسمَّى، حتّى يكون للمعلّم فيها، إذا أحذقها الصّبيّ، الاجتهادُ، فنقَص حذقُ الصّبيّ حتّى ينتهي إلى ما لا يسمّى تعلّما في إجادته، ومعرفته بالهجاء والشّكل والنظر في المصحف، فبأيّ شيء خَتَمَ هذا؟

ما لهذا ختمةٌ: يُمْلى على الصّبيّ فلا يتهجَّى، ويرى الحروفَ فلا يضبطها، ولا يستمرّ في قراءتها. معلّمُ هذا قد فرَّط فيه، إن كان يُحْسن التعليمَ، وإن كان لا يُحْسن التعليم، فقد غرَّرَ. ورأيُ العلماء أنّ مثلَ هذا المعلّم يَسْتَأْهل الأدبَ لتفريطه فيما وَليَهُ، وتهاوُنه بما التزمَه، وأنْ يُمنَع من التعليم، وهو صواب، إذا كان شأنُه التفريطَ أو الغرورَ بتعليمه، وهو لا يُحْسن.
ورأيُ بعضهم أنّ مثلَ هذا المعلّم لا يَستأْهل الإلزامَ، بل يستأهل اللوْمَ والتعنيفَ والغلظة والتأنيبَ من الإمام العدْل. فإنْ اعتذر المعلّمُ ببَلَه الصّبيّ، واختُبر الصّبيّ فوُجد لذلك لا يحفظ ما عُلّمَ، ولا يضبطُ ما فُهّمَ، فلم يحصل لهذا المعلّم إلّا إجارة حوزه وتأديبه، لا إجارةُ التعليم، إذا لم يُعَرّف أباه بمكانه من فَقْد الفهْم، لأنّه لو عَرَّف أباه، فرَضي له بشيء لزمه، فإذا لم يُعرّفه فقد غرّه. والمغرور لا يستأهلُ على تغريره جُعْلا ولا إحسانا.''

تقديم و تعليق  هادي بوحوش و منجي عكروت متفقدان عامان للتربية متقاعدان
 تونس أوت 2016








[1] . أبو الحسن القابسيّ: الرسالة المفصَّلة لأحوال المتعلّمين والمعلّمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين، دراسة وتحقيق وتعليق وفهارس وترجمة فرنسيّة، أحمد خالد، الشركة التونسيّة للتوزيع، الطبعة الأولى جانفي 1986.القسم العربيّ 199 صفحة، القسم الفرنسيّ 174 صفحة.
2. الأستاذ أحمد خالد من مواليد 1936 بسوسة، أحرز الديبلوم الصادقيّ وشهادة البكالوريا بجُزْأيْها، ثمّ التحق بدار المعلّمين العليا بتونس، ونال الإجازة في اللغة والآداب العربيّة سنة 1961، جائزة رئيس الجمهورية، ثمّ ديبلوم الدّراسات العليا سنة 1965، فشهادة التبريز سنة 1967، من جامعة باريس الأولى.
عمل بالتدريس والتفقد، وارتقى إلى رتبة متفقد عامّ للتربية. تقلّد عدّة مهامّ بالدولة والإدارة، منها رئيس بلدية سوسة، من 1975 إلى 1980، عضو بمجلس النوّاب، من 1989إلى 1990، كاتب دولة للتربية، من 1989 إلى 1990، وزير الثقافة والإعلام، من 1990 إلى 1991، سفير تونس بالرّباط ثمّ بموسْكو، من 1991 إلى 1996.
ذو إنتاج غزير، من مؤلفاته " الطاهر الحدّاد والبيئة التونسيّة في الثلث الأوّل من القرن العشرين"، 1976، تحقيق وترجمة الرّسالة المفصّلة لأبي الحسن القابسيّ، 1986، الطاهر الحدّاد ومسألة الحداثة من خلال كتابه امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، 2002، تحديث النحْو العربيّ موضَة أو ضرورة، 2000، الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي وإشكالية فكره السياسيّ من خلال أدبه ونضاله ورحلاته، 2001، الهادي نويرة: مسيرة مثقف مناضل ورجل دولة، 2006، الزعيم فرحات حشّاد، جزآن، 2007. ذو إسهام محمود في التأليف المدرسيّ، ومن أشهر أعماله كتاب الممتع في الأدب لتلامذة السنة الخامسة من الدرجة الثانويّة، في جزأيْن أحدهما للأدب التونسيّ، والثاني للأدب المشرقيّ، 1973...
[3] . عن مقدّمة التحقيق، ص8.
[4] Evaluer les enseignants : la paye au mérite ?
Par François Jarraud
[5] Quelle efficacité pour la paye au mérite ? Par François Jarraud
[6] opt .cité Jarraud
[7] . يقع المقتطف بالباب الأوّل من الجزء الثالث من الرسالة، ص 149 وما بعدها.
[8] . الختمة بكسر الخاء، تتعلق بفعل خَتَم الشيءَ أي أتمّه وبلغ آخرَه وفرغ منه. ومنه ختمة القرآن الكريم. والختمة جمعُها خَتمات، تعني الرَّسْم الذي يأخذه المعلّم من التلميذ، إذا ختم القرآنَ.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire