dimanche 15 octobre 2023

الكتاب المدرسي في مادتي التاريخ والجغرافيا بين الأهداف وواقع استعمالاته : منزلة كتب التاريخ والجغرافيا في العملية التربوية.

 


الهادي بوحوش

تقترح المدونة البيداغوجية على متابعيها، هذا الأسبوع، نص مداخلة قدّمها المتفقد الأول المنجي العكروت في الندوة التي نظمها  معهد علوم التربية  سنة 1994  حول "تقويم الكتاب المدرسي في المنظومة التربوية التونسية" و التي نشرت أعمالها  بالعدد الخاص عدد 22 لسنة 1994 من المجلة التونسية لعلوم التربية .

و اهتمت هذه المداخلة، التي مرت عليها ثلاث عشريات تقريبا ،  بمسألتين هما تشخيص الكتاب المدرسي في صورته  (آنذاك) و مدى مساهمته في تحقيق الأهداف العامة لنظام التربوي وأهداف التاريخ والجغرافيا بصفة خاصة وطريقة استعمال الكتاب المدرسي من قبل المعلم والمتعلم .

 

مقدمة

 إن اهتمامي بالكتاب المدرسي بدأ منذ مدة وبالتحديد خلال السنة الدراسية 1983- 1984 حين قمت بتنظيم جملة من اللقاءات التربوية مع أساتذة التاريخ والجغرافيا حول مسالة مواصفات الكتاب المدرسي واستعمالاته .

واليوم بعد مرور حوالي 10 سنوات، لا زالت مسالة الكتاب في مادة التاريخ والجغرافيا مسالة مطروحة، فالكتاب بقي عرضة لاتهامات وانتقادات من كل الأطراف التي تتعامل معه.

-         فالمدرس يرى أن هذا الكتاب لا يقدم له ما يحتاج إليه لانجاز دروسه في أحسن الظروف،

-         والتلميذ يلاحظ أن هذا الكتاب لا يمثل سوى عبئا ولا يقدم له أي نوع من الخدمات،

-          والمتقد يُحمّل الكتاب مسؤولية تدني مستوى أداء الأساتذة والحال أنه وُضع من أجل الرفع بمستوى هذا الأداء.

 كل هذه المواقف، الصادرة عن جهات مختلفة، تتفق في إصدار نفس الحكم على الكتاب المدرسي وهي التي دفعتني للمشاركة في هذه الندوة المخصصة لتقويم الكتاب المدرسي وهي الندوة الثانية حول موضوع الكتاب المدرسي بعد الندوة التي نظمها مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية عام 1985.[1]

وسوف أركز في مداخلتي التي هي في الحقيقة جملة من الخواطر والتساؤلات حول كتاب المدرسي على مسالتين:

- تهتم المسألة الأولى بتشخيص الكتاب المدرسي في صورته الحالية ودراسة مدى مساهمته في تحقيق الأهداف العامة لنظام التربوي عامة وأهداف التاريخ والجغرافيا بصفة خاصة.

- وتهتم المسالة الثانية بطرق استعمال الكتاب المدرسي من طرف المعلم والمتعلم .

القسم الأول مدى مساهمة الكتاب المدرسي في صورته الحالية في تحقيق الأهداف التربوية المتضمنة بقانون الإصلاح التربوي وأهداف تدريس التاريخ والجغرافيا .

إن الكتاب المدرسي وسيلة تعليمية أساسية في المدرسة التونسية لكنه أيضا مادة أولية مهمة لكل من ينوي تقييم النظام التربوي لأن الكتاب يمثل معيارا موضوعيا للتعرف على خصائص النظام التربوي القائم وقد جاء في كلمة افتتاح ندوة الكتاب المدرسي والنظام التربوي  التي انتظمت كما قلت سنة 1985 : "أن الكتاب هو أحد المداخل الممكنة لدراسة النظام التربوي وتحليل مقوماته الأساسية فهو يعكس فلسفته الاجتماعية وغاياته وأهدافه ويمثل أحد المجالات الدالة على خصوصية هذا النظام بما ينقله من معارف وعلوما وثقافة وما تتضمنه من مشروع ورؤية اجتماعية ثقافية وما ينسج من علاقات بين الفاعلين المؤثرين والمتأثرين بالحقل المدرسي" [2]

انطلاقا من هذا المعطى الذي أتبناه لأنه ينطبق جيدا على الكتاب المدرسي في مادة التاريخ والجغرافيا أردت أن أبدأ جملة الخواطر بطرح سؤال ومحاولة الإجابة عنه، هل تساعد الكتب المدرسية في مادة التاريخ والجغرافيا في تصورها الحالي على تحقيق الأهداف التربوية الصريحة والضمنية للإصلاح التربوي؟

 الإجابة عن هذا السؤال تفترض التذكير ببعض الغائيات والأهداف التي وردت في قانون 29 جويلية 1991 والأهداف التي وردت في سفر برامج التاريخ والجغرافيا للتعليم الإعدادي والتعليم الثانوي.

 نصّ قانون النظام التربوي في باب المبادئ الأساسية على أن النظام التربوي يهدف من جملة ما يهدف إليه ترسيخ الوعي بالهوية الوطنية والحس المدني والشعور بالانتماء الحضاري والوفاء إلى تونس وإعداد الناشئة لحياة لا مجال فيها بأي شكل من أشكال التفرقة.

 كما يهدف النظام التربوي إلى "تمكين المتعلمين من حقهم في بناء شخصيتهم ومساعدتهم على الترشد الذاتي حتى ينشئوا على قيم التسامح والاعتدال"  ويهدف أيضا إلى" مساعدة المتعلم على إذكاء شخصيته وتنمية ملكاته وتكوين الروح النقدي والإرادة الفاعلة".

 وتستمد برامج التاريخ والجغرافيا بالخصوص أهدافها من هذه المبادئ الأساسية إذ نجد أن التاريخ يهدف إلى تكوين المواطن التونسي المتجذر في واقعه الحضاري التونسي الواعي بانتمائه العربي الإسلامي والمتفتح على مختلف الحضارات والمتسامح والمتعلق بالحرّية والموضوعيّة وحبّ الحقيقة كما يهدف تدريس التاريخ إلى جعل التلميذ قادرا على التحليل والاستنتاج والتأليف وعلى التعلّم الذاتي والنقد العلمي وإكسابه الروح التاريخية[3].

 إن ما يلاحظ من خلال تحليل هذه الأهداف التي انتقيناها عمدا إنها تتفرع إلى مجموعتين:

-         مجموعة أولى تحمل جملة من القيم والمبادئ التي تمثل النمط الاجتماعي الذي تسعى إلى تكوينه المؤسسة التربوية وينبع هذا النمط من الاختيارات الأساسية للدولة أي إنها تحدد ملامح المواطن الصالح القادر على الاندماج في مجتمعه.

-          مجموعة ثانية تؤكد على مهارات من شانها أن تحرر المتعلم وذلك بفضل امتلاكه جملة من الآليات الفكرية الخاصة بالمعرفة التاريخية أو المعرفة الجغرافية كالقدرة على الملاحظة والتحليل والنقد و الاستنتاج وهي آليات و مهارات تمكنه من بناء المعرفة التاريخية و المعرفة الجغرافية بالاعتماد على الذات.

ولنا أن نتساءل الآن إلى أي مدى تساهم محتويات الكتب المدرسية في ماده التاريخ والجغرافيا في تحقيق هذه الأهداف الصريحة والإجابة عن هذا السؤال تمر عبر تحليل هذه المحتويات.

 وهنا سوف أفرق بين كتب التعليم الثانوي ( في مرحلته الأولى التي تندرج ضمن التعليم الأساسي) وبين كتب التعليم الابتدائي.

 II- - كتب التاريخ والجغرافيا في التعليم الثانوي

 إنّ الدروس  التي نجدها في كتب التاريخ والجغرافيا في وضعها الحالي في التعليم الثانوي تتكون من قسمين:

 قسم أول يتمثل في النص الذي يُعدّه المؤلف أو المؤلفون وهو عادة نص متكامل حسب تخطيط يحاول تقديم الدرس بطريقة تتلاءم مع مستوى التلميذ. ويضم هذا القسم معلومات ومعارف جاهزة والتي عادة ما تأخذ صبغة الحقيقة الثابتة كإنتاج الحبوب في البلاد التونسية وتوزعه الجغرافي أو كأسباب الحروب بين قرطاج وروما ومراحلها. ويمثل هذا القسم العمود الفقري لكلّ كتاب من الكتب المدرسية المتداولة لدينا حاليا فهو يحتل أكبر عدد من الصفحات ويُعتبر نقطة ارتكاز الدرس ويفرض نمطا تربويا معينا.

 

قلت إنّ هذه المعارف تقدم كمسلمات جاهزة وما على المتعلم سوى حفظها واسترجاعها عند الحاجة (بمناسبة الاختبارات) على الشكل الذي قدمت به فلا مجال أن يقدم مراحل الحرب القرطاجية الرومانية حسب تقسيم مختلف عن التقسيم الذي اختاره مؤلف الكتاب كما أنّه لا مجال الحديث عن إنتاج الحبوب إلّا من زاوية نظر المؤلف.

 و بذلك يكون هذا القسم عاملا محددا لنمط تربوي يقوم على التذكر واسترجاع المعارف والمعلومات كما انه يفرض على المتعلم نمط تفكير تم اختياره وتحديده من طرف المؤلف.

 أمّا القسم الثاني من الكتاب فهو يتألف من المرفقات أو مصطلح على تسميته بالجهاز البيداغوجي للكتاب أي الوثائق المتنوعة كالخريطة والصور والرسم والإحصاءات والنص التاريخي وغيرها كثير، أي كلّ ما يمثل أدوات المؤرخ أو الجغرافي و وجود هذه الوثائق يفسر بنية تدريب التلميذ على آليات بناء المعرفة (المنهجية) الجغرافية او المعرفة التاريخية إذ أنّ هذه الوثائق هي المواد الخام التي يستعملها المؤرخ أو الجغرافي لبناء خطابهم وقد يختلف هذا الخطاب من مؤرخ لآخر رغم اعتمادهما على نفس المواد الخام هذا علاوة على أن اكتشاف وثائق جديدة قد تُغيّر الخطاب التاريخي تغييرا كاملا.

 من هذا المنطلق تتجلى أهمية هذا القسم ودوره في تحقيق أهداف المجموعة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الحديث ( الترشد الذاتي - تحرير المتعلم و إكسابه ملكة النقد...)  

إلّا أنّنا نلاحظ أن هذا القسم لا يحظى بعناية المؤلفين مثل ما يحظى به القسم الأول ويتجلى ذلك في ثلاث ظواهر:

 أولا المساحة المحدودة لهذا القسم، فقد بينت العديد من الدراسات التي اهتمت بكتب التاريخ والجغرافيا منذ ظهورها في بلادنا إلى آخر ما صدر في السنة الماضية[4]  أن الجزء المخصص للوثائق لا يمثل عادة سوى نسبة ضعيفة من الصفحات (مع وجود بعض الاستثناءات) رغم إلحاح الأساتذة على ضرورة تدعيمه[5] وعلى الرغم مما توصي به كراس شروط التأليف المدرسي الذي يؤكد على " أن هذا جزء (الوثائق)  يجب أن يشكل الجانب الأساسي من الكتاب".[6]

 ثانيا قصور في مستوى تصور هذا القسم  إذ نلاحظ أن القسم الوثائقي لا يخضع لتصور يساعد على تنمية مهارات المتعلم ولا على التعلم الذاتي فالبعض من الوثائق توضع لملء الفراغات وأغلبها لا يكون مصحوبا بالأسئلة التوجيهية التي توضح للمتعلم ما هي طبيعة العمل المطلوب منه والتي من المفروض أن تساعده على إعادة بناء المعرفة بإتباع مثلا منهجية المؤرخ نفسه أي الانطلاق بتحديد المشكل ثم تقديم الفرضيات فالبحث عن المعطيات في الوثائق لتأكيد تلك الفرضيات ثم تحليل هذه المعطيات للوصول إما لتأكيد الفرضية المقدمة أو لتفنيدها و صياغة فرضية جديدة.

 

 

ثالثا نلاحظ غياب العلاقة العضوية بين النص التاليفي والقسم الوثائقي يلاحظ في غالب الحالات عدم وجود علاقة واضحة وتفاعلا بين القسمين ففي بعض الكتب قام المؤلفون بوضع الوثائق في آخر الدرس وهذا موضوع يعكس منزلة هذا الجانب في الدرس فالمهم للمؤلف هو ما ورد في القسم الأول أو في الصفحات الأولى والوثائق في هذه الحالة تكملة للدرس وليس جزء منه ويمكن الاستغناء عنها وعمد بعض المؤلفون الآخرين إلى دمج الوثائق مع النص المؤلف قصده تهوئته ولكن حتى هذا النمط لم يغير جذريا في منزله القسم الوثائقي إذ لو قمنا بحذفه لما تأثر من ذلك بناء الدرس ولا ما نقصت قيمته وقيمه الكتاب جمله أما لو قمنا بالعمل العكسية أي لو حذفنا الجزء التأليفي وتركنا فقط الوثائق لأصبح الكتاب مبهما لا قيمة له ولا استحال استعماله من طرف المتعلم والمعلم .

نصل الآن إلى محاولة التعرف على مدى استجابة الكتب المدرسية الحالية في التعليم الثانوي إلى الأهداف التي أشرنا إليها في بداية حديثنا في هذا الصدد يمكن أن نقول بأن الصيغة الحالية لكتب التعليم الثانوي لا تساعد بالمرة على تحقيق الترشد الذاتي للمتعلم ولا على اكتساب الفكر النقدي من طرف المتعلم وذلك لعدة أسباب من بينها أن القسم الأول من الكتاب أي القسم المؤلف وهو القسم المهيمن يعيق تكوين إليه التفكير التاريخي والجغرافي لأنه يركز على المعلومات والمعارف جاهزة والتي لا يمكن لها أن تدوم فهي تنسى بمجرد انتهاء وظيفتها النفعية (أي إجراء الاختبار آو الفرض).

 إن القسم الأول يشل ملكات التفكير لدى المتعلم لأنه يقدم حلولا جاهزة وخطابا ثابتا قد يكتسي طابعا مقدسا في كثير من الحالات وهو ما يتنافى تماما مع الفكر التاريخي مثلا وأخيرا إن القسم الأول يكلس نمطا تربويا يقوم على التعليم ولا يساعد على التعلم هكذا يبدو الكتاب المدرسي في صيغتي الحالية وسيلة التعليم وليس وسيلة تعلم.

كتاب التاريخ والجغرافيا التعليم الابتدائي

إنّ ما قلته فيما يخص كتب التاريخ والجغرافيا في التعليم الثانوي لا ينطبق على كتب التعليم الابتدائي فقد جاءت بعض العناوين الجديدة في صورة مغايرة تماما ولتقديم هذه الصورة سوف اعتمد على مثالين وهما كتاب التاريخ للسنة الخامسة[7] وكتاب الجغرافيا للسنة السادسة[8].

 جاء محتوى الكتابين على نمط متقارب جدا فهو عبارة عن مجموعة من الأنشطة المتنوعة تنطلق كلّها من وثائق مختلفة. يوجه التلميذ إلى معالجتها وغاب في الكتابين القسم المؤلف الذي يهيمن على كتب التعليم الثانوي.

ويعبر الكتابين عن تحول في تصور الكتاب المدرسي في المدرسة الابتدائية لأن الكتابين القديمين كانا يخضعان للتصور السائد الآن في التعليم الثانوي.

 ويمكن تجسيم هذا التحول من خلال مثالين نأخذ الأول من كتاب التاريخ[9] والثاني من كتاب الجغرافيا[10] واخترنا نفس الموضوع في الحالتين فكتاب ألسنه الخامسة السابق تناول درس سكان شمال إفريقيا القدامى الأمازيغ على شكل نص موضوعا من قبل المؤلف المؤلفين في أربع صفحات مرفقة بصورتين مدمجتين في النص المؤلف بنص في نهاية الدرس الكتاب الحالي الذي تناوله نفس الموضوع تقريبا السكان الأصليون للبلاد التونسية فقد غيب تماما النص المؤلف واقتصر على تقديم مجموعه من الأنشطة التي تمكن التلميذ من التعامل مع وثائق مختلفة كالنص والخريطة والنقيشة وتدعوه إلى البحث الذي يمكنه من إعادة بناء المعرفة التاريخية ونجد في كتاب الجغرافي نفس الشيء فلو آخذنا مثلا درس ألصناعه في البلاد التونسية لرأينا بين الكتاب السابق يقدم الدرس في شكل نص موضوعا مقسم إلى عناصر ومبوبا تبويبا منطقيا ومرفقا بمجموعه من الخرائط ويتوج الدرس بمجموعة من الأسئلة التقويمية ترتكز جل جلها على التذكر أما الكتاب الحالي فهو لا يتضمن لا يتضمن نصا مؤلفا فالدرس عبارة عن مجموعة من الأنشطة التي تنطلق من ملاحظة وثيقة فقراءتها وينتهي النشاط أو مجموعة الأنشطة باستنتاج يقوم به المتعلم.

 هذا التحول في صيغته الكتاب المدرسي وفي مضمونه يمثل تحولا في منزلة الكتاب في المدرسة الابتدائية الذي انتقل من وسيلة تعليم إلى أداة تعلم وهو ناتج عن تحول في نمط تربوي مركز على المعلومات الجاهزة في شكل خلاصات مطولة ومنظمة إلى نمط يسعى إلى تدريب التلميذ على آليات بناء المعرفة بما يحقق سبل التعلم الذاتي.

 بقي أن نتساءل هل أن هذه الكتب - في صيغتها الجديدة- قد ساهمت في تكوين التلميذ تكوين مغايرا عن التكوين الذي كانت تؤمنه الكتب السابقة، هذا موضوع هام وسؤال وجيه، لكنني لا استطيع أن أجيب عليه اليوم لأن ذلك يحتاج دراسة أشمل من هذه المداخلة تهتم بتقويم وسيلة وتقويم طريقة استعمالها لأن تقويم الوسيلة وحده لا يكفي للإجابة عن السؤال المطروح إذ أن قيمة الأداة  والوسيلة لا تبرز إلا من خلال حسن استغلالها وهو ما سنحاول ملامسته في القسم الثاني من هذه المداخلة .

 

القسم الثاني مسألة استعمال الكتاب المدرسي

 انطلق في هذا القسم الثاني بملاحظة عامة حول استعمال الكتاب المدرسي في التعليم الابتدائي والثانوي وملخص هذه الملاحظة هو أن الكتاب المدرسي يشكو من حالة سوء استغلال كميا ونوعيا. ولدراسة هذه الظاهرة سأحللها في مستوى التعليم الثانوي فقط لأنّ دراستي لواقع استعمال الكتاب المدرسي بالمدرسة الابتدائية لا يزال في مرحله الأولى لذلك أفضل أن لا أقدم الآن نتائج بحث لم يتجاوز مستوى طرح الإشكالية.

 إنّ الكتاب المدرسي في التعليم الثانوي هو كتاب موجه للتلميذ وللأستاذ في آن واحد[11] ويستعمله الاثنان على حد السواء، هذه الازدواجية هي سبب من أهم الأسباب التي يفسر سوء استغلال الكتاب المدرسي إذ كيف يمكن أن تلبي الوسيلة التعليمية الواحدة انتظارات جمهورين مختلفين (أي الأستاذ والتلاميذ).

 فبالنسبة للأستاذ تؤكد كل الملاحظات الميدانية والاستمارات أن الكتاب المدرسي يمثل المرجع الأساسي[12] في مرحلة تصور الدرس وإعداده ويصبح المرجع الوحيد لنسبة كبيرة من المدرسين ويصل الأمر إلى حدّ اعتبار الكتاب المدرسي في مكان سفر البرامج الرسمية في كل مراحل إعداد الدرس ( تحديد عنوان الدرس واهم عناصره).

و على عكس ما صرح به الأساتذة في عملية سبر الآراء التي قام بها العديد من الدارسين لموضوع كتاب المدرسي فإننا لاحظنا من خلال المعاينة الميدانية أن الأستاذ يحافظ على تخطيط الكتاب المدرسي ويقوم بتلخيص فقراته.( في سبر آراء شمل 75 أستاذا أنجز سنة 1984[13] صرح 88% من الأساتذة أنهم لا يحافظون على تخطيط الكتاب المدرسي إلّا في مناسبات قليلة كما صرح 76% منهم أنهم لا يحافظون على المحتوى العلمي إلا قليلا).

 يعود حسب سبر الآراء المذكور سابقا اقتصار الأستاذ على ما يقدمه الكتاب المدرسي من معارفه (شكلا ومضمونا) إلى عدّة أسباب أهمها انعدام المراجع بالمنطقة التي يوجد فيها الأستاذ و كثرة المستويات وعدم القدرة على شراء الوثائق ولا يبرر سوى ربع الأساتذة استعمالهم الكتاب مدرسي بجودة المحتوى الذي يقدمه.

 إن هذا الوضع تسبب في تحول الكتاب المدرسي من منزلة المعين والمساعد الذي يقدم تصورا للبرامج إلى منزلة ماسك المعرفة التي يجب أن تقدم كما هي من دون تصرف دون نقصانا ولا زيادة. فكم من مره لاحظنا الأستاذ يقضي وقتا طويلا في تناول درس من الدروس ويتجاوز الوقت الذي حدده له البرنامج بسبب واحد وهو حرصه على تناول كل الفقرات والجزئيات الموجودة بالكتاب المدرسي.

 وكم من مرّة، حاول الأستاذ أن يبرر مواقف التربوية خاطئة، بالرجوع إلى الكتاب المدرسي، ففي الأسابيع الأخيرة، مثلا، صادف  أن حضرت درسا في السنة الأولى وكان موضوعه المياه البحرية والقارية، لم تقع الإشارة أثناء الحصة إلى المياه الجوفية و لما استفسرت الأستاذ في الأمر، كان تعليله الكتاب لم يتعرض للمسألة-  وكان الأستاذ على حق- فالكتاب لم يتعرض فعلا للمسألة. وبإمكاني أن أعدّد الأمثلة المشابهة لهذه الوضعية وسببها هو التقيد بالكتاب المدرسي، فتحول الأستاذ إلى عبد للكتاب المدرسي والحال أن أكثر من 50% من الأساتذة يُعبرون عن عدم رضاهم بمحتوى الكتاب المدرسي وبمنهجيته.

إنّ استفحال ظاهرة التقيد من كتاب المدرسي لحد الاكتفاء بمحاكاته هو الذي يفسر ظهور فصل جديد في التوجيهات الرسمية لتدريس التاريخ والجغرافيا في السنة الدراسية الماضية 1993 1994 خصص لاستعمال الكتاب المدرسي (التوجيهات القديمة لم تتعرض للمسألة بالمرة). ومما جاء في هذا الفصل" أنّ الكتاب المدرسي في صورته الحالية وسيلة تعليمية موجهة للأستاذ والتلميذ معا، فهو مرجع من المراجع ويمكن اعتماده في مناسبات عدة في مرحلة الإعداد من طرف الأستاذ على ألّا يقع التقيد بما جاء فيه بصفه مفرطة ".

 إن هذه الإشارة الصريحة لعدم الإفراط في التقيّد بمحتوى كتاب المدرسي هي محاولة لمواجهة تفشي الظاهرة ومحاولة للحد من هيمنة الكتاب المدرسي على الأستاذ.

 هكذا أصبح الكتاب المدرسي يحتل منزل مركزية بالنسبة إلى الأستاذ ( والحال أن الكتاب في منطلقه هو كتاب التلميذ) الذي خيّر أن يتقيد به ويتخلى عن الإبداع ليكتفي بالمحاكاة ومن هناك حصل نوع من التساوي في قيمة الدروس بمفعول التسوية نحو الأسفل.

 وهو وضع خطير جدا خاصة في نظام تربوي اختار نظام الكتاب الرسمي الواحد الذي يفرض تصورا خاصا قد لا يكون التصور الأفضل لأننا نعلم أنه لا وجود لكتاب مثالي، فتعدد الكتب يمنح الأستاذ على أمكانية المقارنة والاختيار ويساهم في التنوع.

هكذا نلاحظ ان كتاب المدرسي مستغل استغلالا مكثفا من طرف الأستاذ في مرحلة إعداد الدروس.

*أما بالنسبة إلى التلميذ فالوضع يختلف اختلافا كلّيا بالنسبة لاستعمال الكتاب فقد لاحظنا سوء استغلال كمّي ونوعي للكتاب.

بينت الزيارات الميدانية وأكدت الاستمارات ومن أهمها الاستمارة التي أشرت إليها سابقا بأن الأساتذة يكلفون التلاميذ بأعمال في المنزل انطلاقا من الكتاب المدرسي (نسبة 100% من الأساتذة ونسبة 98 % من التلاميذ). فهذه النسب لا تجعل مجالا للشكل من استعمال الكتاب المدرسي من طرف التلميذ بتوجيه من أستاذه ولكن عندما نحاول التعرف على نوع هذه الأعمال نضطر إلى تعديل موقفنا من هذا الاستعمال. فهذه الأعمال لا تتعدى أن تكون نسخ الخرائط والرسوم (70% من الأعمال) او قراءة النصوص (20%) وتلخيص الدرس المنجز (10%).

 إن هذه الأعمال وخاصة نسخ الخرائط ونسخ البيانات لا تكتسي أي صبغة تكوينية في مادتي التاريخ والجغرافي ولجوء التلميذ إلى الآلة الناسخة يعتبر رد فعل ذكي  و رمزي رغم غضب الأستاذ واستنكاره.

 هنا يكمن ما قصدت بسوء استعمال الكتاب المدرسي بتوجيه من الأستاذ من حيث نوعية الأعمال ونجد إلى جانب ذلك إهمالا لبقية محتوى الكتاب المدرسي فالتلميذ لا يعود لكتابه لأنّه لا يرى فائدة في ذلك ويعلل هذا الموقف بتطابق محتوى درس الأستاذ بمحتوى الكتاب وهو ما يجعله يكتفي بما هو موجود بكراسه ... نلاحظ في هذا المستوى تقاطع بين استعمال الكتاب المدرسي من طرف الأستاذ وسوء استعماله من طرف التلميذ خارج القسم فالعلاقة واضحة  إذ أن الاعتماد المفرط للأستاذ على الكتاب المدرسي في مرحل تصور الدرس وإعداده هو السبب المباشر في عزوف التلميذ على استعمال الكتاب المدرسي وقد أدت هذه الوضعية الى نتيجة منطقية تتمثل في عدم إقبال التلميذ على شراء الكتاب المدرسي وحتى في صوره وجوده لديه فهو لا يحضره معه نظرا لعدم توفر الحاجة إليه داخل القسم .

هكذا حاولت أن أبرز سوء الاستغلال من طرف التلميذ والأستاذ ولكن أريد أن انهي هذا القسم بالإشارة إلى أهم العوائق التي تحول دون تحسين طرق استعمال الكتاب المدرسي وسأركز على عائقين أساسيين في نظري:

  يتمثل الأول في صيغة الكتاب الحالي التي وصفناها في القسم الأول من المداخلة،  فالكتاب في شكله الحالي ،لا يمكن من الاستعمال إلا بالطريقة المعمول بها اليوم وما إلحاح الأساتذة على تعويض الكتب الحالية بكتاب خاص بالأستاذ وآخر خاص بالتلميذ يتضمن جملة من الوثائق فقط ، إلّا تعبيرا عن صعوبة توظيف الكتاب الحالي بطريقة مجدية.

و أما الثاني  فيتعلق بغياب تدريب التلميذ على استعمال الكتاب المدرسي، إن الكتاب كاداة يحتوي على جملة من الرموز كما أن بنائه يخضع إلى منطق معيّن واستعماله من طرف التلميذ ليس بالأمر البديهي ولا بالأمر الهين، فالتلميذ في حاجة إلى الدربة على استعماله حتى يحذق استعمال الفهرس وحتى يفرق بين ما هو نص مؤلف وبينما  ما هو جانب توثيقي كما يحتاج إلى الدربة على التلخيص وعلى استعمال الوثيقة  الذي بدونها لا يمكن أن يستفيد من الكتاب المدرسي[14].

 المنجي العكروت ، متفقد أول للتعليم الثانوي – اختصاص تاريخ و جغرافيا

المجلة التونسية لعلوم التربية – عدد خاص: تقييم الكتاب المدرسي – عدد 22 -1994.

للاطلاع على النسخة الفرنسية – اضغط هنا.



[1] ندوة الكتاب المدرسي و النظام التربوي –تونس 25- 30 مارس 1985.

[2] منضف الحاجي – كلمة تقديم الندوة  . ض 7- المرجع المذكور أعلاه.

[3] برامج التاريخ و الجغرافيا – مارس 1993 – باب الأهداف – الإدارة العامة للبرامج و التكوين المستمر.

 

[4]  المنجي العكروت . كتاب التاريخ والجغرافيا – النشرة التربوية عدد 20- 198

[5] Chedly Baccar . Le manuel scolaire dans l'enseignement de l'histoire et de la géographie . in  Actes du colloque – le manuel scolaire et le système éducatif. Cérès – Tunis 1986.

[6] المواصفات النهائية الخاصة بكتاب التاريخ للسنة الخامسة من التعليم الثانوي – الإدارة العامة للبرامج و التكوين المستمر -15/02/1985

[7] كتاب التاريخ للسنة الخامسة ابتدائي السابق و الكتاب الحالي

[8] كتاب الجغرافيا  للسنة السادسة ابتدائي السابق و الكتاب الحالي

[9] كتاب التاريخ للسنة الخامسة ابتدائي السابق و الكتاب الحالي

[10] كتاب الجغرافيا  للسنة السادسة ابتدائي السابق و الكتاب الحالي

[11] التوجيهات الرسمية الخاصة بتدريس التاريخ و الجغرافيا – الإدارة العامة للبرامج و التكوين المستمر 1992-1993

[12] حسب سبر آراء قام به الأستاذ فريد بن سليمان سنة 1984 و شمل 75 استاذا في مادتي التاريخ و الجغرافيا أن 100 ÷  يستعملون الكتاب المدرسي- النشرة التربوية عدد   سنة 198.

[13] نفس المصدر أعلاه

[14] G.Hugonie (1992), Pratiquer la géographie au collège. A.Colin. 213pages.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire