lundi 16 octobre 2017

محمّد الأصرم وتنظيم التّعليم الابتدائيّ الأهليّ




شارك محمّد الأصرم [1]  في أشغال "مؤتمر المُسْتعمرات"  [2] المُنْعقد بمدينة مرسيليا الفرنسيّة من 5 إلى 9 سبتمبر 1906، بمناسبة إقامة أوّل "معرض للمستعمرات" بالمدينة ذاتها. وعالج في مداخلته قضايا عديدة تتعلّق بتعليم التّونسيّين على عهد الحماية الفرنسيّة على البلاد التّونسيّة، منها[3]:

‌أ.       تنظيم التّعليم الابتدائيّ الأهليّ في علاقته بالتّعليم الّلائكيّ الفرنسيّ،
‌ب. موقعُ التّونسيّين من التّعليم الثّانويّ والتّعليم العالي،
‌ج.   الوضعية الّتي آل إليها التّعليم الصّادقيّ في ضوء الإجراءات المعرقلة لنموّه،
‌د.     تنظيم التّعليم الصّناعيّ صلته بالصّناعات المحليّة القديمة...

إنّ طرحَ هذه القضايا التّربويّة من قبل واحد من مُؤسّسي حركة الشّباب التّونسيّ، والإجراءات التي نادى بإقرارها لفائدة التّلاميذ من الأهالي، جاءت ردّا على الإجراءات التّضْييقيّة الّتي بادرت سلطة الحماية إلى اتّخاذها للحيْلولة دون انخراط الأطفال الأهالي في منظومة التّعليم العموميّ، وموقفا من التّوجّهات الجديدة التي تريد فرنسا تكريسَها، في مُختلف المجالات بالبلاد التّونسيّة، ومنها مجال التّعليم.

وبالفعل، فمنذ نهايات القرن التّاسعَ عشرَ وبدايات القرن العشرين، ولّى زمانُ جول فيري Jules Ferry ومُناصريه وسياستهم "السّخيّة إزاء الأهالي": فقد كانوا ينادون بالعمل على دمج السّكّان الأهليّين في الأمّة الفرنسيّة، عبْر تعليمهم اللغة الفرنسيّة، وإيناسهم بالثّقافة الأوروبيّة والحضارة الغربيّة، مُستخْلصين العبرةَ من تجربتهم بالجزائر القائمة على حرمان الأهالي من التّعليم العصريّ، يقول فيري:" فلْنتجنّبْ أن نصنع بالبلاد التّونسيّة ما فعلْناه بالجزائر حيث تعمّدنا ترك عُموم المسلمين في الجهالة" [4].  فمنذ 1882، ضُبطت التّوجّهات الكبرى للسّياسة التّعليميّة الفرنسيّة بالإيّالة التّونسيّة فيما يلي:
‌أ.       الحفاظ على الوضع القائم وعدم المَساس بالمنظومة القائمة قبل الحماية، احتراما للهويّة الدّينيّة للأهالي وللجاليات الأجنبيّة ومدارسها الحرّة،
‌ب. فرْنسة السّكّان عبر تعليمهم اللغة الفرنسيّة التي يجب أن تصير أداة التّعليم المُوجَّه إلى التّونسيّين وغير الفرنسيّين المقيمين بالإيّالة،
‌ج.   إرساء تعليم هادف مهنيّ وعمليّ، يوفّر للمنشآت الفرنسيّة النّاشئة اليدَ العاملة الفلاحيّة والصّناعيّة الضّروريّة لنشاطها[5].  
ولكن منذ 1897، تراجعت السّلط التّعليميّة الفرنسيّة بالإيّالة عن سياستها المشجّعة للتّونسيّين الأهالي على الانخراط في منظومة التّعليم العموميّ، بعد أن تلقّت أمْرا من وزارة الخارجيّة يقضي " بإيقاف النّجاح المدرسيّ الباهر للتّونسيّين"، وقامت مقامَ سياسة الدَّمْج Assimilation سياسة جديدة تسمّى التّشارك Association، عرّفها وزيرُ المستعمرات، سنة 1906، على النّحو التالي:" علينا أن نتخلّى عن الدّمج إلى الأبد. صحيحٌ، توجد مُعادَلات في عبقريات مختلف الأجناس المعمّرة لليابسة، لكنْ لا وجودَ لمُتَماثلات. لماذا نريد، إذنْ، أن نفرض عاداتنا الفكريّة وأذواقَنا وتقاليدَنا وقوانينَنا على شعوب ترى في مفاهيم الأسرة والمجتمع والملْكيّة دلالات مختلفة عن دلالاتنا؟ إنّ السّعي للدّمْج لا يعدو أن يكون سعيا إلى عمل غير نافع وخطر" [6].
فالدّمج صار عندهم" من الأخطاء الوخيمة عاقبتُها"، أمّا التّشارك فمُحبّذ، وهو يعني التّعايش بين الحامي والمَحميّ، مع الإبقاء على خصوصيّة كلّ جنس، واحترام عاداته وتقاليده ولغته. 
وفي هذا السّياق الجديد، الذي فرضه حزبُ المعمّرين والمُتفوّقون منهم خاصّة، أغلقت إدارةُ التّعليم العموميّ 10 مدارس سنة 1901، وبدأ عددُ التّلاميذ المسلمين يتراجع، فنزل إلى 2927 سنة 1903، بعد أن كان 4656 سنة 1897. وفي سنة 1904، بلغ عدد الأطفال من الشّريحة العمريّة 6/ 12 سنة 60000، لم يلتحق منهم بالمدارس البتّة قٌرابة 59%، أيْ 35377. ولمّا فُتح معهدُ إيميل لوبي Emile Loubet للتّعليم المهنيّ، سنة 1905، اشترطت إدارة التّعليم العموميّ على التّونسييّن شروطا تعرقل التحاقهم بهذه المؤسّسة، من قبيل وجوب إحرازهم شهادة ختم الدّراسة الابتدائيّة، ودفع معلوم الدّراسة، وقصْر تعلّمهم على اختصاصات مهنيّة تقليديّة، حتّى لا ينافسوا التّلاميذ الفرنسيّين [7].
 وقد رافقت هذه الإجراءات الإقصائيّة مواقفُ يُمجّد أصحابُها من الفرنسيّين المدارسَ القرآنيّة ومنهجَها القائم على تحفيظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، دون شرح أو تفسير. وفي هذا السّياق المُثمّن باطلا للنّمط التّعليميّ التقليديّ، لإبعاد التّونسيّين عن التّعليم العموميّ العصريّ، ما أمكن، تتنزّل الدّعوةُ إلى إنشاء المدرسة التأديبيّة المُخَرّجة لمؤدّبي الكتاتيب سنة1894 والعمل على تطوير هذه المنظومة.
لقد تصدّى محمّد الأصرم وحركةُ الشّباب التّونسيّ لهذه التّوجّهات الّتي تروم إقصاء الأهالي من التّعليم العموميّ على النّمط العصريّ، والّتي تشجّعهم، في المقابل، على مواصلة الانخراط في التّعليم التقليديّ الذي يُقرّ الكثيرون من العارفين بفشله: ألمْ يذكرْ خير الله بن مصطفى أنّ من بين 20000 طفل يتردّدون على الكتاتيب لا يصل منهم إلى التّعليم الزّيتونيّ بالجامع الأعظم وفروعه سوى 900، أي ما نسبتُه 4.5%؟ ألمْ يُصرّح السيّد شرْليتي، مديرُ التّعليم العموميّ، منذ 1908، أنّ نظام الدّراسة بالمدرسة التأديبيّة فاشل، وينبغي لتطويره إلحاقُ هذه المدرسة بالمدرسة العلويّة لتصير فرعا من فروع إعداد المعلّمين؟
وفي مقابل تصدّيهم للإجراءات التّهْميشيّة والإقصائيّة، طالب المثقّفون الجدد من ذوي الّلسانيْن، والمنحدرون من التّعليم الصّادقيّ أو من معهد كارنو بتونس الحاضرة بالتّشارك، وبرْهنوا على ولائهم لنظام الحماية، كما ساندوا السّياسة التّشاركيّة التي أقرّتها وزارة الخارجيّة، ودافعوا عن الثّنائيّة الّلسانيّة والمدارس الفرنسيّة العربيّة التي أنشأها ماشُويل بالإيّالة، مُناهضين في ذلك حزب المعمّرين ومطالبه الدّاعية إلى قصر تعليم الأهالي على نمط مفيد من التّعليم تكون غايتُه إعدادَ عمّال فلاحيّين يحتاجهم المعمّرون.
كان محمّد الأصرم من دُعاة التّقارب بين الجنسيْن أو الشّعبيْن، وكان يطالب بالتّعجيل باتّخاذ إجراءات لتحقيق التّقارب المنشود، منها:
§       " القبولُ بمشاركة الأهالي مشاركة نشطة في الحياة الاجتماعيّة للسّكّان الأوروبيّين،
§       توخّي سياسة التّوافق والتّشارك في مختلف الأوساط،
§       توسيعُ دائرة التّعليم الثّنائيّ الّلسان، باللغتين الفرنسيّة والعربيّة، في آن معا،
§       نشر الأفكار الدّاعية إلى التّسامح المتبادَل والتقارب بالمدارس الفرنسيّة،
§       تيسير التحاق أطفال الأهالي بالمدارس الفرنسيّة، الابتدائيّة منها والثانويّة" [8].
لقد طالب محمّد الأصرم في المقتطف الذي نقدّمه مترجما إلى العربيّة لقراء مدوّنتنا اليوم من مداخلته لسنة 1906:
§       بإجراءات تُمكّن التّلاميذ الأهالي من تعلّم اللغة الفرنسيّة واللغة العربيّة، في آن، بالمدارس الابتدائيّة،
§       بإعادة تنظيم الكتاتيب القائمة حسب منهج عقلانيّ وإلحاقها بالمدارس الفرنسيّة العربيّة حتّى يتمكّن التّلاميذ من اكتساب مبادئ الفرنسيّة والمعارف العامّة الموافقة لامتحان شهادة ختم الدّراسة الابتدائيّة،
§       بتعميم التّعليم الابتدائيّ وإقرار مجانيته.
وبداية من 1907، تحوّلت هذه الآراء والمواقف برنامجا سياسيّا لحركة الشّباب التونسيّ يقوم، بالنّسبة إلى التّعليم، على مطالب ثلاثة:
§       "جعل التّعليم الابتدائيّ بالإيّالة التّونسيّة إجباريّا ومجانيّا،
§       تشجيع أبناء الأهالي على الالتحاق بالتّعليم الثّانويّ والتّعليم العالي،
§       تنمية التّعليم المهنيّ الفلاحيّ"[9].

المقتطف من مداخلة لصرم: تنظيم التّعليم الابتدائيّ الأهليّ

  ص 471... » في البلاد الفرنسيّة، حصل اليوم اتّفاقٌ مفادُه الإقرارُ بأنّ إرادة دمج الأهالي) في الحضارة الأوروبيّة (تعْني متابعة مشروع وَهْميّ." فالأساسيُّ في سياستنا الاستعماريّة، يقول السيّد جورج ليقاس Georges Leygues مؤخّرا، ينبغي أن يكون الاحترامُ الصّارمُ لمعتقدات الشّعوب الرّئيسيّة الخاضعة لنا، أو المحْميّة من قبلنا ولعاداتها". ويضيف وزيرُ المستعمرات المحترم قائلا: "فلْنشرّكْ الأهالي في جهودنا، ولْيصيروا من مُعاونينا، ولْيشعروا بأنّهم يستطيعون العيش معنا جنبا إلى جنب، تحت راية علَمنا، دون أن يفقدوا شيئا من كرامتهم، ودون أن يتخلّوْا عن كلّ ما شغفت به قلوبُهم. وبدل أن نُتلف كلَّ ما هو أصيل وطيّب في العادات ونخنقه، حتّى الأجناس التي تُعمّر مستعمراتنا، علينا أن نُنمّيَه ونُحْييه".

أيّها السّادة!

إذا ما استلْهمْتُمْ الأفكارَ السَّخيّة، التي أضحت منذ سنوات في مرتبة الشّرف لدى الأوساط السّياسيّة، في دراستكم للمسألة المطروحة على أنظاركم في هذه اللحظة، فإنّكم ستقدّرون أنّه، كي يتمّ تطويرُ المسلمين من داخل حضارتهم، حسب العبارة المُوَفَّقة، علينا في البدء أن نجعلهم يألفون رأْسا تاريخَهم وآدابَهم، ما يتيح لهم أن يُبرزوا، من الأفكار المُسْبقة والأخطاء المتولّدة عن عقود مديدة من الجهل، المبادئَ الأخلاقيّة التي تمثّل جوْهرَ المؤسّسات الإسلاميّة وإرثَ الإنسانيّة المشترك. لكنّكم ستعترفون معي، لاشكّ في ذلك، أنّ المسلمين لا يستطيعون أن يبلغوا الدّرجة الفكريّة التي وصلتها الشّعوبُ الأخرى، وبالتّالي لا يمكنهم أن ينهَضوا بجزء مفيد من النّشاط الاقتصاديّ الذي تباشره هذه الشّعوب، إذا ما كُتبَ عليهم أن يظلّوا دائما خارجَ الحركة العلميّة التي تفخر الأمم الغربيّة بها عن جَدارة. ويترتّب على ما سبق، أيّها السّادةُ، استنتاجٌ بديهيّ مفادُه أنّ تعليم الأهالي، بالبلاد التّونسيّة، ينبغي أن يشمل بالضّرورة الدّراسةَ المتزامنة للّغتيْن الفرنسيّة والعربيّة، كي يكون منطقيَّ التّصوُّر ومُمهّدا سبيلَ التقارب بين الجنسيْن.

لقد أدركتْ الحاضرةُ الفرنسيّة إدراكا تامّا الفائدة المتعلّقة بنشر اللغة الوطنيّة من الوجهة السّياسيّة والاقتصاديّة، ما حَدا بالحكومة أن تجعل من واجباتها الدّائمة تشجيعَ المؤسّسات التي تروم نشر هذا التّعليم بالبلاد الأجنبيّة. ولم يغبْ دعمُ الجمهور العريض لهذا المشروع الحكوميّ، يشهد على ذلك النّموُّ العجيب لجمعية " التّحالف الفرنسيّ" التي تُواصل في بلدان المشرق، بالمثابرة والنّجاح المعروفيْن لديكُم، عملا التفتْ حوله عديدٌ من الّلجان ترْعى أو تُموّل ما يزيد على 300 مدرسة، إمّا مباشرة أو غير مباشرة. فهل من المقبول، إذنْ، أن يُعتبر التّعليمُ المعترفُ بمنفعته للشّعوب التي حافظت على استقلالها تعليما خَطرا في بلد مَحْميّ؟

صحيح إنّ الذين يريدون تقليصَ تعليم اللغة الفرنسيّة في أوساط المسلمين هُمْ أوّلُ من ينادي بتوسيعه لدى الأجناس الأخرى التي تعيش بالبلاد التّونسيّة. فلهُم، إذنْ، رغبة خفيّة في الإبقاء على الأهليّ في وضع دُونيّ جَليّ، بالنّظر إلى الشّعوب الأخرى، وفي إدامة عزلته، والحيْلولة دونه ودونَ أن يكون على صلة مباشرة مع من يَحمُونه! وإذْ حيلَ بين التّونسيّين وبين تعلّم لغة أسْياد البلاد، وهي في الآن ذاته لغة الأعمال والعلاقات الاجتماعيّة بين الأوروبيّين، فقد أضحى من المُستحيل عليهم، وبخاصّة على الصَّعيد الاقتصاديّ، أن يناضلوا بالسّلاح ذاته مع العناصر الأخرى للسّكّان. ومتى امتنع التفاهمُ بين المعمّرين وعرب الرّيف، ستظلّ الصّعوبات وكذلك الصّراعات المشؤومة مستمرّة، سواء للمَحْميّين أو للحامين لهم.

وممّا لا ريبَ فيه، أنّ المناهضين لتمييز الأهالي يزعمون أنّ تعليم اللغة الفرنسيّة بالبلاد التّونسيّة قد ترك العديدَ من الأفراد المُخَفَّضَة مكانتُهم، أي في منزلة دون منزلتهم الحقيقيّة. فإنْ كانوا يلمّحون إلى ممثّلي الجيل الذي تربّى في المدارس الفرنسيّة، فإنّي أحسَب أنّ هذا الوصف لا يمكن أن ينطبق بالفعل على الذين كانوا ولا يزالون للحماية أعوانا لا يقدَّرون بثمن. ومن جهة أخرى، فإنْ كان مُناهضيَّ يقصدون بالمهمّشين أشخاصا تربّوْا في محيطهم الطبيعيّ ويتبوّؤون في المجتمع منزلة غير معترف بها، فإنّي أقول لهم إنّني لا أظنّ أنّ أبناء المزارعين أو التجّار الذين مرّوا بالمدارس الفرنسيّة العربيّة هم لوحْدهم الذين تخلّوْا عن مهنة آبائهم، وهاجروا إلى المدن لتضخيم عدد الفارغين من العمل والفاسقين. وتبعا للأزمة العميقة التي عاثتْ فسادا، منذ عديد السّنينَ، في القطاعيْن التّجاريّ والصّناعيّ الأهليّيْن، فإنّ المُسْلمين الذين وقفوا عاجزين إزاء تراجُع مهَنهم المزدهرة، فيما مضى من الزّمن، أرادوا أن يفتحوا منافذ لتشغيل أبنائهم، وذلك بتزويدهم بتربية على الطريقة الفرنسيّة. وقد نجح عددٌ من هؤلاء الشّبّان في شقّ طريقهم إلى وضعية اجتماعيّة محترمة في مجال المحاماة أو في مجال الإدارة. فهل علينا، إذنْ، أن نأسف على أنّهم لم يواصلوا مُكوثَهم في دَكاكين آبائهم، وإنّما أصرّوا، كما أصرّ غيرُهم، على كسب رزقهم، وذلك بأن قدّموا خدمات نافعة للمجتمع؟ وإذْ ساعدتهم إدارةُ التّعليم العموميّ على بلوغ هذا الهدف، فإنّي أحسَب أنّها نهضت بعمل محمود، وأنّها لا تستحقّ المَلامة المسلّطة عليها في الصَّدد. وفي الحقيقة، يبدو أنّ بعض أوساط المعمّرين تخشى أن يتحوّل الأهالي، فيصيروا واعين بحقوقهم، وقد مرّوا من الجهل المطلق إلى درجة مّا من الثقافة الفكريّة، وبالتّالي، أن يُضْحي من العسير تلبيةُ حاجاتهم وإدارةُ شؤونهم.

إنّ للتّعليم الابتدائيّ، بالبلاد التّونسيّة، الجاري بالمدارس الفرنسيّة العربيّة، والمُسْدى باللغة الفرنسيّة، طابَعا لائكيّا، أمّا في الكتاتيب والمدارس القرآنيّة فإنّ التّعليم دينيّ صرف.

وإذ كنّا نَأْسَف لأنّ غالبيّة المدارس الفرنسيّة لم تُخصّصْ مكانة لتدريس اللغة العربيّة، فضلا عن أنّ عدد هذه المدارس لا يكفي البتّة بالقياس إلى عدد السكّان، فإنّنا مضطرّون، من جهة أخرى، إلى أنْ نقرّرَ أنّ المنهجَ المعتمد في المدارس القرآنيّة لا يكتسي أيّة نجاعة في تعليم اللغة العربيّة. فالطّفلُ الذي يَؤُمّ الكتّابَ وهو صبيّ، يغادره، في سنّ الثامنة عشرة أو سنّ العشرين، وهو عاجزٌ تمامَ العجز عن تحرير رسالة بالّلغة العربيّة تحريرا سليما ، وعن إدراك معنى جملة مّا من نصّ مّا. فطيلة السّنوات التي يُمْضيها الطفلُ بالكتّاب، يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، دون تفسير من قبل المعلّم أو المؤدّب الذي يقتصرُ على تعليمه حروفَ الهجاء، كي يجعلَه قادرا بمفرده على أن يكتُب على لوْحه ما يُمْليه عليه من مختلف سُّوَر الكتاب المُقدّس. إنّ هذا التّعليم ذا الطّابع الدّينيّ يُخاطب من الطّفل حافظتَه أو ذاكرتَه، على حساب قُواهُ العقليّة الأخرى، ويجري في قاعات ضيّقة، ضعيفة الإضاءة، قليلة التّهْوئة، تَعلوها الأوساخُ في أغلب الأحيان، بحيْثُ إنّ هذا التّعليم ليس عقيما فحسبُ، بل إنّه، علاوة على ذلك، مُناف لكلّ قواعد الصّحّة المدرسيّة.

لقد أفضى هذا الوضعُ إلى إثارة فئة من التّونسيّين ما فتئتْ تهتمّ بمستقبل الشّباب، وهُمْ رجال مُتميّزون، على رأسهم رئيسُ جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصّادقيّة، ينكبّون اليومَ، بحماسة لافتة، على دراسة الإصلاحات الكفيلة بتحسين الكتاتيب، من وجْهَتيْ نظر تعليم الأطفال وصحّتهم. ومنذ اليوم، فإنّنا نعتبر أنّ برنامج التّعليم بالكتاتيب الرّامي إلى تنمية ذكاء الأطفال وتشكيل طباعهم في الوقت نفسه، ينبغي أن يشمل القراءةَ والكتابةَ، وفق منهجيّة منطقيّة وعمليّة، ومبادئَ قواعد اللغة وحفظَ القرآن وتفسيره، إلى جانب مختارات منتقاة من أبرع المؤلّفين العرب، ودروس في الأخلاق تُستلهمُ من ينبوع الدّيانة الإسلاميّة والعناصر الأكثر ضرورةً من علْم الّلاهُوت.
وينبغي أن يُنتدب المدرّسون بالكتاتيب من بين تلامذة مدرسة ترشيح المعلّمين، المشهورة بالتأديبيّة، الذين عليْهم أن يستظهروا، علاوة على شهادة ختم الدّروس التّرشيحيّة، بشهادة التّطويع حتّى يبرهنوا على أنّهم قادرون على تفسير القرآن الكريم.

إنّ الكتاتيب، وقد أُعيد تنظيمُها في مجال التّعليم، ينبغي أن تحْتضنها فضاءاتُ المدارس الفرنسيّة العربيّة، حتّى تُفيد من الشّروط الصّحيّة المُتوفّرة بها، فتصير فضاءات مُلُحقة بهذه المدارس، بوَجْه من الوُجوه. وكلّما تكاثرت الكتاتيبُ الجديدة، ينبغي أن تزول الكتاتيبُ القديمة. أمّا في الأرياف الخالية من المدارس الفرنسيّة العربيّة، وفي مواطن القبائل النّائية عن كلّ مركز عمرانيّ، فينبغي أن نكتفي مؤقّتا بالكُتّاب المُصْلح، وأن نضيف إلى البرنامج، المُومَإ إليه أعلاه، بعضَ مبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا، وهي موادُّ لا تدرّس بالكتاتيب الملحقة بالمدارس الفرنسيّة العربيّة، باعتبارها موادَّ مُضمَّنة ببرامج هذه المؤسّسات.

وعندما تقرّر الإدارةُ، مُستقبَلا، إحداثَ مراكز أهليّة، فعليْها أن تقيم بكلّ مركز منها مدرسة ابتدائيّة تشتمل على كتّاب مُصْلح.

أمّا ما يتعلّق بالمدارس الفرنسيّة العربيّة، فإنّ التّعليم المُسْدى بها ينبغي أن تكون قاعدتُه دراسةَ اللغة الفرنسيّة والإعداد لامتحان شهادة الدّراسة الابتدائيّة الذي ينبغي أن تكون برامجُه في علاقة بالحاجات الفكريّة والاقتصاديّة للسُّكّان الأهالي. وفي جميع الأحوال، ينبغي في هذه المدارس أن نقلّص من التوسّع في دراسة تاريخ فرنسا وجغرافيتها، وأن نُخصّص عددا من الدّروس للتّاريخ العامّ للفترة الإسلاميّة. وأخيرا، وبحسب موقع المدرسة بمركز فلاحيّ أو تجاريّ أو صناعيّ، سيتمّ تكملةُ البرامج بإدراج مبادئ عن الزّراعة والتّجارة والصّناعة.

ومهْما كانت جودةُ هذا التّعليم، فإنّه، مع ذلك، لا يقوى على إسْداء الخدمات التي يحقّ لنا أن ننتظرها منه، إنْ لم يلتحق الطفلُ بالمدرسة الفرنسيّة العربيّة، بداية من سنّ السّادسة، ما يتيح له أن يجتاز في سنّ الثانية عشرة على الأقصى امتحانَ العربيّة وامتحانَ شهادة ختم الدّراسة الابتدائيّة. ويمثّل إحرازُ التلميذ على هذه الشّهادة إمّا نهاية الدّراسة، وإمّا، لمَنْ كان من النّابهين، بداية مرحلة دراسيّة جديدة تُتوّج بتوجيهه، بحسَب مؤهّلاته، إمّا إلى التّعليم الثانويّ أو العالي، وإمّا إلى قطاع الزّراعة أو قطاع التّجارة أو قطاع الصّناعة.

وفي الخلاصة، ينبغي أن تصير المدرسة الابتدائيّة مؤسّسة يُمكن للتّلاميذ من الأهالي أنْ يتعلّموا بها اللغة العربيّة واللغة الفرنسيّة، وفق مناهج تطبيقيّة تُلائم ذهنيّتهُم وحاجاتهم، وأنْ يكتسبوا بها المعارف العامّة الضَّروريّة بالنّسبة إليهم، كي يصيروا رجالا نافعين لأنفسهم ولبلدهم.



تعريب وتعليق الهادي بوحوش والمنجي عكروت، متفقدان عامّان للتربية متقاعدان
تونس في 8 فيفري 2015.


  




[1]   محمّد الأصْرَم: 1866/ 1925. درَس بالجامع الأعظم وبالمدرسة الصّادقيّة، ثمّ أقام ثلاث سنوات بمدرسة ترشيح المعلّمين بفرسايْ بفرنسا كما أورد ذلك لويس ماشويل مدير التعليم العموميّ، فتحصّل على شهادة المؤهّل العالي. عمل مدرّسا بالمدرسة العلويّة، ثمّ مديرا للغابات. حرّر مقالات بمختلف الصّحف التّونسيّة، وكان يشجّع على تعميم التّعليم للجنسيْن، والتقارب بين الفرنسيّين والتّونسيّين. قلّده الرئيس إميل لوبي وسام جوقة الشرف بمناسبة زيارته لتونس في أفريل من سنة 1903 ترأّس الجمعية الخلدونيّة من 1900 إلى 1908، دعاه منظّمو المؤتمر الاستعماريّ الأوّل للمشاركة في ندوة المستعمرات بمرسيليا سنة 1906 بصفته رئيسا للجمعية الخلدونيّة، إلى جانب موظّفي الدولة، وصحبة كوكبة من التّونسيّين في مؤتمر شمال إفريقيا بباريس، سنة 1908. كان عضوا فاعلا في حركة الشّباب التّونسيّ، منذ تأسيسها.
[2]  . انعقد مؤتمر المستعمرات الأوّل بمدينة مرسيليا من 5 إلى 9 سبتمبر 1906، وصدرت أشغالُه سنة 1907 في ثلاثة مجلّدات وفق البيانات التالية:
Compte Rendu Des Travaux du Congrès Colonial de Marseille, publié sous la direction de M .Charles-Roux, commissaire général de l’exposition et président du congrès, par M.C .Depincé, secrétaire général et rapporteur général du congrès. Paris. Augustin Challamel, Editeur. Librairie Maritime et Coloniale, 1907. 
[3]  تقرير السيّد محمّد الأصرم: يتعلّق المقتطف بالفقرة السّادسة بالترقيم الرّومانيّ VI بعنوان" تنظيم التعليم الابتدائيّ الأهليّ": القسم I والقسم II الممتدّان من صفحة 471 إلى صفحة 474.


[4]   نور الدّين سرَيّب: إيديولوجيا المدرسة التّونسيّة على عهد الحماية: 1881/ 1945، مجلّة العالم الإسلاميّ والبحر المتوسّط، 1993، المجلّد 68، ص 244 بالفرنسيّة.
[5]   المرجع السّابق ص241.
[6]  القولة للسيّد جورج ليقاس Gorges Leygues وزير المستعمرات، قالها سنة 1906، ووردت تصديرا للفصل الثاني من كتاب "الجمهوريّة الإمبراطوريّة"، بعنوان "من الدّمج إلى سياسة التّشارك"، ص 107، بالفرنسيّة.
[7]  شارل أندري جوليان: المعمّرون الفرنسيّون وحركة الشّباب التّونسيّ. تعريب محمّد مزالي والبشير بن سلامة. تونس 19 والبيانات الإحصائيّة مستقاة من هذا الكتاب.

[8]  نور الدّين سرَيّب: إيديولوجيا المدرسة التّونسيّة على عهد الحماية: 1881/ 1945، مجلّة العالم الإسلاميّ والبحر المتوسّط، 1993، المجلّد 68، ص 247 بالفرنسيّة.

[9]  المرجع السّابق، ص 248.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire