lundi 25 septembre 2017

أي مدرسة للأجيال القادمة ؟ أو تحديات المدرسة التونسية .


النصّ الموالي هو نصّ مداخلة  قُدّمت  لمجموعة من الطلبة  المشاركين في مسابقة "أيّ تونس في 2040؟ " خصّصت للحديث  عن المدرسة والتعليم في تونس.
تناولت المداخلة  محورين ، كان   الأول ذا بعد  نظري حول مفهوم الاستشراف ، أمّا الثاني  فقد خصصناه  لعرض رؤيتنا لمدرسة الغد بالبلاد التونسية.


      I.            ما المقصود بالاستشراف؟

سوف نحاول أن نكون منهجيين  و نبدأ بالتذكير بمدلول مفهوم الاستشراف  بشكل عام، و استنجدنا في ذلك  بالمعجم  الفرنسي  لاروس، الذي يقول بأنّ الاستشراف  "هو علم يتناول مسألتين  :
-         تتمثل الأولى في  دراسة الأسباب (التقنية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية  و غيرها ) التي تزيد في  نسق تطور العالم المعاصر.
-         - أما الثانية  فهي  التنبؤ بالوضعيّات  التي قد تنشأ عن تلك الأسباب.
إنّ  هذا التعريف يستدعي منّا ملاحظتين:
- تتعلق الأولى بدراسة الأسباب  إذ  يبدو لنا أنّ الاقتصار على العوامل  التي تزيد في  نسق التطور  و عدم تناول  العوامل المعيقة  بالدرس  قد تضرّ بسلامة  التوقعات .
- و تتعلق الثانية باستخدام صيغة المشروط "الوضعيات  التي قد تنشأ،" مما يفيد الشك ، وعدم التأكد من احتمال حدوث التوقعات.
وبناء على هذا التعريف العام و البسيط ، نعتقد أن ما طلب منكم  هو من قبيل  الطوباوية والغرور أو ربما  قد يكون من قبيل الحلم.

لتبرير ما ذهبنا  إليه ، سنستشهد  بعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران [1]  وبالتحديد بمقتطفات من التقرير الذي يحمل عنوان " المعارف السبعة  الضرورية  للتعليم في المستقبل" الذي نشر في أكتوبر من عام  1999 من قبل منظمة التربية والعلوم والثقافة للأمم المتحدة (اليونسكو) و قد اخترنا بعض المقاطع التي توضح بشكل كاف وجهة نظرنا:

في المقتطف الأول استشهد  موران  "بمقولة  الشاعر اليوناني،، "يوربيدس"  الذي عاش منذ خمس وعشرين قرنا لأنه يعتبرها ما تزال  صالحة أكثر من أي وقت مضى  وتقول إنّ " ما ننتظره  لا يتحقق و الله يفتح الباب  لغير المتوقع ".
أمّا في المقتطف الثاني  فموران يحذّر المخططين وجميع أولئك الذين "يعتقدون أنّ بإمكانهم تنبؤ مستقبلنا - باسم نظريات الحتمية" - ويقول لهم  "... الأحداث التاريخية الكبرى وحوادث قرننا هذا... كانت جميعها غير متوقعة ..."

هذان هما المقتطفان اللذان أردتهما تقديما لمداخلتي كي  أنبهكم لأمر هامّ  وهو   أنّ مستقبل المغامرة الإنسانية يصعب إدراكه  و التنبؤ به خاصة في العقود الأخيرة لعدة اعتبارات منها :

          أنّ التغييرات أصبحت  أكثر سرعة  بحيث يتمّ تجاوز كلّ   تكنولوجيا أو اكتشاف جديدين  بأخرى  أكثر نجاعة و ذلك في زمن قصير ،
          ثم إنّ الاكتشافات العلمية أو التقنية التي  كانت تتطلب أجيالا كي تنتشر و تعرف في جميع أنحاء العالم  أصبحت  اليوم  تنتشر بسرعة بفضل  العولمة و  تكنولوجيات المعلومات الجديدة.
          قليل  هم من  كانوا  يتوقعون انفجار العالم الافتراضي  الذي يميز الحضارة في الوقت الحاضر،
          في عام   1972  نشرت مجموعة من خبراء البيئة والعلوم البيئية  التي كونت "نادي روما" تقريرا يدعو إلى "إيقاف  النموّ إذا أردنا أن ننقذ النظام العالمي من انهيار وشيك واستقرار النشاط الاقتصادي والنمو السكاني في آن واحد   ".
ولكن  اليوم، اتّضح أن تقرير نادي روما[2] كان خاطئا لأنه بالغ كثيرا في تقدير النموّ السكاني من جهة وانخفاض الموارد المتجدّدة من جهة أخرى؛ و بالعكس من ذلك  فإنه قلّل من شأن تنامي التلوث؛و أخيرا، فإنّه لم يأخذ بعين الاعتبار (أو لم يتوقع) بروز مشاكل منذ ذلك الحين كتغيّر المناخ  وتآكل التربة وظهور الكائنات العضوية  المعدلة جينيا، وما إلى ذلك. "

ولكن لنترك جانبا هذه التأملات الفلسفية و لْنعدْ إلى التعليم والمدرسة التونسية، لأننا جئنا هنا  لنحدثكم عن تجربتنا في هذا المجال وعن مستقبل التعليم في بلادنا التي أوْلتْه اهتماما خاصّا منذ منتصف القرن التاسع عشر،  و الذي اعتبره المصلحون آنذاك رافعة أساسية  للتطوّر والحداثة ، و منذ ذلك الوقت لم يتوقف مختلف المسؤولين قط  عن طرح الأسئلة التي تهمّكم اليوم : و هي أيّ مدرسة للأجيال القادمة؟ وأيّة مهمة للمدرسة؟  وأيّة معرفة ندرس ؟ ...
    II.            إجاباتنا عن هذه الأسئلة:
ولمعالجة هذا الجزء من المداخلة ، سأحاكي المقولة  المشهورة جدا للوثر كينغ[3] " لديّ حلم"،  لأنّنا  سنحدثكم عن المدرسة التي نحلم بها.


1.   حلمنا الاول  : نحلم بمدرسة محترفين
وهي مدرسة لن يكون فيها مكان إلا للمحترفين  في مجال التربية  (مديرون و مدرّسون  محترفون ) لأننا لا نزال اليوم نضع أطفالنا بين أيدي هواة، بينما البلدان التي لها أفضل أنظمة تعليمية  ، فهي تنتدب  مدرّسيها  من بين أفضل خرّيجي التعليم العالي،  والمتحصّلين  على شهاد الماجستير المتخصّصة قبل تكليفهم  بالتدريس، في حين لا يعتبر التدريس عندنا  مهنة تتطلب تكوينا متخصّصا، و هو ما جعل وزارة التربية  تقوم بانتدابات عشوائية  ، فكانت  النتائج الكارثية  لأنّ كفاءة المدرّس  هي العامل الأهمّ في نجاح المدرسة.

2.   حلمنا الثاني: مدرسة يطيب فيها العيش

 وهذا يعني، مدرسة جميلة يتركها الطفل متأسفا  ويقصدها بشوق وحماس و هذا يقتضي  أن نبدأ بإعادة النظر في هندسة المدارس فجلّ مدارسنا قبيحة و منفّرة.
إن ذلك يتطلب هندسة  معمارية جديدة[4] تقطع مع العمارة  الكالحة التي لا تبعث في النفس انشراحا   و تشيّد  مؤسّسات "تكون  مكانا للتعلم ومكانا للحياة " توفّر "الرفاه الذي يعزّز الحياة الاجتماعية،    ويكون   فضاء للاستقبال،  وساحات  تحمي من التقلبات المناخية  ودورات  مياه صحية و فضاءات  مرنة تُيسّر تنوّع وضعيات التعلّم  فقد بيّنت الدراسات أنّ  الأريحيّة  تساعد على التعلّم.

3.   حلمنا الثالث: زمن مدرسي  مريح

الزمن المدرسي يعني تنظيم ساعات التعلم  اليومي و يعني كذلك  تنظيم فترات  الدراسة وأيام العطل على امتداد الأسبوع و السنة .
 في الوقت الراهن  تعيش  المدرسة التونسية وضعا غير طبيعي  ، إذ لدينا  من جهة جداول أوقات مكثفة جدا في جميع المستويات و أيام عمل طويلة جدا  و من جهة أخرى عطلة صيفية طويلة جدا تمتدّ  عمليا  من منتصف ماي إلى نصف سبتمبر  أي أنّ الدروس تتعطّل مدة 4 اشهر كاملة  دون احتساب عطلتي الشتاء و الربيع.

انّنا نعتقد  بأنه  من  المفيد  إعادة  تنظيم الزمن المدرسي  بحيث يكون لدينا أقلّ ساعات دراسة في اليوم الواحد  ( اعتماد نظام الحصّة الواحدة بنصف اليوم   على أن يستغلّ النصف الثاني للأنشطة الرياضية و الثقافية  داخل المدرسة ذاتها  و التمديد في طول السنة الدراسية  بحيث تكون لدينا أكثر أيام دراسة و لكن بأقلّ ساعات دراسة يوميا,

4.   الحلم الرابع : نحلم بمدرسة لا تترك جزءا من أبنائها في الطريق  :  أي مدرسة تقوم بوظيفتها الأولية  وهي تربية  و تكوين كل الأطفال الذين وضعوا في كفالتها  و لا تهمل أيّ طفل منهم و تتركه في وضع أميّة أو دون أي شهادة.

لأنّ  المدرسة التونسية - اليوم -  لا تحترم هذه الوظيفة  بما أنّه في السنة الدراسية 2012 - 2013 قد غادر  حوالى 6 % ( 5.4 %)  من التلاميذ من مختلف المستويات   مقاعد الدراسة  في وضعية فشل  و هو ما يعطينا 111473 تلميذا من جملة 1938159. مع الملاحظة بأنّ نسب الانقطاع   ترتفع كلّما تقدّمنا في المستوى التعليمي، فهي :
*   1 % من المسجلين  بالمدارس الابتدائية ( 10296 من جملة 1029559 ) مع ذروة في مستوى السنة السادسة
*   10,4%  بالمرحلة الثانية من التعليم الأساسي (48156 من 463041)  مع ذروة في مستوى السنة السابعة أساسي.
*   %11,9   بالتعليم الثانوي (53021 من جملة 463041)  مع تسجيل الذروة في السنة الأولى .
تلاحظون  معنا  بأن الذروة تسجل في سنوات نهاية مرحلة أو في بداية مرحلة .
6.   الحلم الخامس: نحلم بمدرسة أكثر عدلا و إنصافا
إننا نعني بالمدرسة المنصفة  المدرسة التي توفّر ظروف الدراسة نفسها و تضمن حظوظ النجاح نفسها للجميع بدون تمييز اجتماعي أو جهوي لأن المدرسة التونسية تشتغل منذ مدة بسرعتين و الأخطر أنّ البون بين المدرستين  يتعمّق أكثر فأكثر عوض أن يتراجع  و الهوّة بين الجهات و بين المؤسّسات أين تتوفر ظروف التكوين الجيد و فرص النجاح أوفر  و جهات و مؤسسات يكون بها الوضع عكس ذلك.

و نستطيع استحضار بعض المؤشرات ذات الدلالة العالية في هذا المجال:
تتراوح نسب نجاح امتحان البكالوريا بين 70 و 50 % حسب الجهات و بين 100 و أقل من 50 % حسب المعاهد.
و الفارق  يصبح أكبر في نسب النجاح بتميز بحيث يتحصل قرابة ثلث الناجحين في امتحان البكالوريا على ملاحظة قريب من الحسن أو حسن أو حسن جدا  بينما لا تتعدى تلك النسبة العشر في جهات أخرى.
من الممكن تقديم مؤشّرات أخرى و لكننا سنكتفي بما سبق ، على أننا نريد أن نستبق بعض  المواقف التي  تسعى إلى تفسير هذا الوضع بالاختيارات السياسية التربوية التي أعطت الأوّليّة للكمّ على حساب الكيف و بالمناسبة فقد سمعت هذا الكلام  من وزير التعليم العالي و البحث العلمي و التكنولوجيا يوم الاثنين الماضي  الذي كان يتحدث في إحدى الإذاعات التونسية ، قلت إنّني سأستبق مثل هذه الملاحظات كي أقول بأنّ الدراسات و التقييمات الدولية  وآخرها  تقييم  بيزا الأخير[5] قد بيّنت أن النوعية و الإنصاف و تساوي الحظوظ   و تعميم التعليم  ليست متنافرة  فالدول التي احتلّت المراتب الأولى في تقييم بيزا الأخير[6] لها أنظمة تربوية أكثر إنصافا فقد وفقت في الجمع بين الجودة و الإنصاف,
بقي لدينا أحلام كثيرة  تحتاج إلى الحديث عنها  مثل التعاون الوثيق بين مختلف درجات التعليم   و مدارس بدون أعداد  و بدون تقييمات جزائية ... و لكن أظن بأن الوقت قد حان كي نتوقف عن إزعاجكم  بأحلامنا  و نختم عرضنا هذا.

أيها الحضور الأعزاء  لا يمكنني أن أختم دون طلب العفو منكم  و أقول لكم : لا تأخذوا خطابي هذا على أنّه خطاب سلبي أو عدمي ، فلتواصلوا دراساتكم الاستشرافية  فهي ضرورية  و لكن أقول لكم  ما قاله الفيلسوف الذي بدأت به محاضرتي " يجب أن يكون حاضرا في أذهانكم   التقلّبات و الأشياء التي لا ننتظرها و لنعدّ شبابنا لمجابهة كل هذا ... فلنعدّ الأذهان لمواجهة الأشياء و الأحداث غير المنتظرة ...
تمنيات لكم بالتوفيق في عملكم هذا و شكرا على صبركم  و السلام.

الهادي بوحوش و منجي عكروت متفقدان عامان للتربية متقاعدان و ابراهيم بن عتيق أستاذ أول مميز.
تونس ، مارس 2014

Pour accéder à la version FR , cliquer ICI






[1] Edgar Nahoum, dit Edgar Morin, né à Paris le 8 juillet 1921, est un sociologue et philosophe français
[2] Développement durable et impacts environnementaux – Club de Rome 1972   http://stockage.univ-valenciennes.fr/MenetACVBAT20120704/acvbat/chap01/co/ch01_040_1-4-1.html
[3]  مارتن لوتر كينغ  رجل دين أمريكي من أصل افريقي ولد  بمدينة أطلنتا في 15 جانفي 1929 و اغتيل يوم 4 أفريل  بمدينة مانفيس كان من أبرز المناضلين السلميين  من أجل الحقوق المدنية للسود و قام بدور أساسي في تحرير  السود و توعيتهم بالولايات المتحدة . "لدي حلم" كان عنوان الخطاب الذي نادى فيه بالأخوة بين السود و البيض.  
[4] Musset.M ; De l’architecture scolaire aux espaces d’apprentissage, au bonheur d’apprendre ;IFE n°75 ,Mai 2012 . http://ife.ens-lyon.fr/vst/DA-Veille/75-mai-2012.pdf ; consulté le 16-3-2014
[5]  بيزا : برنامج تقييم  دولي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire