تصدير
تمّت دعوتنا إلى المشاركة في مجلس حوار نظّمه مكتب صفاقس 2 التابع للرابطة التونسيّة لحقوق
الإنسان، في بداية شهر مارس الحالي، حول موضوع : حقّ التعلّم بين
الخطاب الحقوقيّ والواقع المدرسيّ .
و أردنا أن نفسح مجال المدوّنة ، هذا
الأسبوع ، للكلمة التي افتتح بها رئيس
المكتب الجهويّ السيد إبراهيم بن صالح، المتفقد العام للتربية، في ركن مجرى الأحداث، و التي طرح فيها إشكاليّة حقّ التعلّم اليوم في العالم وفي البلاد التونسيّة، و المخاطر التي تتهدّده، آملين إثارة النقاش حول مسألة تمثل رهان مستقبل المدرسة
التونسيّة بصفة خاصّة، و البلاد التونسيّة بصفة عامّة.
الهادي بوحوش و المنجي عكروت
تونس في 10 مارس 2014
نصّ المداخلة : حقّ
التعلّم بين الخطاب الحقوقيّ والواقع المدرسيّ
هذه هي المائدة المستديرة الخامسة التي ننظّمها هذه
السّنة، وهي حول " حقّ التعلّم بين الخطاب الحقوقيّ والواقع المدرسيّ. "
وقد اخترنا هذا الموضوع لكثرة ما تناهى إلى أسماعنا، في
المدّة الأخيرة، من أصوات ارتفعت منادية بضرورة مراجعة المنظومة التربويّة أو
بإصلاح المدرسة عموما.
والحقّ إنّه ما كان لهذه الأصوات أن ترتفع لولا ما طرأ
على المدرسة التونسيّة من تحوّلات، وما عرفته من تدنّ في مستوى المتخرّجين منها.
إلاّ أنّ الذي لفت نظرنا فيما تمّ تداولُه في الملتقيات، وما تطرّق إليه أصحاب
النظر في المنتديات، أنّ المسائل المطروقة ظلّت مسائل جزئيّة ولم تذهب إلى جواهر
الأمور. ومن الأشياء التي نُعدّها جوهريّة في هذا الباب حقّ التعلّم الذي أخذ يضمر
حتّى أصبح في الميزان ... هذا الحقّ يبدو في الظاهر مضمونا للجميع، إلاّ أنّه في
الواقع أضحى مجرّد شعار وهميّ، نظرا إلى الانفصام الحاصل بين ما تُنادي به
المواثيق الدّوليّة من حقوق وضمانات لجميع الأطفالّ، وما تعرفه المدرسة من واقع
يطغى عليه الزّيف والحيف.
رسالة المدرسة اليوم
جاء في الفصل السّادس والعشرين من الإعلان العالميّ
لحقوق الإنسان لسنة 1948 أنّ " لكلّ إنسان الحقَّ في التعلّم، ويجب أن يكون
التعليم في مراحله الأولى، على الأقلّ، مجانيّا، وأن يكون التعليم الأساسيّ
إجباريّا، وأن تكون السبل إلى التعليم العالي ميسورة للجميع."
وجاء في الفصلين الثالث عشر والرّابع عشر من العهد
الدّوليّ الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة لسنة 1966 ما يؤكّد
مضمونَ الفصل الآنف الذّكر، وألحّ خاصّة على تعميم التعليم وإلزاميته ومجانيته، مع
دعوة صريحة إلى الدول الممضية على هذا العهد كي تضبط الخطط العمليّة الملموسة
لضمان هذا التعميمّ وذاك الإلزام.
كما جاء في الفصلين الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من
الاتفاقيّة الدوليّة الخاصّة بالطفل لسنة 1989 تأكيدٌ لما سبق من حقّ التعلّم في
مراحله المختلفة، وزادت عليه بأنْ دعت الدول الممضية على الاتفاقيّة إلى ضرورة جعل
المعلومة متاحة للأطفال بنفس القدر من الحظوظ، وأن تتّخذ الدولُ التدابير
اللازمة لتشجيع الحضور المنتظم في المدارس، والحيلولة دون الانقطاع
المدرسيّ، وضمان إدارة النظام في المدارس على نحو يتلاءم وكرامة الطفل
الإنسانيّة، والإسهام الجادّ في القضاء على الجهل والأمّيّة، مع وضع هدف أسمى
للمدرسة ألا وهو إعداد الطفل للحياة النشيطة .
إن الأمم إذ تُعير كل هذا الاعتبار للتعليم والعناية بالطفل
فلأنّ التعليم وإن كان ينعت بالأخ الفقير لبقية الحقوق فإنّه حقّ أساسيّ في ذاته
ومعدود في الآن نفسه واحدا من المفاتيح الرّئيسيّة لممارسة بقية الحقوق التي تهمّ الذات البشريّة .إنّه الحقّ الذي يتيح للإنسان فرصة بناء استقلاليته والأداة التي
تساعد الفرد على الخروج من وضع التهميش وترسم له سبيل الارتقاء الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمشاركة في الحياة الجماعيّة والاندماج فيها ، لذلك يُعتبر حقّ التعلم
حقّا أفقيا أي حقّا مدنياّ وسياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا . هو حقّ يتصل
بقدرة الانسان على الربط بين مختلف مكوّنات هويته وعلى عقد الصلة متينة بين صيغته الفرديّة وصيغته الجماعيّة، لذلك لم
تقيّد الأمم هذا الحقّ بفترة من العمر أو بمؤسّسة محدّدة.
. فماذا بين هذا الخطاب
الحقوقي والواقع المدرسي المعيش ؟
الواقع هو أنّ
كلّ الأنظمة التربويّة في العالم اليوم متّهمة بأنّها أنظمة فاشلة. والجميع يحمّل مسؤولية كلّ أوجه الخلل الاجتماعيّ لهذه
الأنظمة التربويّة ، إذ المدرسة، في نظرهم، لم تَعُد تؤدّي وظيفتها على الوجه المطلوب .
والصّراع في هذا الشّأن محتدم بين السّياسيّين
والاقتصاديّين من جهة، والمسؤولين عن التربية من جهة ثانية. وفي خضمّ هذا الصّراع، هناك جيل من الأطفال لا يحصّلون تعليما جيّدا ولا تربية مستقيمة، ويتقدّم بهم
الزمن نحو هدف مجهول أو غاية غائمة.
إنّ كلّ
الإحصائيات التي تهمّ البلدان المتقدّمة والبلدان المتخلفة على حدّ سواء تقول إنّ
نسبة الأمّيّة في ارتفاع، وأنّ عشر سنوات وحتّى خمس عشرة سنة تُقضى بين جدران
المدرسة ليست كافية لحماية المتعلم من السّقوط في الأمّيّة من جديد. فهل صار واجبا
علينا التخطيطُ لتعليم الكبار، قبل التخطيط لتعليم الصّغار؟
في العالم يناهز عدد الأطفال الذين لا يلتحقون بالمدرسة
المئة وخمسين مليونا ويغادرها قبل سنّ السادسة عشرة مئات الملايين.أمّا في تونس فيغادر المدرسة كلّ سنة ما يزيد على مائة
وأربعين ألف تلميذ (140000)، منهم ثمانون
ألفا في التعليم الأساسيّ بمرحلتيه.
و في سنة 2011 ـ 2012 غادر المدرسة، حسب الإحصائيات
الرّسميّة، أكثر من 100000 تلميذ فضلا عن الراسبين في أقسامهم، وهم يُعدّون بعشرات
الآلاف، وأنّ كلفة الفشل المدرسيّ تُقدّر
ب345 مليارا من الملّيمات، منها 137 مليارا كلفة الرّسوب و208 مليارات كلفة
الانقطاع المدرسيّ، علما أنّ نسبة المنقطعين عن التعليم ما تفتأ في ارتفاع لتبلغ
في السّنوات القليلة القادمة، حسب تقديرات أحد الخبراء، 50 بالمئة بالمرحلة
الثانية من التعليم الأساسيّ، وخاصّة بالسّنة السابعة منه، وستبلغ النسبة 10
بالمئة بالتعليم الابتدائيّ وخاصّة من بين تلاميذ 5 و6 منه، مع غلبة للذكور على
الإناث في هذا الباب .
سيّداتي، سادتي
إنّنا اليوم إزاء شباب حزين قلق خائف من المستقبل، وهو
لا يستعدّ لهذا المستقبل بقوّة الإرادة، وإنّما يتهيّأ له بالخشية والخوف. يعاني الشّباب من غياب المرجعيّات ومن غياب المعنى في
حياته، ومن غياب الدّلالة في الأعمال التي يؤدّيها في المدرسة، إذ فقدت الشّهادات
العلميّة قيمتها التشغيليّة وصلاحيتها في المجتمع، فصاروا يشعرون بأنّهم لا يصلحون
لهذا المجتمع، أو أنّهم مرفوضون لأنّهم لا يملكون خيارات في حياتهم، ولا أفق
لمستقبلهم، ولا معنى لحياتهم أصلا.
الخارطة المدرسيّة العادلة : هل إصلاح المدرسة بعد هذا أمر ممكن؟
كان بودّنا أن نجيب عن الفور بالإيجاب، لولا ما نلاحظه
من تفاوت اجتماعيّ بين التلاميذ، ولولا الفوارق المجحفة بين الجهات، ولولا
الاختلال الفظيع في الخارطة التربويّة، الأمر الذي يمنعنا من التكلّم على
الديموقراطية التربويّة وعلى تكافؤ الفرص بين المتعلّمين.
فهل مجرّد ترسيم جميع الأطفال في سنّ الدراسة يُعدّ
ديموقراطية تربويّة؟
وهل مجرّد تعميم التعليم يُعتبر تكافؤا في الفرص وتساويا
في الحظوظ؟
أليس التفاوت الاجتماعيّ المجحف من أهمّ أسباب التمرّد التلمذيّ على
المدرسة وقوانينها ومعارفها؟
حقوق الطفل في المدرسة أو التربية على المواطنة
إذا كان الأمر
على ما وصفنا، فهل ما زلنا نطمع في سلوك مدنيّ يتحلّى به الشّباب التلمذيّ؟ وكيف
تكون المواطنة في المدرسة وخارجها مع شباب يائس فقير، يعيش بلا أمل في إمكانية تحسّن
وضعه؟ وماذا تعني التربية على المواطنة في مثل هذه الظروف؟ أليست الثقة منعدمة
حقّا بين ما تقترحه المدرسة وما يطلبه المجتمع؟ ما رسالة المدرسة اليوم؟
وكيف تكون الخارطة المدرسيّة عادلة؟
هذه من الأسئلة التي دعتنا إلى تنظيم هذه المائدة
المستديرة، قصد تعميق النّظر فيها، مع ثلّة من الأساتذة الجامعيّين والخبراء
المختصّين في الشّأن التربويّ، وهم السّادة :
ــ الدكتور محمّد صلاح الدّين الشريف أستاذ اللغة العربيّة
بكليّة الآداب بمنّوبة
ــ منجي العكروت المتفقد العامّ للتربية والمدير العامّ
للامتحانات سابقا
ــ محمّد نجيب عبد المولى المتفقد العامّ للتربية والخبير
بالمعهد العربيّ لحقوق الإنسان
ــ الأستاذ أحمد السافي المحامي وعضو المجلس الوطني
التأسيسيّ
فلجميع هؤلاء
الشّكر الجزيل على تلبية الدّعوة
ابراهيم بن صالح - رئيس فرع صفاقس الجنوبيّة للرّابطة
التونسيّة لحقوق الإنسان
1 مارس 2014، بقاعة الأفراح البلديّة بصفاقس
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire