نختم بهذه الورقة سلسلة الورقات التي خصصت لامتحان الباكالوريا التي تناولت بالدرس الشعب و الاختبارت و خاصة
ماهياتها و قد توّجْناها بالتطرق للإشكاليات التي تتطرحها الماهيات الحالية و أرفقناها
بجملة من التصورات و المقترحات قصد تطويرها
ثانيا: توجّهات من أجل تطوير الاختبارات
بعد تخصيص القسم
الأول ( ورقة الاسبوع الماضي ) لإشكاليات ماهيات اختبارات الباكالوريا التونسية ، نرصُد
في هذا القسم المظاهر الممكنة للتطوير والتجديد، في مجال بناء مواصفات الاختبارات،
مُشيرين إلى السّند القانونيّ، إنْ كانت نصّت عليه الوثائق المرجعيّة، كالقانون
التّوجيهيّ للتربية والتّعليم المدرسيّ لسنة 2002، وبرنامج البرامج الصّادر سنة
2002، والخطّة التنفيذيّة لمدرسة الغد 2002/ 2007، والهيكلة الجديدة للتعليم
الثانويّ، وبخاصّة البيانات المتعلّقة بملامح خريّجي كلّ شعبة، والصّادرة سنة 2004.[1] ثمّ سنحاول رسْمَ ما عسى
تكون عليه التوجّهاتُ العامّة التي يُمكن أن يستند إليها إصلاحُ امتحان البكالوريا.
1.الحاجة إلى وثيقة مرجعيّة منهجيّة
رأينا في القسم الأوّل من هذه الورقة أنّ مواصفات
الاختبارات المُدرجة في مختلف قرارات تنظيم امتحان البكالوريا، أو بالقرارات
الخصوصيّة، لا تخضع لمنهجيّة موحّدة في الإعداد، تتّبعُها مختلفُ اللجان،
وبالتّالي فإنّها لا تعدو أن تكون حصيلة اجتهادات فرق العمل المكلّفة بوضعها، ممّا
يشرّع للحاجة إلى وثيقة مرجعيّة منهجيّة تلتزم بها مختلفُ اللجان المهتمّة
باختبارات امتحان شهادة البكالوريا، وتتضمّن شبكة من البنود، من الضّروريّ
توفّرُها في كلّ مواصفة أو ماهية ، من قبيل الكفايات المستهدفة ومفهوم جديد
للتقييم و وصف للوضعية التقييمية
أ.
تبعا لبناء البرامج الجديدة وفق مقاربات
الكفايات لا بد أن تضبط ماهية كل صنف من الاختبارات الكفايات المنتظر قيسُ
نمائها واتّساعها، سواء كانت الكفايات الأفقية أو الخصوصية أو المجالية:
Ø
كفايات أفقيّة وهي كفايات عابرٌ للموادّ، وقابلٌ
للتعميم والنقل من سياق إلى آخر. ويجب أن يكون هذا البند مشتركا موحّدا بين مختلف
الشّعب الدّراسيّة، وإنْ تفاوتتْ درجة التركيز على مكوّناته باختلاف خصوصيّة
الشّعب ومسالك الدّراسة. ولذا،
فينبغي أن نعتمد فيه على الوثيقة الرّسميّة المُسمّاة برنامج البرامج والصّادرة
سنة 2002،[2] والتي أقرّت الكفايات
الأفقيّة التّسْع الآتية:" يستثمر المُعْطيات/ يتوخّى منهجيّة عمل ناجعة/
يوظّف التكنولوجيّات الحديثة/ ينجز مشاريع/ يحلّ المسائل/ يمارس الفكر النقديّ/
يعبّر بالطرق الملائمة/ يتواصل مع الآخرين/ يعمل مع الآخرين ويعيش معهم."
إنّ اعتمادُ الكفايات الأفقيّة يعني
تركيزَ الاختبارات على القدرات المنتظر قيْسُ مدى نمائها واتّساعها، أو على
الملامح الكبرى للخرّيجين من المنظومة التعليميّة. وهذا وجهٌ أوّل من التطوير
يتمثّل في الانتقال من التركيز على الأبعاد المضمونيّة للبرامج إلى التركيز على
الكفايات.
Ø كفايات
خصوصيّة أو كفايات الموادّ المُؤَمّل استنفارُها في معالجة الاختبار، وهي
التي تضطلع بتنميتها في المتعلّم مادّةٌ دراسيّة بعيْنها، كالرّياضيات أو اللغة
العربيّة، أو التاريخ والجغرافيا، أو الاقتصاد، وتتمثّل في المعارف والمهارات
المكتسبة من تعلّم مّا.[3]
فهي كفايات ترتبط بحقل مخصوص من حقول المعرفة،
وتنطبق على مجال محدود من الوضعيات. والمهمّ في مجال التقييم تعبئة هذه المكتسبات
واستنفارُها، لا استرجاعُها والبرهنة على حفظها. وهذا وجهٌ ثان من التطوير
يكمُن في توظيف المعرفة لمعالجة وضعية معيّنة لا استظهارها أو تردادها أو تكرارها.
Ø وأخيرا
كفايات مجاليّة، أي تلك التي ترتبط بمجال من مجالات
التعلّم، أو عائلة من عائلات الموادّ الدّراسيّة، كالكفايات المشتركة بين عائلة
الموادّ العلميّة، كالرّياضيات والعلوم الفيزيائيّة وعلوم الحياة والأرض، أو
كالكفايات المشتركة بين مجال الموادّ الاجتماعيّة، كالفلسفة والتاريخ والجغرافيا
والتفكير الإسلاميّ...إنّ الاهتمام بالكفايات المجاليّة سيسهم في تحقيق مبدإ
التضَافر والتكامل بين التعلّمات المتقاربة، فيُخلّص الموادّ من عزلتها، ويكسر
ظاهرة التعلّم الضيّق والمنغلق." لأنّ المدرسة مدعُوّة إلى إكساب
المتعلّمين القدرة على استثمار المعارف والمهارات المكتسبة لتدبّر البدائل
والخيارات في حلّ المسائل التي تعرض لهم".[4] وهذا مظهر ثالث من مظاهر
تطوير ماهيّات الاختبارات التي ستصير قابلة لانفتاح بعضها على بعض، بالبحث عمّا هو
مشترك.
ب.
المفهوم الجديد للتقييم: ينبغي أن تركزُ هذه الوثيقة المنهجية، على المفهوم الجديد للتقييم
الناتج عن النقلة الجوهريّة التي شهدتها مكانة مكوّن التقييم ووظيفتُه، جرّاءَ
اعتماد المقاربة بالكفايات وما تستند إليه من مفاهيم وتصوّرات عن التعلّم
والمتعلّم والمعلّم، في علاقتها ببناء المعرفة واكتسابها.
فلم يعُدْ التقييمُ يركّز، بالدّرجة الأولى، على نواتج
التعلّم القابلة للملاحظة والقيْس كما في مقاربة الأهداف التعليميّة، أي على
اكتساب معارف ومهارات ومواقف، وإنّما صار يركّز بالأساس على تمشّيات التعلّم،
أيْ على ما يسلُكه فكرُ المتعلّم حين يكون في مقام التقييم، أو على التحوّلات
المعرفيّة والفكريّة التي تُحدثها عمليّة التعلّم في ذهن المتعلّم وسلوكه.
فالتقييم، من
هذه الزاوية، يهتمّ بمسار اكتساب المعرفة.[5] وبناءً عليه، ينبغي أن تعكس الاختباراتُ، خلال التعلّم،
وأثناء الامتحان الإشهاديّ، هذا التصوّر فتُولي التمشّيات والمقاربات، وأنماط
التفكير التي يأتيها المترشّح قيمة لا يجب أن تقلّ في أهمّيتها عن قيمة النتيجة
ذاتها، سواء أكان ذلك في مجال الرّياضيات أو الفيزياء أو الاقتصاد أو الأدب
والفلسفة. وهذا وجهٌ مهمّ من وجوه التطوير، لكنّه يحتاج بذل جهود كبيرة لتجديد
اختبارات المراقبة المستمرّة أوّلا، وتوجيهها وجهة التقييم التّشخيصيّ والتعديليّ،
ثمّ تطوير اختبارات الامتحان الإشهاديّ، وتوجيهها وجهة النّظر في مدى قدرة
المترشّح على استنفار مكتسباته وتعبئتها، وقدرته على "اعتماد تمشّيات
ومقاربات مداخلها متعدّدة ومتنوّعة"، بغاية حلّ ما هو مطروح عليه من مشكلات
أو مسائل، أو إنجاز المشروع المطلوب منه.
ج.
أخيرا يجب أن تتضمن الوثيقة المرجعية وصفا
للوضْعيات التقييميّة: أي مكوّنات الوضعيّة التقييميّة أو الاختباريّة. ويشترط
فيه أن يكون، من جهة، متناغما مع المفهوم الجديد للتعلّم، -باعتباره " انفتاحا على بيداغوجيّات
تبني عملية اكتساب المعرفة على جهد المتعلّم"[6] وينهض فيها المدرّس بوظيفة
الحفز والإرشاد وتوفير المَوارد عند الاقتضاء -ومن جهة ثانية، متلائما مع المفهوم
الجديد للتقييم بوصفه سندا للتعلّم، وكاشفا عن درجة نماء الكفايات المقرّرة ودرجة
تملّكها من قبل المتعلّم.
يمكن أن نعرّف الوضعية التقييميّة-من المنظار الجديد-على
أنها" اختبار يتكوّن من مهمّة Tâche أو عدّة مهامّ Tâches على المُتعلّم أن
ينفّذها حتّى يبرهن على بلوغه الغرض المقرّر". فهي وضعيّة تتيحُ للمتعلّم أن يمارس كفاية
أو أكثر من الكفايات الخصوصيّة والأفقيّة التي تملّكها، لكي يجد حلاّ للمُشكل
المطروح عليه، وينتج وثيقة تشرح التمشّيات التي توخّاها والنتائج التي حقّقها.
وللوضعية التقييميّة خصائص وشروط ينبغي أن تتوفّر في صياغتها، منها أن تكون
الوضعية المعروضة على المتعلّم بغاية التقييم:
Ø
دالّة بالنّسبة إلى المتعلّم وهو في وضعية
تقييم:
أي على صلة بتوجّهات برنامج التعلّم وباهتمامات المتعلّم وشواغله، ما يبعث فيه
رغبة العمل والإنجاز، ويُبرز له بجلاء منفعة المعارف التي يكتسبها.
Ø
مُنزّلة في سياق، أي مرتبطة بالظّواهر الطبيعيّة والأحداث
الجارية أو متعلّقة بمسائل من الحياة اليوميّة...
Ø
حاملة لقيم إيجابيّة متعلّقة بالقيم التي بُني عليها برنامجُ
التعلّم، من قبيل احترام المحيط والمواطنة...
Ø
مفتوحة، بمعنى أنّها تقدّم وضعيات للانطلاق تكون
كفيلة بأنْ تفتح على مسارات ومسالك عديدة، وتستلزم توخّي تمشّيات عدّة.
Ø
اندماجيّة، بما أنّها تمكّن من تعبئة أصناف من المعارف
مستمدّة من عوالم متنوّعة، ومن استنفار مفاهيم عدّة...
وعلى العموم، فعَلى المدرّس، وهو يعدّ الوضعية
التقييميّة،" أنْ يحرص على ما يلي:
§
"أن يَطرح على المتعلّمين غرضا
إجرائيّا،
§
أن يُرجّح تقنية التعليمة Consigne على تقنية السّؤال
المباشر،
§
أن يتجنّب ما أمكن الأَسْناد المبالغة في
اللفظيّة،
§
أن يعدّل البيانات وطريقة توفيرها
للتلاميذ،
§
أن يدرج في الوضعية بيانات حقيقيّة أو
محتملة،
§
أن يتأكّد أنّ التعليمات أو الأسئلة
مستقلّ بعضها عن بعض،
§
أن يعدّل مستوى الاختبار بفضل الإكراهات،
أن يستحثّ المتعلّم على الإدماج لا على مراكمة المعارف
والمهارات."[8]
باعتماد المقاربة بالكفايات، لم يعُدْ من
الممكن مواصلة اعتماد وضعيات التعلّم والامتحان الكلاسيكيّة ولا الاختبارات
التقليديّة، لأنّ التعلّم صار مغايرا وهادفا إلى تنمية كفايات من أصناف عدّة،
ولأنّ التقييم اصْطبغ بصبغة جديدة جعلته في خدمة التعلّم وسندا له، ومركّزا على
تنمية التمشيّات والمقاربات. وقد ترتّب على اعتماد المقاربة بالكفايات ظهورُ أنماط
مستحدثة من الوضعيات التقييميّة، أبرزها وأكثرها ملاءمة للمقاربة نمطَان يسمّى
أحدهما " حلّ المسائل أو المشاكل أو المُشْكلات/ Résolution de problèmes ويسمّى الثاني إنجاز المشاريع Réalisation de projets.
2.الحاجة إلى أنماط مُستحدثة من الوضعيات
التقييميّة
باعتماد المقاربة بالكفايات، لم يعُدْ من
الممكن مواصلة اعتماد وضعيات التعلّم والامتحان الكلاسيكيّة ولا الاختبارات
التقليديّة، لأنّ التعلّم صار مغايرا وهادفا إلى تنمية كفايات من أصناف عدّة،
ولأنّ التقييم اصْطبغ بصبغة جديدة جعلته في خدمة التعلّم وسندا له، ومركّزا على
تنمية التمشيّات والمقاربات. وقد ترتّب على اعتماد المقاربة بالكفايات ظهورُ أنماط
مستحدثة من الوضعيات التقييميّة، أبرزها وأكثرها ملاءمة للمقاربة نمطَان يسمّى
أحدهما " حلّ المسائل أو المشاكل أو المُشْكلات/ Résolution de problèmes ويسمّى الثاني إنجاز المشاريع Réalisation de projets.
أ.
حلّ المسائل أو حلّ المشكلات
§
التعريف الوضعية التقييميّة القائمة حلّ المسائل أو المشاكل أو المُشْكلات
بصفة عامة" نتكلّم على مسألة أو مشكل أو إشْكال،
كلّما ألْفى شخصٌ مّا نفسه في وضعية يريد أن يفعل إزاءَها شيئا مّا، لكنّه لا يدري
بالضّبط كيف يتوصّل إلى ذلك."[9] ويذهب قانيي/ Gagné إلى" أنّ
هناك مشكلا حقيقيّا عندما يتابع أحدُهم غرضا مّا، دون أنْ يُحدّد بعدُ الوسائلَ
المُوصلة إليه."ويمكن أن نوسّع هذا التعريف ونَصُوغَه بطريقة أخرى فنقول:
إنّ هناك مشكلا عندما يقوم حاجزٌ أو عدّةُ حواجز بين وضعية الانطلاق والغرض
المنشود، أي أنْ تفصل حواجزُ بين الشّخص وبين السّؤال الذي عليه أن يجيب عنه،
أو أنْ تفصل حواجزُ بين المهمّة والشّخص الذي عليه إنجازُها. ومهْما كانت
الاختلافات، فإنّ المشكل يُعرّف، عادة، بأنّه" وضعية انطلاق، ذات غرض نسعى
لبلوغه، وتستلزم من الكائن أن يبلور سلسلة من الأعمال أو من العمليات لبلوغ ذاك
الغرض. ولا نتكلّم على مسألة أو مشكلة إلاّ متى لم يكن الحلُّ متوفّرا مُسبقا،
لكنّه، مع ذلك، مُمكنٌ بناؤُه."[10]
و في المجال التربوي و خلافا لنا يعتقد البعض، ليس نمطُ
حلّ المسائل أو المشكلات حكرا على المجال العلميّ كالرّياضيات أو العلوم الدقيقة،
مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا." فالمتعلّم الذي يطلب منه مدرّسُه أن يقرأ
نصّا مّا، بغاية تقديمه في صيغة عرْض شفويّ بالفصل، يُلْفي نفسَه إزاءَ مشكل مهمّ
ينبغي حلُّه. والمتعلّم الذي عليه أن يحرّر رسالة يوجّهها إلى أبويْه لإعلامهما
بأنّه، في مرحلة التعليم الثانويّ، يفضّل الترسيم بالمدرسة العموميّة لا بالمدرسة
الحرّة، يكون هو أيضا إزاء مشكل مهمّ ينبغي حلّه".[11]
وفي الجملة، فإنّ حلّ المسائل أو المشكلات نمط من
الاختبارات يتلاءم ومختلف موادّ التدريس، علميّها وتقنيّها واجتماعيّها ولسانيّها،
وينطبق على كلّ وضعية تحتاج اكتشافّ علاقات وتنميةّ أنشطة واستثمارّ فرضيات
ومراقبتها، من أجل إنتاج حلّ مّا.[12]
§ خصائص
اختبار حلّ المسائل وخصاله
يتّفق عددٌ من الباحثين على أنّ للوضعية التقييميّة
القائمة على حلّ المسائل مُميّزات تنفرد بها، منها:
وجود غرض منشود ينبغي بلوغُه، وهو
ما يسمّيه علماءُ النفس العرْفانيّ" وضعية الختام"، علما أنّ
" التقييم الإشهاديّ، في هذا السّياق، يهدف إلى الإقرار ببلوغ
المترشّح الغرض المقرّر أو إلى عدم الإقرار به، وإلى تحديد درجة الكفاية التي يسعى
المترشّح إلى تملّكها،" [13]
تقديم بيانات أوّليّة، أي معطيات تحيل إلى
ما يسمّيه علماء النفس العرفانيّ" وضعية الانطلاق". ومنها ينطلق
المترشّح في بناء تصوّره أو تمثّله للمسألة أو المشكلة.
وجود إكراهات أو عراقيل أو
حواجز على المترشّح أن يتغلّب عليها، وأن يتجاوزها أثناء تّمشّيه للبحث عن حلّ
للمسألة.
ضرورة القيام ببحث عرفانيّ غايته ضبط
إجراءات العمل ومنهجية حلّ المسألة.
ويذهب بعضُهم إلى ضبط مراحل لحلّ مسألة مّا، من أبرزها
مرحلتان:
- تمثّل الأولى
طورَ تمثّل المشكلة، ويتفرّع إلى " التعرّف إلى المشكلة، ووصفها ببيان ما
تختصّ به، وتحليلها بالتعرّف إلى ما هو متوفّر ومعلوم وما هو غير متوفّر، وبمحاولة
تصوّر مختلف الخطوات الواجب قطعُها، قبل تحقيق الغرض المنشود.
- وتمثّل المرحلة الثانية طور حلّ المشكلة،
ويتفرّع إلى توليد سيناريو حلّ مّا، وتقييم مدى نجاعة الحلول المفضّلة، وتنفيذ
الحلّ المعتمد، وتنفيذ حلول أخرى، عند الاقتضاء. "[14]
هكذا، فاختبارُ حلّ المسائل يتوفّر على عدّة مزايا،
منها:
§
أن يربط المترشّح، في المرحلة الأولى،
علاقات بين معارفه السّابقة والمعطيات المتّصلة بالمشكلة، بما في ذلك الإكراهات،
حتّى يتسنّى له ضبطُ استراتيجيّات الحلّ. إنّها مرحلة الاستنفار والتعبئة والتجنيد
للحاصل من المكتسبات. وتتجلّى، هاهنا، أهمّية الكفايات الخصوصيّة أو كفايات
المادّة في مساعدة المترشّح على معالجة بيانات وضعية الانطلاق معالجة دالّة،
وتحديد طبيعة المشكلة أو المسألة. ويطلق بعضهم على هذه الخطوات الأولى مصطلح
" تمثّل المسألة/ Représentation du Problème ويعتبرونها مرحلة رئيسيّة في طريق حلّ المسألة،
لأنّها المرحلة التي يحدّد خلالها المترشّح المعارف التي عليه أن يعبّئها وينشّطها
في ذاكرته طويلة الأمد، كي تكون على ذمّة البحث عن حلول.[15]
§ أن
يوجّه المترشّح، في الطور الثاني، جهودَه نحو" الحلّ"، وذلك
بتخيّل مختلف الحلول الممكنة والاحتفاظ بما هو كفيل ببلوغ الغرض المنشود. إنّها
مرحلة إعمال الفكر والتساؤل والمحاولات والتجريب وتقييم مدى نجاعة الحلول، وطرح
معايير التّصنيف، والتأكّد من سلامة الحل وملاءمته للغرض المنشود. وتنهض مختلفُ
هذه التساؤلات بدور مهمّ في التخطيط للحلّ وإقراره، وهي التي تمكّن من إجراء
" مُراقبة ما بَعْدَ عرفانيّة/ Métacognitif ملائمة للتمشّي
المعتمد في تنفيذ الحلّ".[16]
أ.
إنجاز المشاريع
§
مفهوم المشروع البيداغوجيّ
في البدء، كان التمشّي القائم على المشروع حكرا على بعض
تيّارات البيداغوجيا النشيطة، فالمشروع، شأنه شأن " مدرسة العمل" والنصّ
الحرّ والمراسلات المدرسيّة أو الفصول التآزريّة، يندرج في سياق يناهض المدرسة
العموميّة المتسلّطة والمركّزة على الحفظ عن ظهر قلب والتمرّن.[17]
وتستعمل عبارة مشروع، في المعنى العامّ، للدّلالة
على" مجموعة من العمليات تهدف إلى إنجاز مشروع معيّن، في سياق محدّد، وظرف
زمنيّ مضبوط." وفي السّياق المدرسيّ التعليميّ، يُعرّف المشروع البيداغوجيّ
بأنّه مسار من مسارات التعلّم، ينظّمه مدرّس أو فريق من المدرّسين، ويرومون من
خلاله بلوغَ هدف محدّد أو يبحثون عبره عن حلّ لمسألة متأكّدة، وذلك بواسطة إنتاج
شيء مّا. ويوجد تعريف آخر يبرز مكوّنات المشروع، ويعتبره " كليّة/ Globalité أو مجموعة أو
منظومة
تُجمّع وسائل بشريّة ومادّيّة وماليّة، قصد تحقيق غاية من الغايات،
حسب مخطّط أو برمجة معيّنة وفي ظرف زمنيّ محدّد."[18]
ومعلوم أنّ بيداغوجيا المشروع تبوّأت منزلة
مهمّة، منذ الثمانينات خاصّة، جرّاء ازدهار التيّار الاجتماعيّ البنائيّ، من جهة،
وتبعا لإدماج التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتّصال في مختلف مجالات التعلّم.
فهو وريث للبيداغوجيا التآزريّة والتعلّمات التعاونيّة التي ظهرت بعد الحرب
العالميّة الأولى، وهو متناغم مع التيارات التربويّة ذات المنحى البنائيّ
والاجتماعيّ.
يشترك إنجازُ المشاريع وحلُّ المسائل أو المشكلات في
الاستلهام من تيّار بيداغوجيّ يركّز على التعلّم أكثر من التدريس، وذلك بتنزيل
المتعلّم في قلب العمل التربويّ والعناية بدوافعه ومتابعة تمشّياته المنهجيّة
والفكريّة، وهو تيّار واسع يمتدّ من " التربية الجديدة/ Education Nouvelle إلى جون ديوي/ J.DEWEY إلى كوزيني/ Cousinet إلى فريني/ Freinet[19]، ويعرض نمطا جديدا للتعلّم يتمثّل في
تقطيع المنهاج المقرّر إلى سلسلة من المشاريع الصّغرى، وبالتالي، صار المشروع
تعبيرا عن منوال من مناويل التفكير وتقنية جديدة في التعلّم تثمّن النشاط الحقيقيّ
للمتعلّم الذي يحرص بنفسه على تحديد غرض لنشاطه وانتقاء الوسائل الملائمة لبلوغه.[20]
§
مكونات المشروع: يُشترط في كلّ مشروع أن يكون ذا
بُعديْن:
- بُعد مَرجعيّ فلسفيّ وثقافيّ
تترجمُه الغايات والأغراض والأهداف، يضمن الطموحَ المنشود، ويحدّد المقصد، ويشير
إلى الوجهة المؤمّلة،
-
وبُعد منفعيّ براغماتيّ تجسّمه برمجة الأعمال الواجب إنجازُها، وهو المؤمّن
للتخطيط لأمد قصير أو متوسّط.[21]
أمّا من حيث المكوّنات، فلا يوجد خلاف حولها بين
الباحثين، فكلّ مشروع بيداغوجيّ يتضمّن المكوّنات التالية: الوضعية المشكلة/
المتدخّلون في المشروع/ المقاصد والأغراض المُعْلنة/ الدّوافع/ الاستراتيجيّات
والوسائل المتاحة/ النتائج الحاصلة على الأمديْن القصير والمتوسّط/ الانعكاسات الثانويّة
المحتملة...
§
اهتمام المدرسة التونسية بهذا الموضوع: نظرا إلى أهمّية فكرة المشروع،
عُقدت بوزارة التربية التونسيّة عدّة لقاءات مع مختصّين للدّراسة وإمكانية
التوظيف. ومن جهته، تبنّى القانونُ التوجيهيّ فكرة المشروع في أبعادها ومجالاتها
المتنوّعة والمتعدّدة: مشروع المدرسة/ مشروع الجهة التربويّ/ المشروع
البيداغوجيّ... وأدْرجها ضمن كفايات المبادرة بالفصل 57:" كفايات
المبادرة، وتتمثّل في تنمية روح الابتكار لدى المتعلّمين وإكسابهم القدرة على
تصوّر مشروع والتخطيط لإنجازه وتقييمه بالنظر إلى المعايير والأهداف المرسومة.
وتكتسب هذه الكفايات من خلال أعمال فرديّة وجماعيّة تنجز في جميع مجالات التعلّم
وفي الأنشطة المدرسيّة الموازيّة." ومن جهة ثانية، التفت برنامجُ
البرامج، وإنْ بتوسُّع أقلّ، إلى فكرة المشروع وأبعادها، نقرأ فيه:" وأساسُ
التعلّم في هذا التوجّه التربويّ انبناؤُه على فكرة المشروع، سواء كان ذلك في
فضاءات المدرسة أو خارجها، فالتعلّمات، وفق هذا المنظور، تمنح المتعلّم دورا
نشيطا وحيويّا يساعده على المشاركة الفعّالة في بناء المعرفة وتنمية مهاراته
وتحقيق التواصل الاجتماعيّ مع بقيّة أطراف الفصل."[22]وتجسيما
لهذا الاختيار، نصّ القرار المنظّم لامتحان البكالوريا المؤرّخ في 24 أفريل 2008
في ملحقاته على أنّ اختبار " إنجاز مشروع" مادّة من الموادّ
الاختياريّة بكافة الشّعب الدّراسيّة.
§
خصائص المشروع أداةً للتقييم
إنجازُ المشروع، باعتباره نمطا من أنماط
الوضعيات الاختباريّة، هو أداةُ تقييم هدفُها الرّئيسيّ تقديرُ مدى اكتساب
الممتحَنين لمناهج البحث وطرائق استثمار مختلف أنواع الوثائق، وتقييم درجة
استقلالهم وشعورهم بالمسؤولية وقدرتهم على المبادرة. ومن ناحية عمليّة، هو أداة
للكشف عن ملامح المترشّح من حيث قدرته على طرح الأسئلة الهادفة، وافتراض الفرضيات،
والتنظيم والتّصميم، وتنفيذ المهامّ، ومراقبة المعلومات والتقييم.
وعلى العموم، فإنّ تنوّعَ المعارف وهيكلتَها
وإعمالَ الفكر وممارسة الروح النقديّ، والبرمجة والتنفيذ هي المقاصد من إنجاز
المشروع، عندما يُستخدم أداة للتقييم. [23] ومن مزايا إنجاز المشروع
أداة لتقييم:
§
مدى ربط المترشّح بين المعرفة المدرسيّة
النظريّة والمعرفة الاجتماعيّة العمليّة، ودرجة تجاوزه التضّادّ المفتعل بين
الحياة والمدرسة،
§
مدى اكتساب المترشّح لمعارف جديدة،
انطلاقا من استنفار معارفه السّابقة والتساؤل والفعل،
§
درجة تملّك المترشّح للمبدإ الدّاعي إلى
تكامل الموادّ الدراسيّة، ونقل الإجراءات العرفانيّة والكفايات المكتسبة إلى
سياقات جديدة،
وفي الجملة، فإنّ اعتماد حلّ المسائل
وإنجاز المشاريع من التوجّهات الجديدة والمستقبليّة في مجال تقييم المتعلّمين،
كما في مجال التعلّم، لأنّها تضع المعارف في خدمة الكفايات وتؤسّس لممارسات
بيداغوجيّة وتعلّميّة مستحدثة ومختلفة عن النموذج التعليميّ التلقينيّ والتراكميّ،
وترسي قواعد منوال تعليميّ يضع المتعلّم في قلب العملية التعليميّة، ويجعل التقييم
في خدمة التعلّم.[25]
3.
سبل
لتطوير موضوعيّة الاختبارات المقاليّة
سبق أن عرضنا لمختلف التدابير والإجراءات
الهادفة إلى الترفيع من درجة موضوعيّة الاختبارات المقاليّة، ومنها توخّي أنواع من
الإصلاح، كالإصلاح المزدوج والإصلاح التعديليّ، ومراقبة الإصلاح.
وفيما يهمّ اعتماد هذا الضرب من
الاختبارات، يذهب عددٌ من الباحثين في مجال الدّوسيمُولوجيا إلى قصْر
الاختبارات المقاليّة على تقييم قدرات المترشّحين في الكتابة والتحرير
المسترسل، سواء في نمط معيّن من النّصوص كالنصّ الوصفيّ أو الحجاجيّ أو التفسيريّ،
أو في أنماط متعدّدة من النّصوص، ويرون فائدة في مطالبة المترشّح بكتابة عديد
النصوص في مواضيع يختار منها ما يراه، على أن يكون العددُ النّهائيّ المسند حصيلة
المعدّلَ الحسابيّ لمختلف التحارير التي أنشأها المترشّح.
ويذهب فريق آخر إلى الدعوة إلى الجمع بين
الاختبارات الموضوعيّة والاختبارات المقاليّة، وإلى أن تعتمد الاختبارات
الموضوعيّة لتقييم درجة تمكّن المترشّح من الكفايات الخصوصيّة المتعلقة بالموادّ،
كأنْ تعتمد في تقييم مدى تملّك المترشّح للنظام اللغويّ، مهْما كانت اللغة
المقصودة، كالمعارف اللغويّة والمفاهيم، والمداخل المعجميّة، والرّصيد اللغويّ،
والأشكال النحويّة، والظواهر الصرفيّة والتصريفيّة، والصُّور البلاغيّة
والأسلوبيّة، في حين تعتمد الاختبارات المقاليّة لتقييم درجة قدرة المترشّح على
الكتابة والتحرير في أنماط متنوّعة من النّصوص،[26] أي قدرته على "
التّعبير بطرق ملائمة والتواصل مع الآخرين كتابيّا.
.
4.
نحو شبكة جديدة من الاختبارات
في نطاق تصوّرات جديدة للزّمن المدرسيّ تستند إلى
نتائج البحوث الكرونُو-البيولوجيّة والكرُونو-البسيكولوجيّة، وفي إطار المقاربة القائمة على الكفايات بأصنافها،
يمكن بلورةُ شبكة جديدة من التعلّمات، بالتعليم الثانويّ. أمّا في مجال الامتحانات
الإشهاديّة، كامتحان شهادة البكالوريا، فالرأي أن يستند ضبطُ عدد الاختبارات في
كلّ شعبة إلى الملامح المرسومة لخرّيج الشّعبة، وتوزيع التعلّمات إلى
خصوصيّة وعامّة. وبالاعتماد على هذين المعياريْن، الملامح والتوزيع، تُعيّن
الاختبارات التقييميّة على أساس التركيز على ما هو خصوصيّ للشّعبة، من جهة،
والتخلّي عن الفكرة التي يدعو أنصارُها إلى ضرورة تقييم كلّ التعلّمات، في
الامتحان النّهائيّ، بقطع النظر عن أهمّيتها في بلورة الملامح الخاصّة بالشّعبة،[27] ولعلّه من الأنسب التركيز
في الامتحان الوطنيّ على ما هو خُصوصيّ. ومن المؤمّل أن يترتّب على هذه الإجراءات
التخفيضُ من عدد أيّام الامتحان والاهتمامُ بجودة الاختبارات وسلامة تقييمها. ومن
الإجراءات المنتظرة في هذا الشّأْن حسمُ الموقف من مسألة تعميم اختبارات
الإعلاميّة، الموجّهة إلى غير الشّعبة الخصوصيّة، إذْ ما الجدوى من مواصلة تعليم
الإعلاميّة لغير المختصّين فيها بالتعليم الثانويّ، بعد أن تملّكوا أهمّ المفاهيم
والتقنيات خلال المرحلة الثانية من التعليم الأساسيّ. ولعلّ التوجّه الرّامي إلى
إرْساء دبلوم مؤهّل في الإعلاميّة -B2i- في نهاية
التعليم الأساسيّ يمثّل واحدا من الحلول الجيّدة والاقتصاديّة. ولا شكّ في أنّ
تصنيف اختبارات الامتحان النّهائيّ إلى إجباريّة واختياريّة من المسائل الواجب
طرحُها على المناقشة، خاصّة في غياب دراسات أو بحوث تبرهن على الجدوى الحاصلة من
تدريس هذا الضّرب من الموادّ التي صارت قائمتُها، منذ 2008 تكاد تكون منحصرة في اللغات الثالثة والموادّ الفنّيّة
والجماليّة، وإنجاز مشروع.
وعلاوة على الاختبارات، يكون من المفيد مراجعة مُدَد حصص
الإنجاز والتخلّي عن الحصص الطويلة من قبيل ذات الأربع ساعات، والتي لا يتدرّب
عليها التلاميذ خلال العام الدّراسيّ.
الهادي بوحوش والمنجي عكروت متفقدان عامّان للتربية متقاعدان
تونس - جوان 2015.
مقالات ذات علاقة
[1] . انظر " هيكلة التعليم الثانويّ الجديدة"، وثيقة
مهمّة صادرة عن الإدارة العامّة للبرامج والتكوين المستمرّ في أكتوبر 2004، وزارة
التربية والتكوين، طباعة
المركز الوطنيّ البيداغوجيّ.
[2] .
راجع برنامج البرامج لسنة 2002، علما أنّ الكفايات الأفقيّة المعتمدة في
هذا المرجع يبلغ عددُها تسْعا، ص 42
[4] . برنامج البرامج، ص 4. للتوسّع، اُنظر الفصل 57 من القانون
التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ المتعلق بتصنيف الكفايات والمهارات.
[5] . اُنظر برنامج البرامج، الفقرة الخاصّة للتقييم الجديد، ص11، وهذه
الوثيقة تتضمّن أوضح تصوّر لدور التقييم، مقارنة بالخطّة التنفيذيّة التي ألمعت
إلى غياب ثقافة التقييم التكوينيّ، ولم تقدّم نظام التقييم البديل المُرتجى.
[7] . Nadège Bigot : Les Situations
Complexes pour Evaluer les Compétences. http://ww2.ac-poitiers.fr/meip/spip.php?article190
[19] . نذكر قولة ديوي: التعليم فعل منظّم قصد تحقيق غرض معلن. ونذكر
العمل الحرّ ضمن أفرقة لدي كوزيني، ومراكز الاهتمام التعاونيّة في بيداغوجيا
فريني.
[27] . هناك من يرى أنّ قيمة المادة بضاربها وبموقعها من الامتحان
النهائيّ كامتحان شهادة البكالوريا، وأنّها تعتبر مهمّشة إذا لم تكن مدرجة
بالاختبارات التقييميّة النهائيّة. وهذا الرأي أفضى إلى تضخيم عدد الاختبارات في امتحان
البكالوريا وكثافة الروزنامة وتعدّد الحصص.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire