" تمكين المدرّسين
من تكوين صناعيّ متين في مستوى التكوين الأساسيّ والتكوين المستمرّ، يقوم على جملة
من الكفايات المهنيّة الخاصّة بكلّ مرحلة من مراحل التعليم"
الخطة التنفيذية لمدرسة
الغد"، 2002-2007
مقدّمة
تعرضنا في الورقة
السابقة للجزء الثاني من موضوع التكوين الأساسي للمدرسين بين 1971 و 1989 وهي فترة مراجعة الاصلاح الأول و تعديل مساره و
الفترة الثالثة ( 1990 - 1998) وهي فترة الاصلاح التربوي الثاني.
و نختم هذا الاسبوع الموضوع
بدراسة العشرية الأخيرة ( 1999/
2010) و هي فترة اصلاح 2002 و مدرسة الغد
التي تميزت بشعاراتها و مشاريعها الكبرى في مجال التكوين الأساسي دون أن تترجم على
أرض الواقع .
شهدت هذه الفترة إنشاء وزارة ترعى، في آن واحد، قطاع
التربية وقطاع التكوين المهنيّ، وكانت الفترة حُبلى بالمشاريع الكبرى وبالإصلاحات،
حتّى وإنْ لم يرقَ كثيرُها إلى مستوى التنفيذ.
-
فبعد
سنوات من التفكير[1] (انطلق
التفكير منذ سنة 1998) والنّدوات برزت للوجود «خطّة تنفيذيّة لمدرسة
الغد"، للفترة 2002-2007، شعارُها" الإصلاح التربويّ الجديد-نحو
مجتمع المعرفة"، من أبرز اختياراتها، فيما يهمّ المدرّسين وسائر
المهن التربويّة:
-
إقرار
العمل بمبدإ الاحتراف، تناغما مع التوجّهات العالميّة التّي تدعو إلى
" تمكين المدرّسين من تكوين صناعيّ متين في مستوى التكوين الأساسيّ والتكوين
المستمرّ، يقوم على جملة من الكفايات المهنيّة الخاصّة بكلّ مرحلة من مراحل
التعليم"[2].
-
إطالة
مدّة التكوين الأساسيّ للمدرّسين، المعرفيّ منه والصّناعيّ، بتخصيص ما بين 3 و5
سنوات بعد البكالوريا للمعلّمين، وما بين 3 و6 سنوات بعد البكالوريا للأساتذة،
-
" تمديد فترة تكوين الأساسي للمعلمين بسنة بالمعاهد
العليا لتكوين المعلمين واعتماد منهجية التكوين بالتداول".
-
" توسيع مشمولات المعاهد العليا لتكوين
المعلّمين وتكليفها بالتكوين البيداغوجيّ والصّناعيّ للأساتذة المنتدبين، قبل
مباشرتهم للتدريس"[3].
-
" تطوير التكوين الأساسيّ لمدرّسي التعليم الإعدادي
والثانويّ في اتّجاه الجمع بين عائلات الموادّ عوضا عن تخصّص المدرّس في مادة
واحدة."[4].
كانت كلّ هذه مشاريع
كفيلة بتطوير منظومة تكوين المدرّسين في الاتّجاه الصّحيح، لكنّ إجراءات هذه
الخطّة لم تفعّل، وتمّ العملُ بإجراءات أخرى أدّت إلى تشويه المشروع وتعطيله مع
تعاقب عدة وزراء في فترة وجيزة، مقارنة بفترة الإصلاحيْن الأوّليْن.[5]
أ.
في
تكوين المعلمين: غلق المعاهد العليا لتكوين المعلّمين
ظلّ تكوين المعلّمين، في بداية هذه الحقبة، يجري في المعاهد العليا التي
ذكرنا نقائصها، ولمْ تسعَ وزارة التربية [6]
للتنسيق مع وزارة التعليم العالي لتطويرها
وتلافي نقائصها، وقد كان للفصل بين قسم التربية وقسم التعليم العالي، وللتنافس بين الوزارتين ضلعٌ
في عرقلة مسيرة المعاهد العليا. وعمدت وزارةُ
التعليم العالي إلى إغلاق البعض منها، خاصّة أنّ خرّيجي بعض الأفواج لم تتمّ تسميتُهم
بالكامل (نتيجة لسوء التخطيط وسوء التصرّف المتمثل في مواصلة الانتدابات المباشرة
من خارج المتكوَّنين من المعاهد، إلى أن تقرّر التخلّي عن المعاهد العليا لتكوين المعلمين، على عهد الوزير الصّادق القربي، بصفة كلّية،
سنة 2007، دون سابق دراسة وتقييم.
واكتفت الوزارة في هذه الفترة بانتدابُ معلّمين دون تكوين أساسيّ انتدابا
مباشرا، من بين حاملي شهادة البكالوريا[7]
ومن بين حاملي شهادات تفوق شهادة البكالوريا (بكالوريا + سنتين/ أستاذيّة...). وعلى
حساب قائمة الانتظار الخاصّة بخرّيجي المعاهد العليا لتكوين المعلمين أحيانا،
وأسهمت، عن قصد أو دونه، في زرع بذور المشاكل البيداغوجيّة والإداريّة التي يعيشها
قطاع التعليم الابتدائي اليوم.
ب.
في
التعليم الثانويّ: إجهاض مشروع الكفاءة
لأساتذة التعليم الثانويّ وولادة مشوّهة لمناظرة
الكفاءة لأساتذة التعليم الثانويّ
كانت فكرة الكفاءة
لأساتذة التعليم الثانويّ [8]CAPES محاولة لإرساء سنة تكوين إضافيّة
بعد الأستاذيّة للرّاغبين في مهنة التدريس. وقد صدر فعلا أمْران نقّحَا القوانين
الأساسيّة لسلك المدرّسين لإدراج هذا المسلك ضمن مسالك الانتداب. وضبطَ نظامَ
مناظراتها القرارُ الوزاريّ المؤرّخ في 16 جانفي 1999. ومثّل إحداثُ هذا المسلك في
صيغته الأصلية ثورة على مستوى التكوين الأساسيّ للأساتذة، لسببيْن على الأقلّ:
- أوّلهما هو تنظيم تكوين جامعيّ يدوم سنة في
المسائل المعرفيّة الكبرى، تنظّمه المؤسّسات الجامعيّة لفائدة المترشّحين من بين
حاملي شهادة الأستاذية، وذلك قبل تقدّمهم للمناظرة.
- ثانيهما
اعتماد مبدإ الانتقاء الأوّليّ إذ كان الالتحاق بمرحلة التكوين يتمّ بعد قبول ملفّ
المترشّح من قبل المؤسّسة الجامعية التي ستتولّى التكوين.
كان من المؤمّل أن يحقق هذا المشروع ثلاثة أهداف، وهي تحسين مستوى
المنتدبين الجدد، وإرساء سنة تكوين أساسيّ خصوصيّ إضافيّة، ووضع حدّ للانتداب
العشوائيّ الذي تفاقم في تلك الفترة، خاصّة مع ارتفاع عدد حاملي الشّهادات العليا
المعطلين عن العمل، والذي بدأ ينخر المنظومة التربويّة.
.
لكنّ
هذا المشروع تمّ تشويهُه عند التطبيق، فالتكوين الأكاديميّ التكميليّ لم ينظّم
أبدا، لأسباب عديدة، منها الماديّ (كلفة التكوين بالنّسبة إلى المترشّحين)، ومنها
غير الماديّ المتعلّق بموقف التعليم العالي من هذا التكوين. وتمّ تجاهلُ هذا الشّرط واعتُبرَ غيرَ منصوص
عليه بنصّ إحداث هذه المناظرة. ودُعِيّ المترشّحون إلى إجراء الجزء الأوّل من
المناظرة (الاختبارات الكتابيّة) دون سابق إعداد جامعيّ، ممّا حرم المنظومة
التعليميّة من مدرّسين ذوي تكوين معرفيّ متين، يساعد على تحقق مبدإ الاحتراف. لكنْ
تمّت المحافظة على مرحلة التكوين البيداغوجيّ الموجّهة للمقبولين أوّليّا في
الاختبارات الكتابيّة، ويسبق هذا التأهيل المرحلة النّهائيّة من المناظرة، ويتمثل
في ورشات وملاحظة دروس والتدرّب على التدريس وتكوين نظريّ...) وأوكلت المهمّة
لهيئة التفقد بمساعدة عدد من المدرّسين المؤطّرين. غير أنّ هذا التكوين لم يكن كافيا،
في نظر المتفقّدين، مقارنة بما كان يتلقّاه المنتدبون الجدد في حصص التربّص
البيداغوجيّ، لمّا كان الانتداب مباشرا، نظرا لقصر المدّة وظروف إنجازه.
وتبعا
لكلّ ذلك، فإنّ المناظرة لم تُؤمّن للمنظومة التعليميّة أفضلَ المدرّسين، بل
لعلّها تكتفي، على رأي الكثيرين، بتوفير المدرّسين الأقلّ سوءا[9].
ومن
جهة أخرى، وعلى مرّ السّنين، تفاقم اختلالُ التوازن بين العرض: (عدد المراكز المفتوحة،
والّذي يتراوح بين 1500 و2000، حسب الدّورات)، وبين الطلب: (عدد المترشّحين الذي
انطلق في الدورة الأولى 11000، ليتضاعف بعد دورتين فقط، وليبلغ في آخر دورة 98000،
سنة 2010). وعوضا عن حلّ مشكل تكوين المدرّسين وانتدابهم، تسبّبت المناظرة في خلق
مشاكل جديدة متعدّدة الأسباب.
وعلى
الرّغم من وجود المناظرة ووفرة المترشّحين، في جلّ الاختصاصات، ظلّتْ مشكلة
المراكز الشّاغرة تطرحُ مع انطلاق كلّ سنة دراسيّة، لعدّة أسباب منها:
-
عدم
تسديد الحاجيّات إلى المدرّسين في بعض الاختصاصات، عن طريق مناظرة الكفاءة، لعدم
نجاح العدد الكافي من المتناظرين.
-
سوء
تقدير الحاجيّات، وبروز حاجيّات طارئة نتيجة إرسال البعثات التعليميّة في إطار
للتعاون الفنيّ، والالتحاق أو الإلحاق بمؤسّسات التعليم العالي.
-
تصريح
بعدد من المراكز دون الحاجيّات، وتمسّك وزارة الماليّة بمواقفها عند نقاش
الميزانية.
ولمجابهة
حاجيّات الجديدة، في مفتتح كلّ سّنة دراسيّة، والتي فاقت في بعض الاختصاصات
المراكز المفتوحة في المناظرة، فُتح مسلكٌ ثان للانتداب، هو مسلك الأساتذة المعاونين
صنف أ (MACA)[10]
وهو انتداب مباشر لا يخضع لأيّ مقياس موضوعيّ، وبات مشوّشا ومنافسا للمسلك الأصليّ،
مناظرة الكفاءة، إذ تجاوز عددُ المنتدبين عبر التعاقد، في بعض السّنوات، عددَ
المنتدبين بالمناظرة، ممّا يشرّع الاحتجاج والتشكيك، وكلّ مظاهر الغضب وحتّى
النقمة. فكان ذلك من جملة العوامل التي ساهمت في تشويه المناظرة.
ج.
فشل
مشروع ثوريّ للتكوين في معاهد مهن التربية
في
السّنوات الثلاث الأخيرة من هذه الفترة، شهدت مسألة تكوين المدرّسين إجراء كاد أن
يكون ذا أثر عميق، لوْ صاحبْته إرادة حقيقيّة للنهوض بقضية التكوين والانتداب،
وتحقيق حرفيّة المعلّمين والأساتذة. إنّه إحداث معاهد مهن التربية والتكوين، سنة
2007.[11]
لقد كلّفتْ هذه المعاهد بتكوين المعلمين
والأساتذة والمتفقّدين ومديري المؤسّسات التعليميّة، وإطارات التّكوين المهنيّ، وهي
ذات تنظيم مستلهم من تنظيم المؤسّسات الجامعيّة.
ونظرا إلى أولوية قطاع المعلّمين، تبعا لإيقاف
العمل بالمعاهد العليا، كلّفت لجنة فنّيّة بإشراف التفقدية العامّة للتربية بإعداد
مرجعيّة مهنيّة للمدرّسين بالمرحلة الابتدائيّة، وبناء برنامج تكوينيّ
في ضوء ذلك، ثمّ بناء برامج بحسب مجالات المعرفة: العلميّة منها والصّناعيّة[12].
ثمّ صدر قرار يضبط مناظرة الالتحاق بمعاهد مهن التربية والتكوين، وشروط الترشّح الخاصّة بمدرّسي المرحلة الابتدائيّة،
وأبرزها شرط الحصول على الإجازة، أو ما
يوافقها (ثلاث سنوات بالتّعليم العالي بنجاح)، ممّا يستجيب للتوجّهات الدّوليّة
ولمطلب وثيقة مدرسة الغد. كما حُدّدتْ الاختصاصاتُ المطلوبة، وهي اللغات
العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، والعلوم من رياضيات وفيزياء وعلوم
الحياة والأرض، وطبيعةُ الاختبارات المختلفة الكتابيّة منها والشّفويّة، كما اشترط
القرار في المترشحين الحصول على معدّل لا يقلّ عن 12 من 20 في السنوات الجامعيّة
الثلاث، (سرعان ما تم التخلّي عن هذا الشّرط بعد دورتين بسبب عدم توفره لدى أغلبية
المترشّحين [13]
وتمّت
الدورةُ الأولى للمناظرة، وانطلق تكوينُ الفوج الأوّل في مؤسّسات ثلاث، بكلّ من
سوسة وقربة وصفاقس، بتأخير نتج عنه اختصار للبرنامج المقرّر (6 أشهر بدل سنة). وتبيّن
من تقييم سير المناظرة الأولى وإنجاز التكوين ما يلي:
- تقدّمُ
المترشّحين في السنّ، إذ بلغ متوسّط الأعمار 32 سنة، ممّا يدلّ على أنّ المترشّحين
جاؤوا للتدريس بعد إخفاقهم في الحصول على مهن أخرى، وسينعكس ذلك على إقبالهم ودافعتيهم.
- غلبة نسبة
الإناث على نسبة الرّجال، ممّا سيؤثّر في مسألة توزيعهم على فضاءات التكوين، وفي
التعيين الأوّل، علما أنّ النّسبة العظمى من المراكز الشاغرة توجد بالمدارس
الواقعة في مناطق غير بلديّة.
-
تواضع المستوى المعرفيّ، في اللغات والعلوم على حدّ سواء، ممّا انعكس سلبا على
تغطية كلّ الحاجيّات إلى المعلّمين، وفتح الباب من جديد لسدّ الشّغور بالانتداب
المباشر، من غير خرّيجي معاهد مهن التربية والتكوين.
و
من جهة أخرى، واجهت المعاهدُ الثلاث صعوبات (ظرفيّة) عند انطلاقتها، منها تأخير
الاعلان عن نتائج المناظرة ممّا تسبّب في اختصار مدّة التكوين ( 6 أشهر عوضا عن سنة) وعدم التوفّق، على العموم،
إلى انتداب مدرّسين جامعيّين للتدريس، ومواصلة التعويل على مدرّسين من سلك التعليم
الثانويّ وبروز صعوبات اجتماعيّة (الإقامة،- الطالباتُ المتزوّجات ذواتُ الأبناء
في سنّ دنيا...).
لكنّ الوقائع سرعان ما
بيّنت، بعد سنتيْن تقريبا، أنّ هذه الصّيغة، على عيوبها، لم تثبت أمام الأحداث
العاصفة، فتمّ من غير قرار واضح مُعلن، ولا تقييم حتّى سريع لهذه المنظومة، إيقاف
العمل بمناظرة الالتحاق بمعاهد مهن التربية والتكوين لتكوين مدرّسي المرحلة
الابتدائيّة، (سببُه تغيير الوزير مرّة أخرى) فظلّت المعاهد دون جمهور ومُعطلة.
وعاد الانتداب إلى صيغة
الانتداب المباشر كلّيّا، عبر الملفّات، واستنادا إلى مقاييس هذه المرّة،
تراعي السّنّ وأقدميّة الحصول على الشّهادة، ومدّة النيابة التي قضاها المترشّح في
التدريس بصفة مُعوّض، والوضع الاجتماعيّ والأسريّ للمتناظرين.
هكذا اصطبغ الانتداب للتّدريس بالتعليم
الابتدائيّ بالصّبغة الاجتماعيّة بدل الكفاءة والجدارة العلميّة والبيداغوجيّة،
وغاب من جديد مشروع التكوين الأساسيّ للمدرّسين قبل الخدمة وتُرك معيار الكفاءة
جانبا (وزارة الطيّب البكّوش[14]).
أمّا في خصوص تكوين الأساتذة لم يُبْد أصحابُ القرار حماسا للتفكير في صيغة جديدة لتكوين الأساتذة
وانتدابهم صلبَ معاهد مهن التربية والتكوين تعوّض مناظرة الكفاءة، وكانوا
كثيرا ما يتعلّلون بوجود مناظرة الكفاءة، ويعتبرونها حدّا أدنى مضمونا للانتداب وفضّلوا المحافظة على آلية تضمن الحدَّ الأدنى خوفا من ردود فعل طلبة
الجامعة في صورة إحداث مسلك خاصّ لتكوين الأساتذة، لأنّ ذلك سوف يقضي على أمل
النجاح في المناظرة والالتحاق بصفوف المدرّسين، حتّى و لو كان هذا
الأمل ضعيفا مع تضخّم عدد المترشّحين من سنة إلى أخرى.
وحافظ كلُّ الوزراء
الذين تعاقبوا على نفس الموقف على الرّغم من ظهور حركات مناهضة لمناظرة الكفاءة
منذ سنوات 2000 دعت إلى مقاطعة المناظرة. وتنامت الحركة المنادية بالتخلّي عن مناظرة
الكفاءة لأساتذة التعليم الثانويّ بعد 14 جانفي 2011، ومن قبل مختلف الأطراف، بما
في ذلك سلطة الإشراف ممثّلة بوزيرها، وانتهى الأمر، في خطوة أولى، إلى اقتراح
تغيير تسمية المناظرة مع إدراج معايير قبول إضافيّة في مرحلة القبول النهائيّ، مثل
أقدمية الشهادة. غير أنّ هذا التوجّه لقي معارضة شديدة من قبل المعطّلين عن العمل،
فآل القرار، في النهاية، إلى التّصريح، تلفزيونيّا، من قبل مدير الامتحانات
المهنيّة بالوزارة، بأنّ الدورة الجارية آنذاك -دورة 2010 – ستكون الأخيرة. ولكنّ
الوزارة لم تصدر أيّ قرار في ذلك، فباتت المناظرة معلّقة، حتّى ألغاها الوزير عبد
اللطيف عبيد[15]، ببلاغ،
معلنا في الوقت نفسه أنّ الحكومة هي التي ستحدّد معايير
الانتداب الجديدة، وتعلن عنها، وعندها يمكن تقديم الترشّح للانتداب للتّدريس
بالمدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة.
الحصيلة
ونحن نستعرض، في إيجاز،
تاريخ التكوين الأساسيّ للمدرّسين في البلاد التونسيّة نستخلص فكرتيْن أساسيتين:
الأولى تتمثل في القطيعة
بين ما نقرأه في التقارير والدّراسات والتصريحات الرّسمية وكذلك توصيات اللجان المختصّة،
وبين السّياسات المتّبعة: فالأولى تولي التكوينَ الأساسي مكانة مركزيّة في عمليات
الإصلاح التربويّ، والثانية تتجاهله أو تهمّشه في صورة وجوده.
الثانية هي غيابٌ لسياسة حكوميّة واضحة ومتواصلة وتراكميّة
في هذا المجال، ربّما باستثناء الفترة الأولى 58/71. فلكلّ وزير تولّى حقيبة
التربية والتعليم رؤيتُه الشّخصيّة لهذه المسألة، وكثيرا ما لاحظنا أنّ الوزراء
يتجاهلون، أو يجمّدون، أو يلغون الإجراءات السّابقة لهم، وحتّى المؤسّسات
التّكوينيّة المحدثة، وكأنّها لم تكنْ. ومن شأن ذلك أن حرم المنظومة التعليميّة من
توجّهات واضحة المعالم، تكون الإدارة مسؤولة عن تنفيذها.
وقد
سجّلنا أنّ الوزراء لا يستندون في قراراتهم، فيما يتعلق بإيقاف
العمل بصيغة مّا، أو إغلاق مؤسّسة تعنى بتكوين المدرّسين، إلى دراسات تقييميّة
أو إلى بيانات إحصائيّة تكشف عن جدوى الصّيغة أو مردود المؤسّسة، بل كانت
قراراتُهم، في بعض الأحيان، على نقيض ما أقرّته التقييمات، وإلاّ:
فبمَ
نفسّر التخلّي عن صيغة مدارس ترشيح المعلّمين والمعلّمات في تكوين مدرّسي المرحلة
الابتدائيّة، مطلعَ التّسعينات، وتعويضَها بصيغة تكاد لا تختلف عنها جوهريّا، صيغة
المعاهد العليا لتكوين المعلّمين؟
وبمَ
نفسّر تعطيل العمل بهذه الصّيغة، بصفة فجئيّة، ودون التشاور مع وزارة التعليم العالي،
المشرفة على المعاهد العليا، والاستعاضة عنها بمعاهد مهن التربية والتكوين؟
ولو استند الوزراء في قراراتهم
إلى دراسات لتجنّبوا الهدم، هدمَ القائم، واتّجهوا نحو تطوير المؤسّسات
التكوينيّة، بما يجعلها مستجيبة لمستلزمات المرحلة، ومقتربة أكثر فأكثر من
التوّجهات الدوليّة، في مجال انتداب المدرّسين وتكوينهم تكوينا أساسيّا، قبل
مباشرة الخدمة.
إنّ كلفة غياب مؤسّسات متخصّصة أو سوء تقدير الحاجيات كلفة
باهظة: فالمدرسة التونسيّة تشكو
من إطار تدريس يفتقر إلى
التجانس، ولا يتوفّر على هويّة مهنيّة، باعتبار هذه الهويّة من أبرز الشّروط
الرئيسيّة لممارسة مهنة من المهن. فالفرق شاسع بين منتدب متخرّج من دار المعلمين
العليا أو من مدرسة لإعداد المعلّمين، استبطن المهنةَ وانخرط فيها وتهيّأ
لممارستها، وبين منتدب حاصل على شهادة جامعيّة من إحدى الكلّيّات، أو حامل لشهادة
من جامعة أجنبيّة، أو منقطع عن التعليم العالي بعد سنة، ولو بنجاح، أو حامل لشهادة
البكالوريا من شعبة الآداب، فضّل الاشتغال على مواصلة الدّراسة، أو بدأ دراسة
جامعيّة لم تعجبه.
في خاتمة هذا التاريخ
الموجز، نجد أنفسنا كالمضطرّين إلى الإقرار بفشل مزدوج، يتمثل الأوّل في تفريطنا
في إرث الجيل السّابق عوضا عن تثمينه وتطويره، ويتمثل الثاني في عجز المنظومة
التربويّة عن تجسيم مطلب مدرسة الغد وتحقيقه، وهو المطلب الدّاعي إلى جودة المدرّسين، ذلك أنّه لم توضع أيّة آلية، ولو بالتدريج، تضمن حرفيّة
المدرّس وكفاءته التي أقرّها إصلاح 2002 محورا من محاور تطوير المنظومة.
وبالتالي، فإنّ هذا المطلب لم يلقَ أيّ تفاعل من قبل الإدارة المركزيّة المكلّفة
بانتداب المدرّسين (خاصّة إدارة التعليم الثانويّ)، فلم تعدّ مرجعيّة مهنيّة[16]
للمدرّسين بالمدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة تحدّد كفاياتهم المهنيّة، ولم
تقترح أيّ برنامج يحقّق الجمع بين تكوينهم المعرفيّ وتكوينهم الصّناعيّ،
والحال أنّ وثيقة مدرسة الغد تقرُّ أنّ مسألة تأهيل المدرّسين مسألة مصيريّة،
وأنّ كلّ نظام تربويّ حديث يستند، بالدّرجة الأولى، إلى جودة موارده البشريّة. وإذْ
كانت ترى أنْ لا وجود في الحقيقة لمكوّن آخر-مهما بلغت درجة أهمّيته-يؤثّر بعمق
مثلما تؤثّر كفاءة المدرّسين، في أداء المؤسّسة التربويّة وفي مردودها.
نأمل أن تولي الحكومات
القادمة الاهتمام بمسألة تكوين المدرّسين التي يجب أن تحظى في رأينا بالأولوية
المطلقة في الإصلاح التربويّ، وبها نبدأ حتّى نجيب عن السّؤال الذي قرأناه على
لافتة المنتدى الوطنيّ عن مداخل الإصلاح التربويّ من أين نبدأ؟ الذي انتظم يوم 16
أوت 2014 بتونس.
. الهادي بوحوش والمنجي العكروت،
متفقدان عامان للتربية متقاعدان
أفريل 2015
مقالات
ذات علاقة
المدرسة العلويّة أولى مؤسّسات تكوين المعلمين بتونس
مقتطفات من كلمة مدير المدرسة العلويّة في حفل توزيع الجوائز
المدرسة التأديبيّة: أولى مؤسّسات تكوين معلّمي اللغة العربيّة
أيّة آلية لانتداب المدرّسين؟
مناظرات انتداب المدرسين ...هل هي عودة الرشاد ؟
مناظرات انتداب المدرّسين دورة 2014
مختصرتاريخ مناظرة الكفاءة لأستاذية التعليم القانوي( كاباس)
تاريخ موجز للتكوين الأساسيّ للمدرّسين في البلاد التونسيّة
تاريخ موجز للتكوين الأساسيّ للمدرّسين في البلاد التونسيّة
[1] انبعثت لجنة مدرسة الغد في نوفمير1998 بغاية التفكير
في ادماج تكنولوجيات الاتصال الحديثة في مجال التربية وانطلقت أشغالها في جانفي
1999
[5] تعاقب
على وزارة التربية بين جانفي 1999 و جانفي 2011 7 وزراء
( رضا فرشيو، عبد الرحيم الزواري،عياض الودرني، منصر الرويسي، محمد رؤوف النجار، الصادق القربي، حاتم بن سالم)
[6] عند بعث المعاهد العليا
لتكوين المعلمين كانت ذلك في عهد الوزير محمد الشرفي يشرف على التربية والتعليم
العالي
[7] - الفصل 20 من الأمر الضّابط للنّظام الأساسيّ لرجال التعليم
العاملين بالمدارس الابتدائيّة، (الأمر عدد 2430 المؤرّخ في 24-11-2003).
[9] Mahdi Abdeljaoued citant les résultats
d’une enquête internationale réalisée en 1999 dans 35 pays que seulement 25%
des professeurs de mathématiques tunisiens ont déclaré « qu’ils étaient
très bien préparé à enseigner, 23% l’étaient très peu et 42% assez bien
préparés (les pourcentages pour tous l’échantillon étaient respectivement de
63 ,14 et 23% . op
cité note 25
[10] (Maitre
auxiliaire catégorie A
) هو إطار أحدث بمقتضى الأمر عدد 92 المؤرّخ في 16 مارس 1964 المتعلق بالقانون الاساسي بالأساتذة المعاونين
و القيمين التابعين لكتابة الدولة للتربية القومية و المنقح بالأمر عدد 1637 المؤرّخ في 26 جويلية
1999( السّنة نفسها لانطلاق مناظرة الكفاءة)
الذي نصّ على إمكانية انتداب الاساتذة المعاونين بمعاهد التعليم الثانوي إمّا
للقيام بنيابة عضو من رجال التعليم اثناء غيابه أو للقيام بحصص تدريسية كاملة أو
جزئية.
[11] : الأمر
عدد 216 المؤرّخ في 14 أوت 2007، والضّابط لتنظيم معاهد مهن التربية والتكوين وطرق
تسييرها.
[12] : وثيقة داخليّة أعدّتها لجنة فنّيّة من سلك التفقد ذوي الاطلاع
على خطط تكوين المعلّمين، توجد نسختها الأصليّة بالتفقدية العامة للتربية، ولدى
مديري معاهد مهن التربية.
[16] : تواصل الأمر على ما هو عليه، دون مرجعية مهنيّة، بالرّغم من أنّ
تقييم المدرّسين يستند إلى هذه المرجعيّة كما ينصّ على ذلك الفصل 63 من القانون
التوجيهي للتربية والتعليم المدرسيّ لسنة 2002 .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire