تقترح المدوّنة البيداغوجيّة، هذا الأسبوع، على قرّائها،
تقديم آخر كتاب للمؤرّخ التّونسيّ، الأستاذ الهادي التيمومي، بعُنوان "تعليم الجهل
في عصر العولمة والإصلاح التربويّ بتونس"،[2] وهو عمل أنجزه زميلُنا لطفي
صواب، متفقد المدارس الإعداديّة والمعاهد (اختصاص اللغة الفرنسيّة)، وقد نُشر هذا
التقديمُ بالمجلّة الإلكترونية ليدَرْس[3] LEADERS وبعدد آخر من الجرائد والمجلّات، مثل
المجلّة الأسبوعيّة حقائق في عددها 1600، بتاريخ 26 أوت -غرّة سبتمبر 2016، كما
نشرتْ جريدة الشّعب ترجمة للتقديم، وذلك في عددها الصّادر بتاريخ 26أوت 2016.
وقد سمح لنا السيّد لطفي صواب، مشكورا، بإعادة نشر تقديمه هذا بالمدوّنة
البيداغوجيّة.
إنّ المدرسة التونسيّة في أزمة: ومعاينةُ ذلك
لا تحتمل نقْضا، فالتدنّي الفادح في جودة التعليم تؤكّدُه الهيْئات الدّوليّة المُتخصّصة
في التقييم. فالمؤسّسة التّعليميّة التونسيّة تشكو عديدَ النقائص والعيوب، يشهد
على ذلك صدورُ الكتاب الأبيض الذي أعدّته وزارة التربية ونشرته يوم 29 ماي 2016، والذي
يفترض أن يُرْسيَ أسُس الإصلاحات التربويّة الجديدة. في مثل هذا السّياق، صدر كتاب
المؤرّخ الهادي التيمومي «تعليم الجهل في
عصر العولمة والإصلاح التربويّ بالبلاد التّونسيّة."
كشف المؤرّخُ، في توطئة مُؤَلَّفه، أنّ هدفه إنّما هو " استحْثاث الحوار
حول مسألة مصيريّة تهمّ حاضر التونسيّين ومستقبلهم"، وأكّد أنّه " حاول أن
يجمَع بين الاختصار والإيجاز والشّمول، " مع تجنّب الكلام المنمّق السّطحيّ
والعقيم. " )ص 6(
فحَص التيمومي الكتاب الأبيض فحصا نقديّا، فأبرز مزاياه، لكنّه عاب عليه
مقاربته التي ركّزت على الجوانب الفنّيّة كالزمن المدرسيّ، وتقييم عمل التلامذة،
ونظام التأديب، وإدارة المؤسّسات المدرسيّة، كما عاب على أصحاب المشروع تغافلَهم عن
جانب أساسيّ في الإصلاح، وهو الدّور المَنُوط بالمدرسة، وعلى التقرير سقوطَه في
التعميم المفرط.
فقد جاءت بعضُ العبارات شبيهةً بالقوالب الجاهزة،
وتفتقر المقاربةُ المعتمدةُ فيه إلى أمر أساسيّ: فكيف نترجم المبادئ المُعلنة
والقيمَ المنشودة إلى أهداف دقيقة وإجرائيّة يمكن التحقّقُ منها في البرامج
المدرسيّة وفي أنشطة التلاميذ؟ وأيّ مضمون للأنشطة الثقافيّة؟ وما مصيرُ تعليم
التاريخ والفلسفة؟ كيف ندرّس الإسلام[4] اليوم (دين -حضارة -تاريخ).
وعقب هذه التساؤلات، يخلُص التيمومي، دون لبْس، إلى إصدار الحُكْم القطْعيّ التالي:
إنّ المسألة التربويّة مسألة شديدة التعقيد، ولا يجوز أن نُوكل أمرَها إلى الخبراء
والسّياسيّين.
ومن جهة أخرى، يرى المؤرّخ التيموميّ أنّه من غير المعقول مقاربة الإصلاح
التربويّ، دون إدراجه في إطار أوسع وأشمل، وهو إطار المنوال الاقتصاديّ المهيْمن (منوال
التنمية): فالمنوالُ التونسيّ للتنمية يتميّز بعولمة المعرفة وسلْعَنَتها. وهذان
المفهومان يشكّلان مفاتيح أطروحة المؤلّف الذي يشير إلى أنّ مدرسة اليوم تتعرّض
للآثار الكارثيّة الناجمة عن سياسة ليبراليّة تفرض على الجميع معاييرَها (المردودية
الفورية – التنافسيّة، الأداء القياسيّ، والكفاءة). إنّ المدرسة، وعليها مستقبلا
الاستجابة لحاجات السّوق، أصبحت جزءا من دواليب المؤسّسة الاقتصاديّة، وصار
التعليم وظيفيّا أكثر فأكثر، وأقلَّ تثقيفا، وما تثمينُ الشُّعب التقنيّة العلميّة
وتراجعُ مكانة الآداب والإنسانيات لفائدة المعارف ذات الصّلة بهندسة التسيير
والاقتصاد، سوى تعبير عن هذا التوجُّه.
إنّ التحليل الذي توخّاه المؤرّخ أوصله
إلى تشخيص أوجُه خلل المنظومة، والتي يُمكن تلخيصُها على النحو الآتي:
§
تفاقم العنف بالمؤسّسات
التربويّة،
§
سيطرة السلوك غير
الحضاريّ (عدم احترام الإطار التعليميّ والإداريّ)،
§
تراجع الفكر النقديّ مقابل
زحف التصحّر الثقافيّ الذي يتجلّى في مختلف أشكال الفكر الأصوليّ والتطرّف الدينيّ
بالخصوص.
§
مشكلة بطالة خرّيجي
التعليم العالي
§
تغيّب المدرّسين المزعج
§
غياب الحرفيّة في تكوين
المدرّسين.
إذنْ، ما العمل؟ وأيّ أفُق؟
يؤكّد المؤلّف أنّ إعادة بناء التعليم رهينُ منوال التنمية. ومن نافلة القول
أنّه، في مثل حالة التعليم حاليا بالبلاد التونسيّة، لا مكانَ لسياسة الترقيع أو
الترميم: فقد بلغ الشَّرخ حجما يستوجب التفكير في حلول أخرى، قصد
إعادة الحياة للمدرسة التونسية، واستبدال " الإنسان الاقتصاديّ"
بالإنسان الشّامل، الإنسان المواطن، أيْ، باختصار، إنسان النزعة الإنسانيّة الجديدة.
فعلى المدى القريب، وجَب على القوى الوطنيّة والتقدميّة
أن تناضل من أجل تطبيع الوضع الأمنيّ والاقتصاديّ. أمّا على المدى المتوسّط،
فالمهمّة تتمثّل في بناء اشتراكيّة-ديمقراطيّة، وعلى الأمد الطويل " فإنّ
المطروح على القوى الوطنيّة والتقدميّة هو الدّفْع إلى إرساء تنمية وطنيّة شعبيّة،
تتويجا للمسار الماكرو-اقتصاديّ.
وفي الأخير،
يقترح المؤلّف الإجراءات التالية على الصَّعيديْن القريب والمتوسّط:
§
فرض
النظام بالمؤسّسات التعليميّة
§
محاربة
آفة العنف في كلّ أشكاله
§
تحسين
نوعية الحياة بالمؤسّسات التعليميّة
§
التخلّي
عن سياسة النجاح المكثف
§
إعادة
الاعتبار للمدرسة العموميّة كي لا نمهّد السبيل أمام تعليم يشتغل بنسقيْن بدتْ
ملامحه في البروز للعيان اليوم
§
إنقاذ
التعليم قبل المدرسيّ
§
تشجيع
بيداغوجية السّؤال والتساؤل والانصراف عن حشو الأدمغة.
§
التصدّي لجميع أشكال
توظيف المدرسة.
§
وضع سياسة تشجّع
المطالعة في كافة المستويات التعليميّة واعتبار مُمارستها رهانا وطنيّا.
وخلاصة القول إنّ مؤلّف الهادي التيمومي هو
كتابٌ للقراءة والتمعّن، لأنّ القارئ الذي يهتمّ بالمسألة التربويّة يستمدّ منه
حججا ليجعل من التحرّر مثلا أعلى تربويّا. وإنّها لمهمّة عسيرة يتعيّن على القوى
التقدميّة والمجتمع المدنيّ، وعلى كافة الفاعلين والمنتصرين لنظام تربويّ حداثيّ، أن
يعملوا على إنجازها، لكنّه إنجاز لا يخلو من مخاطر، وقد لخّص الشاعر الفرنسيّ
روناي شار، بشكل رائع، هذه الروح، بهذه المقولة: فلْتكنْ المخاطرةُ نورا إليك".
نصّ لطفي صواب، متفقّد بيداغوجيّ
تعريب هادي بوحوش
و منجي عكروت متفقدان عامان للتربية متقاعدان.
تونس - سبتمبر
2016
ورقات سابقة ذات علاقة
الكتاب الأبيض[1] لإصلاح المنظومة التربويّة في تونس
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/05/1_4.html
تعليم الجهل : و هل ماتت المدرسة و هل أفلست التربية ؟ ابراهيم بن صالح - المدونة البيداغوجية
http://akroutbouhouch.blogspot.com/2014/10/blog-post_26.html
[2] ولد الهادي التيمومي في 13
جانفي 1949 بالكبارة (نصْر الله)، وهو مؤرّخ جامعيّ مختصّ في التاريخ المعاصر. من
مؤلفاته: النشاط
الصهيونيّ بتونس (1897-1948)، نشر دار محمّد عليّ 1982 -نقابات الأعراف التونسيّين
1932-1955 -نشْر دار محمّد عليّ 1983- انتفاضات الفلّاحين في تاريخ تونس المعاصر :
مثال 906 ، نشر بيت الحكمة -الجدل حول
الإمبريالية منذ بداياته إلى اليوم - نشر دار محمّد علىّ و دار الفارابي 1994-
تاريخ تونس الاجتماعيّ - نشر دار محمّد عليّ 1997 .الاستعمار الراسمالي و التشكيلات الاجتماعية ما قبل
الرأسمالية : الكادحون الخماسة في الارياف التونسية ( 1943- نشر
دار محمّد علىّ.في أصول الحركة القومية العربية( 1830-1920) نشر دار محمّد علىّ،2002-
مفهوم التاريخ و تاريخ المفهوم في العالم الغربي من النهضة إلى العولمة ، نشر دار
محمّد علىّ،2002- تونس 1956- 1987 نشر دار محمّد علىّ،2006 - الغائب في تأويلات
العمران البشري الخلدوني ، نشر دار محمّد علىّ،2006 - تونس و التحديث : أول دستور
في العالم الاسلامي - نشر دار محمّد علىّ،2010 - تونس في التاريخ من جديد : 14
جانفي 2011، نشر دار محمّد علىّ،2011 - خدعة الاستبداد الناعم :23 سنة من حكم بن
علي - نشر دار محمّد علىّ،2012 - المدارس التاريخية الحديثة - نشر دار التنوير 2013- نقابة رجال الاعمال التونسيين:
صراع طبقات ... أم صراع حوارات ؟ نشر دار محمّد علىّ،2015
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire