lundi 30 mai 2016

الكتاب الأبيض[1] لإصلاح المنظومة التربويّة في تونس





منذ اندلاع الثورة بالبلاد التونسيّة، طُرح تساؤل أساسيّ من قبل الرأي العامّ والنخبة، يتمثّل فيما يلي: ما تطلُب الثورة من المدرسة؟ وما تطلب المدرسةُ التونسيّة من الثورة؟ وظلّ التساؤل محلَّ نظر وفحْص، طيلة الفترة الأولى الممتدّة من 2011 إلى 2015، وتعدّدت التصريحات، وأخذت الرؤى تتبلور شيئا فشيئا، وأسهم المجتمع المدنيّ والخبراء المختصّون في شأن التربية والتعليم في هذا المخاض.

وكنّا ننتظر أن تخرج علينا الحكومة التونسيّة، بمشروع يحدّد الملامحَ الكبرى والتوجّهات العامّة السّياسة التعليميّة والتكوينيّة الجديدة التي ستُسنّ بالبلاد التونسيّة، في العقود القادمة، في ضوء المبادئ التي أقرّها الدستورُ الجديد للبلاد،  وأسس الجمهورية الثانية، والاختيارات الفلسفيّة المتعلّقة بالنظرة الوطنيّة إلى التربية والتعليم والتكوين ونمط الإنسان التونسيّ المرْتجَى تنشئتُه وتكوينُه وتأهيلُه، وفي ضوء التوجّهات التعليميّة والمنهجيّة العالميّة المؤمَّل بناءُ المناهج الدّراسيّة وممارسة الفعل التعليميّ وفْقها.
إنّ سنّ سياسة تعليميّة جديدة، كما كان الشّأن مطلَع السّبعينات، على عهد الوزير الأوّل، الأستاذ الهادي نويرة،[2] ومُوفّى الثمانينات مع الوزراء تيجاني الشلّي والهادي خليل ومحمّد الشّرفي، يتوقّف أساسا على تقييم شامل لأداء المنظومة التعليميّة القائمة وهياكلها ومُخرجاتها، يستمدّ شرعيته من ثلاثة مصادر على الأقلّ، متكاملة الأدوار، ألا وهي:
ü    الرأي العامّ الوطنيّ الواسع الذي يُترجم إجماليّا، بأحكام عامّة، عن مدى ثقته واطمئنانه للنّظام التعليميّ، ورضاه عن مخرجاته،
ü    مختلف الهيئات التّعليميّة المضطلعة بمهمّة التنشئة والتربية والتكوين، والإدارة والتّسيير، من معلّمين وأساتذة ومكوّنين وجامعيّين، ومديرين وإطارات إداريّة وتربويّة تنتمي إلى أسلاك متعدّدة، وهي هيئات قادرة على إبداء الرأي في المناهج الدّراسيّة، من برامج ووسائل تعليميّة وتعلّمات وزمن مدرسيّ ونظام تقييم وارتقاء، وفي مشاريع الحياة المدرسيّة، من تثقيف وترفيه وتدرّب على الحياة الجماعيّة والعيش المشترك، ورعاية نفسيّة وصحيّة...
ü    التّقييمات الدّاخليّة والخارجيّة المستندة إلى منهجيات علميّة، والتي تتّخذ شكْلَ بحوث ودراسات أو شكلَ ندوات وملتقيات وحلقات نقاش، وهي تقييمات تبلور أحكاما عامّة عن المنظومة التعليميّة،[3] بالنّظر إلى أهدافها، وبرامجها المختلفة، ووسائلها المتاحة، وبالنَّظر كذلك إلى التوجّهات العالميّة في مجال نظُم الدّراسة في عالم معوْلم، وفي ظلّ سيطرة التكنولوجيات الجديدة على مختلف مظاهر الحياة.
لقد أنجزت وزارة التربية شيئا من ذلك.[4] وهي ترى" أنّ مرحلة تحليل الواقع قد نالت حظَّها، وأنّه آن الأوان للعمل على تغييره".[5] فأصدرت ما الكتابَ الأبيض لإصلاح المنظومة التعليميّة.
ونظرا إلى أهمّية الحدث، فإنّنا نخصّص له ورقة هذا الأسبوع من المدوّنة البيداغوجيّة للتعريف به، والتعليق عليه، وحَضّ القرّاء على الاطّلاع عليه.
v    
أوّلا: تقديم الكتاب الأبيض لإصلاح المنظومة التربويّة التونسيّة
في أواسط ماي 2016، أصدرت وزارة التربية، كتابَها الأبيضَ( اضغط هنا للاطلاع على الكتاب )، وأردفته بعنوان: مشروع إصلاح المنظومة التربويّة بالبلاد التونسيّة، وبشعار مَلْفوظُهُ: "من أجل مدرسة تونسيّة مُنْصفة، عالية الأداء، تبْني المواطن وترتقي بالوطن." فأركانُ المدرسة التونسيّة للعقود المقبلة أربعة، وهي الإنصاف، وجودة الأداء، ونحت المواطن التونسيّ، والنهوض بالوطن. وهو تصوّر يستجيب لشروط المرحلة التاريخيّة، ويساعد على التغلّب على الوضع الرّاهن للمؤسّسة التّعليميّة الوطنيّة.
§     هيكلة الوثيقة
وهذه الوثيقة تضمّ 168 صفحة، ذات صياغة سلسة، وتنضيد جذّاب، وإخراج جيّد، ومقاسها 170/ 230. وتتكوّن، علاوة على كلمة السيّد وزير التربية والخلاصة، من خمسة أبواب كبرى، هي، على التوالي:
§       سياقات الإصلاح ومرجعياته: صص 14/ 54) 40 صفحة (
§       التحدّيات والرّهانات: صص 55/ 87 ) 32 صفحة (
§       التوجّهات الاستراتيجيّة للإصلاح: صص 88/ 111) 33 صفحة (
§       برامج الإصلاح ومشاريعه: صص 112/ 164 ) 52 صفحة(
§       الكلفة الماليّة التقديريّة لإصلاح المنظومة التربويّة: صص 164/ 166 ) صفحتان(
§       خلاصة: 167/ 168.
وعلى الرّغم من هذا التبويب الخماسيّ، فإنّ بناء الكتاب أُقيم، في الواقع، على قسميْن كبيريْن[6]:
- قسم أوّل أُفرد لتوضيح سياقات الإصلاح التربويّ ومرجعياته، وضبط التحدّيات والرّهانات، ورسم التوجّهات الاسْتراتيجيّة، ويتشكّل من الأبواب الثلاثة الأولى، المذكورة أعلاه.
- وقسم ثان خُصّص لاستعراض برامج الإصلاح التربويّ ومشاريعه، وكلفته الماليّة، فكان بذلك ترجمةً للأهداف الاستراتيجيّة التسعة، والمبادئ العامّة المنصوص عليها بالقسم الأوّل، إلى خطّة عمل ذات مشاريع تفصيليّة تجسّمها، ويشتمل هذا القسم على البابين الأخيريْن من الكتاب الأبيض.
§     صورة الكتاب الأبيض من خلال كلمة الوزير والتقديم
سنسعى بإيجاز إلى رسم الملامح الكبرى للكتاب الأبيض للإصلاح التربويّ التونسيّ، عسانا ندرك هويته والمقصد من إعداده، من خلال تتبّع كلمة السيّد وزير التربية والتقديم له: فالكتاب الأبيض للإصلاح التربويّ يمثّل من زاوية النظر هذه:
ü    تتويجا لتمشّ يقطع مع الارتجال والتسرّع والصّدفة والعشوائيّة، (ص7)
ü    ثمرةَ حوار ومساهمة واسعة واستشارة هادفة وسعْي مطَّرد إلى إشراك كافة الأطراف ذات الصّلة بالفعل التربويّ: أولياء ومربّين وتلاميذ وإطارات مشرفة، (ص7)
ü    رسمًا لملامح مدرسة تمّ التوافق حولها في مسار الحوار الوطنيّ حول إصلاح المنظومة التربويّة[7]، (ص7)
ü    مشروعَ التربية لتونس الجديدة، (ص8)
ü     جرْدا لمعلومات ومعطيات موضوعيّة وراهنة موجّهة إلى جمهور محدّد الملامح، يعرض عليه لاتّخاذ قرار أو ترجيح فرضيّة أو إمكانية إزالة مسألة مخصوصة،( ص 10)
ü    مقترحات وتوجّهات معزّزة بحجج ومؤيّدات، (ص10)
 وفي الجملة، فإنّ الكتاب الأبيض هذا وثيقة عمل تعرض فيها وزارةُ التربية المشروعَ التعليميّ لتونس ما بعد الثورة، وهو المشروع الذي أفضى إليه التوافقُ بين الأطراف المشاركة في مسار الحوار الوطنيّ، حول إصلاح المنظومة التربويّة بالبلاد التونسيّة، باعتماد تمَشّ نُعتَ بأنّه تشاركيّ واستشاريّ، وتوخّي قاعدة الحوار والتشاور منهجيةَ في المُعالجة.
وعليه، فإنّ ما تضمّنه الكتاب الأبيض لا يعتبر مشروعا نهائيّا في نظر مُعدّيه، وإنّما هو تصوُّرٌ لمشروع مجتمعيّ وحضاريّ، يرى في المدرسة" قائدةَ ركْب التحوّلات المعرفيّة والعلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة الرّاهنة والمُقبلة"، (ص7)، يطلب من الرأي العامّ الوطنيّ المناقشة والإغناءَ والتعديل، يقول الوزير: " نرْنو إلى تفاعل واسع من قبل كافة المعنيّين بالشّأن التربويّ، من أصحاب الرأي السّياسيّ والمدنيّ والعلميّ والشّعبيّ، لرسم ملامح طريق المستقبل"[8]، (ص8 )، كلّ ذلك صلب إطار مرجعيّ فكريّ يرى أنّ الإصلاح" عمل مُراكمة وبناء وتطوّر، ينطلق من مكاسب الفكر الإصلاحيّ وتجاربه، ويستفيد من صعوبات الإصلاحات السّابقة وهناتها"[9]، (ص 9) ، وأنّ غرضه الأسْنى " إعادة الاعتبار لمنزلة التربية والتعليم في المجتمع". (ص 11 ).
تعليق:
هذا الكتاب الأبيض مُوجّه، بحسب الوزارة، إلى جمهوريْن مختلفين:
ü    جمهور محدّد الملامح يضمّ الطبقة السّياسيّة والخبراء المختصّين في التربية والجمعيات المتخصّصة والذين سيدعَوْن إلى سنّ سياسات، أو اتّخاذ قرارات تهمّ التعليم، أو انتقاء توجّهات مجتمعيّة أو منهجيّة أو تعليميّة، من بين طائفة من الاختيارات تعرض على أنظارهم.
ü    جمهور واسع يضمّ كافة التونسيّين والتونسيّات طمَعا في التفاف العددين منهم حول الإصلاح الجديد.
إنّ الهدف الأوّل يندرج كلّيّا ضمن الفلسفة التي يقوم عليها مفهومُ الكتاب الأبيض، أمّا الهدف الثاني فنحسَبه غيرَ واقعيّ، لأنّ جلّ التونسيّين سيجدون صعوبة في قراءة قرابة 170 صفحة، وفهْم لوحاتها ومصطلحاتها التقنيّة والتربويّة. لذا، فإنّه من المفيد إعداد وثيقة مبسّطة ووجيزة تكون في متناول المواطن العاديّ. ومن الضّروريّ كذلك إصدارُ نسخة من هذا الكتاب باللغتين الفرنسيّة والإنقليزيّة.


ثانيا: الباب الأوّل: سياقات الإصلاح ومرجعياته
§     تشخيص الوضع الراهن للمدرسة التونسيّة
هذا باب مرجعيّ غاية في الأهمّية، جاء مُهيكلا في أربعة أجزاء مترابطة تتعلّق بالوضع الراهن للمدرسة التونسيّة وموجبات إصلاحها، وبالسّياقات المختلفة التي يتنزّل فيها، وبالاختيارات المنهجيّة التي تقوده، وبمراجع البحوث والدّراسات التي ساعدت على تشخيصه وتصوّره.
خصّص هذا البابُ الأوّل لعرض نتائج تشخيص المنظومة التربويّة والأوضاع الراهنة للمدرسة التونسيّة، ورُكّز في قسمه الأوّل على تعداد مختلف الاختلالات التي أصابت النظام التعليميّ الحاليّ، كتراجع مكتسبات التلامذة، وتفاقم الفشل المدرسيّ، واستفحال التفاوت بين الجهات والمؤسّسات التعليميّة، وصعوبة اندماج حاملي الشّهادات في سوق الشّغل، وتعاظم ظاهرتيْ الجنوح والعنف، وتدنّي ظروف العمل التربويّ وشروطه.
تعليق:
يلاحظ المتتبّعُ لتاريخ المدرسة التونسيّة، خلال العقود الأربعة المنصرمة، مماثلة التشخيص الحاليّ، في خطوطه الكبرى ومسائله، للتقييمات التي أنجزت سابقا، على الرّغم من تغيّر بعض المصطلحات والمفاهيم المستخدمة: فتقييم المنظومة المترتّبة على قانون التعليم لسنة 1958 المنجَز سنة 1967 من قبل اللجنة القوميّة للتعليم، وتقارير اللجان القارّة للتعليم التي أرساها سنة 1970 الوزير الشاذلي العيّاري، ونتائج الاستشارة الوطنيّة حول المنظومة التربويّة لسنة 1988، والتقرير التقييميّ الأخير الذي أنجزته لجنة فنّيّة وبرلمانيّة سنة 2010، بتكليف من الوزير الأستاذ حاتم بن سالم... كلّ هذه التقييمات تنتهي إلى سرد الاختلالات ذاتها، مع اختلاف طفيف، ما يعني أنّها ذات طابَع هيكليّ وشديدة المقاومة. لكنّها كلّها فشلت في معالجة هذه الظواهر، لا أدلّ على ذلك من تواترها وديمومتها.[10] فهل العيب في الإجراءات ذاتها أم في تطبيقها أم في متابعة تنفيذها؟
§     سياقات الإصلاح
يلحّ التقرير على ضرورة تنزيل إصلاح المنظومة التربويّة التّونسيّة ضمن السّياق العالميّ الذي تميّزه العولمة والثورة التكنولوجيّة، والتنافسيّة، والقدرة على التلاؤم بسرعة، والمعايير الدوليّة، ومختلف البرامج التربويّة العالميّة كالبرنامج العربيّ لجودة التعليم، والحركة العالميّة للتربية للجميع، والتربية للجميع، والتعليم أوّلا...
وفي الآن نفسه، يسند الكتاب الأبيض إلى السياق الوطنّيّ كلّ الأهمّية التي يستحقّ: فثمّة إرث تربويّ جاء نتيجة تعدّد الإصلاحات التي نادى بها المناضلون التربويّون، منذ القرن التاسع عشر وبخاصّة بعد الاستقلال، وتراكم منجزاتها، وثمّة مكانة مرموقة للمدرسة التونسيّة في المجتمع وفي البحوث المنشورة، منذ مدّة، وثمّة مكتسبات نوعيّة يمكن الأخذ بها والبناء عليها.
تعليق:
إنّ ربط النظام التربويّ الوطنيّ بالسياقات العالميّة وبالنظم التعليميّة المشهود بنجاعة أدائها يظلّ هدفا بعيد المدى، ولعلّه يكفينا اليوم أن نستأنس بالمعايير الدوليّة المعتمدة في بناء البرامج والتعليم والتقييم، على أنّ نتدرّج بالمنظومة شيئا فشيئا نحو متطلّبات السياق العالميّ، والأهمّ أنْ لا تكون منظومتنا منعزلة، متقوقعة على ذاتها، ويتسنّى ذلك بالإسهام في التقييمات المقارنة وحفز البحث التربويّ ومداومة الاطلاع على ما يدور في مختلف أصقاع العالم من تجارب.
وتكمن أهمّية هذا الجزء من التقرير، كذلك، في تثمينه للإرث العظيم للمدرسة التونسيّة، مناقضا بذلك المواقف الشعبويّة التي تكاثرت وانتشرت منذ سنوات والتي ما فتئت تتكلّم على تصحّر مدرسيّ وتتابع للسياسات التعليميّة الفاشلة. ثمّة صحوة ضمير واعتراف بما أنجزه الروّاد في قطاع التربية منذ القرن التاسع عشر. كما يعرض التقرير رؤية تعترف بمنجزات النظام التربويّ التي يمكن رسْملتها في ضوء قراءة نقديّة للإصلاحات المتعاقبة.

§     الخيارات المنهجيّة
خصّص هذا الجزء من التقرير لشرح المنهجية المعتمدة من قبل القائمين على الإصلاح التربويّ وتبريرها، فهي في نظرهم منهجية تشاركيّة تروم أن يصير العدد الأكبر من الأطراف والأشخاص معنيّين بالشأن التربويّ، وذلك بإرساء حوار وطنيّ تشرف عليه وزارة التربية والاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل والمكتب العربي لحقوق الإنسان، وبتنظيم مئات اللقاءات بالتلامذة وأسلاك التعليم وهيئة التفقد البيداغوجيّ والإطارات الإداريّة للتسيير والإشراف.
تعليق:
 لهذه المنهجيّة مبدئيّا مزايا عديدة، لكنّ توخّيها أثار احترازا وولّد نقدا من قبل الأطراف التي شعرت بالإقصاء، أو لاحظت أنّها تعتبر غير معنيّة بهذا الشأن. هذا من وجه، ومن وجه آخر، يتجلّى من التقرير مبالغة من قبل القائمين على الإصلاح في رضاهم عن المنهجية المعتمدة، إذ نقرأ بالصفحة 36 ما يلي:" "فلأول مرّة في تاريخ الإصلاحات التربوية التي شهدتها المدرسة التونسية تتوخّى منهجية قاعدية تمّ بموجبها الإصغاء بعمق إلى كل الآراء والمقترحات والتقييمات على اختلافها وتنوّعها وتنافرها أحيانا". [11]
إنّ الملاحظات التي أبداها عدد من المشاركين في هذه اللقاءات والشهادات التي أدلى بعض المنشّطين تجعلنا نأخذ هذه المسألة بحذر واحتراس، وتجعلنا ننسّب من جودة المداخلات ومن نجاعة التمشّي.

§     مرجعيات الإصلاح
 يسرد التقرير في هذه الفقرة مراجعَ الإصلاح التربويّ المقبل بحسب أهمّتها: فالمرجع الرئيسيّ هو دستور البلاد التونسيّة الجديد التي اختصّ التربية والتعليم بفصول خمسة، تليه المعاهدات والتقارير الدوليّة والإقليميّة المتعلّقة بالتربية، بدءا بأقدمها الذي يعود تاريخُه إلى سنة 1948، أعني الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، إلى أحدثها الذي نشر سنة 2015 والمتعلّق بالتربية عند حلول سنة 2030. أمّا المرجع الثالث فهو جملة التقارير الرسميّة وغير الرسميّة والدراسات والبحوث المتعلّقة بالمدرسة التونسيّة.
ثالثا: الباب الثاني: التحدّيات والرهانات
لخّص الكتاب الأبيض مختلف مشكلات التربية بالبلاد التونسيّة في أربعة تحدّيات عظمى:
-    أوّلها ضمان الإنصاف وتكافؤ الفرص، أنّ ما يتحدّى الإصلاح الجديد إنّما هو التفاوت بين الأقاليم والمؤسّسات التعليميّة، من جهة، وبين الأفراد، من جهة أخرى، وهو تفاوت تغذّيه جملة من الاختلالات في مجالات:
ü    التعلّم والتأطير في مرحلة ما قبل الدراسة، والسّنة التحضيريّة بالخصوص حيث تبيّن الإحصاءات أنّ نسبة المتمدرسين بهذه بالأقسام تتراوح ما بين 44 و98 % بحسب الجهات،
ü    التكوين الأساسيّ للمدرّسين وانتدابهم وتكوينهم المستمرّ والتصرّف في مساراتهم المهنيّة،
ü    رعاية الأطفال من ذوي الحاجات الخصوصيّة في مجلات البنية التحتيّة والموارد البشريّة المختصّة والموارد التعليميّة،
ü    تدنّي ظروف العمل بجلّ المؤسّسات التربويّة،
ü    تراجع المردود المدرسيّ بالمدارس عموما والمدارس الرّيفيّة والتي بالمناطق المنعزلة،
ü    إقصاء شرائح من التلامذة جرّاء ارتفاع معاليم الدّروس الخصوصيّة ودروس المراجعة التي باتت شبه إلزاميّة وتكلّف العائلات التونسيّة مبالغ ماليّة مرتفعة.

تعليق: لوحظ هذا الإخلال منذ نهاية الستّينات، وقد أشارت إليه اللجنة القوميّة للتعليم سنة 1967، لكنَّ الإجراءات المعتمدة لمقاومته لم تأت بنتيجة، بل إنّ الوضع تفاقم ما جعل الأستاذ منجي بوسنينة يخصّص لأطروحته لفحص التباين المدرسيّ، ومعلوم أنّ هذه الظاهرة قائمة منذ عهد الحماية الفرنسيّة على الإيّالة التونسيّة: فالأقاليم الشرقيّة للبلاد أفضل نتائج مدرسيّا من سائر جهات البلاد. وليس إرساء التعليم الإعداديّ سوى حلّ من الحلول المقرّرة لهذه الظاهرة، وقد تمّ الاستعاضة عنه بالتعليم المهنيّ، دون جدوى.
 ونحسَب أنّ تواصل هذه الظاهرة اليوم، بل تفاقمها، يترجم بحقّ عن فشل كلّ الإجراءات والبرامج التي اعتمدت، في السّنوات الأخيرة، منها المدارس ذات الأولويّة التربويّة، وحصص الدّعم والعلاج، والمدوّنات البيداغوجيّة التي توفّر للمعلّمين أنماطا من التمارين للمراجعة والترسيخ، ومعدّات النسخ والطباعة، كما فشلت عمليّا الشعارات التي رفعت والقائلة: " مدرسة للجميع، لكلّ فيها حظّ".
إذا كان الأمر كذلك، فما الدّاعي إلى مواصلة اعتماد هذه البرامج، دون تحديد العوامل التي جعلتها لا تحقّق مقاصدها النبيلة وأهدافها المرسومة لها؟


-    والتحدّي الثاني يتمثّل في تجويد مكتسبات التلامذة ومخرجات التعلّم: وهو من التحدّيات التي شغلت القائمين على المدرسة التونسيّة، منذ الستّينات، وبالرّغم من إدراج هذا الهدف في مختلف الإصلاحات التربويّة المتلاحقة، بمراجعة البرامج واعتماد طرائق في التدريس مغايرة، فإنّ المؤشّرات تشير إلى تطوّر في الاتّجاه المعاكس، ما يعني أنّ الجودة لا تزال بعيدة المنال.
تعليق:
 تستدعي هذه الفقرة عددا من الملاحظات بما أنّها تطرح إقرارات تبدو لنا عجلى ودون سند، وإنّما هي بمثابة ما يرد على ألسنة العوامّ من أفكار، من قبيل:
-       تفسير فشل عدد كبير من الطلبة بتواضع مكتسباتهم، والسكوت على مسألة التوجيه الجامعيّ المفروض على الحاصلين على البكالوريا والذي لا يستجيب أحيانا لرغباتهم، ممّا لا يحفّز على الدراسة والتعلّم، ومسألة نوعية التأطير الجامعيّ ومضامين البرامج، ومدّة الدراسة للحصول على الشهادة المعنيّة،
-         تعليل بطالة حاملي الشهادات بنوعية الشهادة المسداة لا نظنّه وجيها، ويحسن البحث عن سبب ذلك في مجالات أخرى، فلعلّها في عجز الاقتصاد الوطنيّ الذي يشهد انحسارا وتراجعا عن توفير مواطن شغل بالعدد الكافي،
-         الاستناد إلى نتائج البكالوريا في السّنوات الأخيرة لاستخلاص برهان عن تراجع المستوى التحصيليّ لا يخلو من مخاطرة، ذلك أنّنا لا نملك المعطيات المفصّلة عن نتائج هذا الامتحان خلال الستينات والسبعينات، ما ييسّر الموازنة والخروج باستنتاجات في شأن تراجع مستوى التحصيل.

-     التحدّي الثالث، وليس أقلّها خطرا، يكمن في ضمان اندماج المدرسة في الاقتصاد والمجتمع، علما أنّ هذا الاندماج مفقود اليوم بحسب الكتاب الأبيض، لا أدلّ على ذلك من عدد العاطلين عن العمل من بين الحاصلين على شهائد، ما يعني أنّ التعليم لا يزال مركّزا على المعارف على حساب الكفايات والمهارات، وأنّ النظرة إلى التكوين المهنيّ ظلّت على حالها، ولم تتغيّر.
تعليق:
هذا التحدّي قديم قدم المدرسة التونسيّة: فمنذ إصلاح المشير أحمد باي، كان إحداث المدرسة الحربيّة خلال القرن التاسع عشر بباردو يتنزّل في توجّه يرمي إلى تزويد الإيالة بالإطارات التي تحتاجها البلاد وقتها. وعلى عهد الحماية، كان المسؤولون يرغبون في إقامة تعليم يكون في خدمة الاقتصاد الاستعماريّ ويوفّر العملة الفلاحيّين. وبعد الاستقلال، قامت البنية التعليميّة المحدثة آنذاك على التعليم الإعداديّ والتعليم الثانويّ القصير في نطاق الرؤية ذاتها. أمّا توخّي المقاربة بالكفايات فيهدف إلى تنمية الكفايات والمهارات التي تحتاجها الأنشطة الاقتصاديّة.

-         أمّا التحدّي الرابع فيتعلق بمسألة الحوكمة، ذلك أنّ الكتاب الأبيض يشير إلى نقص في حوكمة النظام التربويّ التونسيّ، بإبراز مظهريْن:
ü           أوّلهما يُعدّ من المفارقات، ويتجلّى في الارتفاع المشطّ للمصاريف لا يقابله تحسُّن في مردود النظام التربويّ،
ü      وثانيهما تنظيم يتجلّى في مركزية مفرطة وتهميش لدور الجهة.
وبحسب الكتاب الأبيض، على الإصلاح التربويّ أن يتصدّى لهذيْن المظهريْن، وذلك بالقيام بمراجعة لمنوال التصرّف الماليّ، وإرساء التصرّف التشاركيّ، والشفافيّة، وتطبيق قاعدة النفاذ إلى المعلومات، وفكرة المحاسبة والاستظهار بالنتائج، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، على الإصلاح التربويّ أن يعيد تنظيم الإدارة المركزيّة والإدارة الجهويّة تنظيما وظيفيّا.
تعليق:
هذا الجزء ينطلق من تشخيص وَجيه، لكنّه لا يقدّم سوى قسم من التفسير المندرج في فلسفة الكتاب الأبيض. ونحسَب أنّ انفجار المصاريف لا يُعزى إلى سوء التصرّف فحسب، حتّى وإن وُجد، وإنّما يعزى إلى عوامل موضوعيّة من قبيل الارتفاع المشطّ في الأسعار، واقتناء معدّات جديدة، والزيادة في الأجور التي تستغرق 93% من ميزانية وزارة التربية سنة 2016، كما أورد ذلك التقرير بالصّفحة 90.
ثمّ يختصر التقريرُ صلة المصاريف بمردود المدرسة، فهذه الصلة لا تخضع لقواعد التصرّف المطبّقة بمجال الاقتصاد حيث يمكن أن تترجم الزيادة في المصاريف بارتفاع في المردود على الأمديْن القصير والمتوسّط، بينما في قطاع التربية لا يمكن للمردود أن يكون إلاّ على المدى البعيد. وإذا استعملنا عبارات الكتاب الأبيض نفسه، كيف يجوز لنا أن نتكلّم على أولوية وطنيّة، وكيف يمكننا أن نحسّن من الوضع بتخصيص أقلّ من 3%   من الميزانية لتنمية المدرسة؟

رابعا: الباب الثالث: التوجّهات الاستراتيجيّة للإصلاح التربويّ
ينقسم هذا الباب إلى أجزاء ثلاثة، يقدّم أوّلها رؤية الإصلاح والمبادئ العامّة، ويصف الثاني رسالة المدرسة، ويهتمّ الثالث بملامح الخرّيج.

1.الرؤية والمبادئ العامّة
-       ضبط الكتاب الأبيض ثمانية مبادئ عامّة:
-       فالتربية أولوية وطنيّة تتكفّل بها الدولة،
-       والتعليم العموميّ مجانيّ بما في ذلك التعليم قبل المدرسيّ،
-       والإجبارية تمتدّ إلى سنّ السادسة عشرة،
-       تعليم ذو جودة عالية موحّد يراعي الفوارق الفرديّة،
-       التربية في خدمة التنمية المستدامة،
-       مدرسة تحترم كرامة التلميذ،
-       حياد المدرسة.
2.رسالة المدرسة
حدّد الكتاب الأبيض للمدرسة اثنتي عشرة وظيفة عامّة يمكن تلخيصها يما يلي: فعلى المدرسة أن تحترم حقوق الطفل في شمولها، وأن توفّر الحظوظ نفسها لكافة المتعلّمين، وعليها أن تعدّ مُريديها للحياة والعمل،  وعليها أن تؤمّن نماءهم الكامل، كما عليها أن تضمن لهم تربية على حقوق الإنسان وعلى قيم المواطنة، وأن تفرّد التعلّم بحسب الحاجات والخصوصيات الفرديّة، وتنمّي الشعور بالانتماء والعيش الجماعيّ في المحيط المدرسيّ، وتسدي خدمات مساندة، كالنقل والإطعام، وأن تنفتح على محيطها، وأن تكوّن الموارد البشريّة المؤهّلة  والكُفأة.
فللإصلاح التربويّ الجديد تصوُّر تحديثيّ للمدرسة التونسيّة، وهي مدرسة بفضاء جيد وموارد بشريّة متجدّدة ومضامين وطرائق بيداغوجيّة ونمط تصرّف مُبتكرة، بغاية تأمين تعليم ذي جودة عالية يراعي الحاجات والخصوصيات الفرديّة. ويرى الكتاب الأبيض أنّه بالإمكان تحقيق هذه الرؤية لو توفّرت شروط خمسة ألا وهي:
-       توفر إطار بشريّ على مستوى عال من المهنيّة
-       تركيز الفعل التربويّ على التنمية الشاملة لشخصية الإنسان
-       جعل ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان قاسما مشتركا
-       إرساء مناخ مدرسيّ سليم ونقيّ
-       تطوير الحياة المدرسية باعتبارها تتمّة للتعليم وأساس التنشئة الاجتماعيّة.
3. ملامح المتخرّج
يتنظر الكتابُ الأبيض من المدرسة التونسيّة الجديدة التي أقام تصوّرها أن تخرّج مُواطنا:
-       متجذرا في هويته العربيّة الإسلاميّة ومنفتحا علة القيم الكونيّة،
-       مواطنا حرّا متشبّعا بالمبادئ والقيم الواردة بالدستور،
-       ذاتا مبادرة وفاعلة ومبدعة،
-       ذا شخصية متوازنة في أبعادها المعرفيّة والوجدانيّة والقيميّة
-       متملّكا لكفايات القرن الحادي والعشرين والمهارات الحياتيّة: التعلم الذاتي-الكفايات الاجتماعيّة، كفايات التواصل -الكفايات المهنيّة،
-       قادرا على التواصل الإيجابيّ مع محيطه.

تعليق:
 إذا استثنينا مسألةَ إجباريّة السنة التحضيريّة ومجانتيها ومسألةَ حياد المدرسة اللتين تعدّان من الإضافات المهمّة، فإنّ مضمون هذا القسم موافق لما ورد في قانون 2002 والأدبيات المتعلّقة به، مع تغيير في الصياغة وترتيب مكوّنات الملمح الذي يؤمل أن يمتلك المتخرّج خصاله. ومع ذلك، نلاحظ بكلّ لطف أنّ التجذّر لا يكون إلاّ في العصر وأنّ الهوية المتحوّلة باستمرار تكون محلّ اعتزاز وفخار. لقد صاغ برنامج البرامج لسنة 2002 الملامح في صيغة كفايات عامّة، وكان بالإمكان مواصلة اعتماد هذا التمشّي لأنّه متناغم مع المقاربة المعتمدة.
ومن جهة أخرى، فإنّ الكتاب الأبيض يقترح بناء يقترح بناء فضاءات جديدة للمدرسة التي ستنشّئ الأنسان الكامل، عوض المباني الحاليّة، والاستعاضة عن الموارد البشريّة الحالية بفرق عمل جديدة ومحترفة، وتغيير الطرائق البيداغوجيّة والوسائل المعينة.  فهل هذا ممكن في ضوء الضائقة الماليّة التي تعرفها البلاد؟ لكنّه لا ينبغي أنْ لا نحلم.

خامسا: الباب الرابع: برامج الإصلاح ومشاريعه
خصص هذا الباب قبل الاخير إلى استعراض برامج الاصلاح ومشاريعه، وهي ترجمةُ التصوّرات والرّؤى المضمَّنة بالأبواب السّابقة إلى خُطَط عمل ذات برامج تنفيذيّة، جاءت على صلة وثيقة بما أُدرج بالمخطّط الاستراتيجيّ التربويّ للفترة الممتدّة من 2016 إلى 2020.[12]
ومن ناحية العرْض، جاء جلُّ هذا الباب في شكل لوحات وجداول، تتضمّن التنصيصَ على أهداف استراتيجيّة  تتفرعَ إلى أهداف عامّة، ثمّ إلى أهداف خصوصيّة، وأُتبعت كلُّ لوحة بالإجراءات المتعلّقة بكلّ هدف خصوصيّ، وبالإشارة إلى سنة إنجازها.
رأينا أن نبْني جدولا نضمّنه قائمة الأهداف الاستراتيجية  وإحصاء للأهداف العامة و الخصوصية  والإجراءات الخاصّة بكلّ هدف استراتيجيّ من الأهداف التّسعة المقرّرة للإصلاح المقبل.
1.   لوحة في الأهداف الاستراتيجيّة

الأهداف الاستراتيجيّة
الأهداف العامّة
الأهداف الخصوصيّة
الإجراءات
1.تحقيق مبدإ الإنصاف وتكافؤ الفرص
3
14
38
1.         مراجعة الخارطة المدرسيّة
2
6
18
2.     تطوير كفايات الموارد البشريّة
2
9
28
4.تطوير مكتسبات التلامذة وتجويد تعلماتهم
3
17
54
5.تطوير الحياة المدرسيّة
4
12
34
6.إعادة هيكلة التعليم الإعداديّ والثانويّ
2
7
18
7. التصدّي للفشل المدرسيّ والانقطاع عن الدراسة
3
6
29
8. تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتّصال في التعليم والتعلّم
2
9
56
9. الحوكمة
4
20
88
الجملة
25
100
363

إن قراءة الجدول تساعدنا على إدراك ملامح  الإصلاح المُقبل  من ذلك أنّ:
ü    قائمة الأهداف الاستراتيجيّة تكشف عن المسائل والقضايا التي ستكون محاور الإصلاح التربويّ الجديد: فبعضُها يتعلّق بالمبادئ، كالأهداف المتّصلة بالإنصاف، بما في ذلك تكافؤ الفرص ومقاومة الفشل الدّراسيّ، وجودة التعلّم، والحوكمة، وبعضُها فنّيّ منهجيّ، كالأهداف المتعلّقة بالخارطة المدرسيّة، وتأهيل الموارد البشريّة، والتكنولوجيات الجديدة، وبعضها تنظيميّ، كالحياة المدرسيّة وهيكلة التعليم
ü    وأنّ محاور الحوكمة، والحياة المدرسيّة، والإنصاف تتبَوّأ ثلاثتُها طليعةَ القضايا التي يعتزم الإصلاح التربويّ معالجتها من خلال عدد الأهداف العامّة المخصصة لها.
ü    وأن ّ 3 قضايا  وهي الحوكمة، وتطوير مكتسبات التلامذة وتجويد تعلّماتهم، وتحقيق مبدإ الإنصاف، تستقطب النصيب الأوفر من الأهداف الخصوصية  وعددها على التوالي 20 و17 و14، و هي تبدو من خلال ذلك  من أبرز المسائل التي سيُعنى بها الإصلاح التربويّ المقبل.
ولو قاطعْنا بين المعطيات السّالفة في الذكر لَتبيّن لنا أنّ الحوكمة والإنصاف وتطوير الحياة المدرسيّة وتطوير مكتسبات التلاميذ تمثّل المسائل الأربعَ الرئيسيّة في الإصلاح التربويّ المقبل، طبعا من زاوية النّظر الإحصائيّة. ونحْسَب أنّها من أمّهات القضايا المطروحة على المدرسة التونسيّة اليوم. ويمكن اعتبارُها من أولويات الإصلاح.

تعليق :
إنّ سعى الكتاب الابيض إلى الاستيفاء والشّمول من خلال  الأهداف الاستراتيجيّة المختارة للإصلاح التربويّ ، و معالجة  كل المسائل التربويّة والبيداغوجيّة والتنظيميّة والإداريّة والماليّة في الإصلاح المزمع إنجازهُ. هو أمر جيد نظريا و  يبدو لنا  أنّ هذا التوجّه سيجعل القائمين على تنفيذ الإصلاح في خصام وتسابق مع الزّمن، خاصّة وأنّ السّنة الأولى من المخطّط الخماسيّ على وشك الانتهاء.

2.   الإجراءات الكفيلة بتحقيق أهداف الإصلاح التربويّ
ضَبط الكتاب الابيض 363 إجراء لتحقيق الأهداف المرسومة للإصلاح التربويّ المقبل و تستقطب قضايا الحوْكمة، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصال، ومكتسبات التلاميذ وجودة تعلّماتهم، النصيب الأكبر منها ( 88 و56 و54 إجراءً على التوالي) ، إن استعراض قائمة الاجراءات تُمكننا من  بعض الاستنتاجات التالية:
‌أ.      هناك إجراءات جديدة غاية في الأهمّية  تهم المتعلمين مثل:
§     إقرار إلزاميّة السّنة التحضيريّة ومجانتيها:  و قد أُرفق بعدّة إجراءات منها إعداد برنامج موحّد ونظام متابعة ووسائل تعليميّة مناسبة. و جاء هذا القرار درءا للتفاوت عند منطلق الدراسة، وللنتائج التي أظهرت مختلف البحوث، وخاصّة ما يهمّ منها الفشل الدراسيّ المبكّر. فالسنة التحضيريّة حصن للأطفال تجاه الانقطاع وضعف المكتسبات.
§      تطوير نظام التقييم الخاصّ بالتلاميذ و ذلك من خلال :
ü    إقرار إلزاميّة امتحان نهاية السّنة التاسعة: ( استعمل مصطلح امتحان السّنة التاسعة طورا وامتحان ختم التعليم الأساسيّ طورا آخر، ص 133) ، وهو محطّة تقييميّة إجباريّة، وامتحان وطنيّ إلزاميّ، على كافة التلامذة اجتياز اختباراته.
ü    إرساء تقييمات وطنيّة غير إشهاديّة: إجراء تقييم في نهاية السّنة الرابعة وفي نهاية السّنة الثامنة من التعليم الأساسيّ، و تنظيم تقييمات وطنيّة وفق المعايير الدولية في التكنولوجيا وفي التعلّمات الاستراتيجيّة
ü    منظومة جديدة لتقييم التلامذة: تعتزم الوزارة بناء نظام تقييميّ جديد في مجال التعلّم، ص 133، وذلك بإقرار تقييم تشخيصيّ في بداية كلّ سنة وتطوير التقييم البنائيّ والتكوينيّ في ممارسات المدرّسين التعليميّة وتنويع آليات التقييم الجزائيّ. وبهذا يكون التوازن بين مختلف أبعاد التقييم التشخيصيّة والتكوينيّة التعديليّة والجزائيّة الإشهاديّة.  

تعليق
ü    إن عودة المحطة  التقييمية الاشهادية   و التوجيهية  في نهاية التعليم الأساسي يُعدّ إجراء وجيها، لحاجة المنظومة التعليميّة إلى مثل هذا الامتحان.
ü    وفي خصوص إرساء تقييمات وطنيّة غير إشهاديّة يعتبر هذا الإجراء تفعيلا ومأسسة لما تضمّنه الفصل 60 من القانون التوجيهيّ الحالي، و لكن  صحيح إنّ كثيرا من البدان تجري تقييما غير إشهاديّ في مستوى الرابعة من التعليم الإلزاميّ، أي في محطّة تعليميّة تتوسّط مرحلة التعليم الأساسيّ، وصحيح أيضا أنّ عددا من البلاد المتقدّمة تنظّم تقييما غير إشهاديّ في مستوى السنة الثامنة، لكنّها لا تنظّم تقييما جزائيّا في التاسعة. وإذ ننظّم امتحانا إلزاميّا إشهاديّا في نهاية السنة التاسعة، فقد يكون من المفيد النزول بالتقييم الوطنيّ من الثامنة إلى السّابعة، أو حتّى السادسة في صورة التخلّي عن محطة تقييميّة إلزاميّة بهذا المستوى.

‌ب.  إجراءات جديدة  غاية في الأهمّية  تهم المؤسسة وإطار الاشراف و  المدرسين  مثل:
§       إعداد مرجعيّة وطنيّة لبناء الأنظمة الدّاخلية للمؤّسّسات التربويّة،
§       و مراجعة النظام التأديبيّ المدرسيّ،
§       وضع خطّة شاملة لتطوير المدرسة الرقميّة
§       وضع مرجعية مهنيّة لمديري المؤسّسات التربويّة ووضع برنامج تكوين لفائدتهم والذي يرتبط بإحداث معاهد مهن التربية والتكوين
§       بعث منظومة تكوين تمهينيّ قبل الخدمة لكافة المدرّسين و اعتماد مبدإ الترقية عبر التكوين، والاستناد إلى الأعمال البحثيّة في ترقية الموظّفين، مهما كانت أسلاكُهم.

تعليق
يبدو أنّ الكتاب الابيض قد اعتمد المنهج نفسَه القائمَ على الاستيفاء والحريصَ على الشّمول الذي كان توخَّاه عند ضبط لائحة الأهداف الاستراتيجيّة. وترتّب على هذا الاختيار اقرار إجراءات كانت تضمّنتها الخططُ التنفيذيّة السّابقة، كالخطّة التنفيذيّة لمدرسة الغد لسنة 2002، أو تفعيل إجراءات أقرّتها الوثائق المرجعية السّابقة كالقانون التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ لسنة 2002 والأمر المنظّم للحياة المدرسيّة لسنة 2004 وغيرهما من الوثائق و المتعلقة بالأنظمة الداخلية للمؤسسات او بالنظام التأديبيّ المدرسيّ، أو بالمدرسة الرقميّة أو أيضا ما يتعلق بمرجعية مهنيّة لمديري المؤسّسات التربويّة و تكوينهم قبل المباشرة مدة سنتين و لكن تعطلت جميعها لسبب من الأسباب  ،نتمنى أن يتوفق الاصلاح المقبل في تحقيق هذه النقلة النوعية التي سيكون لها الأثر الايجابي على المناخ المدرسي و على أداء المنظومة,

سادسا: الباب الخامس: الكلفة التقديرية لإصلاح المنظومة التربوية
خصص الباب الأخير من الكتاب لتقديم لوحة للكلفة التقديرية للمشروع الإصلاحيّ.  و من خلال قراءة اللوحة نخلص إلى استنتاجين مهمّين :
الأوّل هو أنّ بابيْن فقط سيستحوذان على النصيب الأوفر من الميزانية هما التجهيزات الإعلامية (23 .14 % ) و هيكلة التعليم الإعدادي و التعليم الثانويّ(15.83 % ) .
الثاني هو العجز الكبير المرتقب و عدم قدرة موارد الدولة على الاستجابة لاحتياجات الإصلاح المرجوّ، و يقترح الكتاب الأبيض " الانفتاح على الشراكة مع القطاع الخاصّ و الجمعيات  والمنظّمات الوطنيّة" لتعبئة الموارد المالية الضّروريّة .
خاتمة : ملاحظات و توصيات و تساؤلات
تلك هي الأبواب الكبرى لوثيقة الكتاب الأبيض لإصلاح المنظومة التعليميّة التونسيّة، و نريد إتباع هذا التقديم ببعض الملاحظات  و التوصيات و تساؤلات:
الملاحظات
§       يشكو الكتاب الأبيض  ضربا من التكرار والاستطراد أطال الوثيقة شيئا مّا، وكان يمكن أن تكون أوجز، ولعلّ تشعّب المسائل وتداخلها قد أفضى إلى ذلك.
§        تجنَّب الكتاب الأبيض تناول بعض المسائل المهمّة  ولعلّ مردّ ذلك أيضا ما لمسناه من رغبة في إرضاء الجميع، بالسّكوت على مسائل كانت موضوع جدل وخلاف.
§    بعض الاستخلاصات  كان يحسن تجنّبها أو التثبّت منها إذ اكتفت بنقل ما يتداولة السياسيون و وسائل الإعلام و التي لا ترتقي إلى مستوى التحليل العلميّ.  

إلى جانب هذه الملاحظات العامّة  لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقص الذي شاب عددا من الرسوم مثل الرسم ص 16 المتعلق  بتوزّع العاطلين حسب المستوى التعليميّ، فالبيانات  غير دقيقة  (% 41  و ليس % 4,1  على ما نعتقد ) ثم إنّ المجموع يتجاوز  % 100  و كذلك الشأن بالرسم ص 60  المتعلق بنسبة التلاميذ الجدد الذين تلقوا سنة تحضيرية،  و أخيرا بالنسبة للرسمين بالصفحتين   84  و 85  كان من الافضل اعتماد الاتّجاه العالميّ للمحاور من اليسار إلى اليمين، و ليس العكس.
§       و آخر ملاحظة تتعلق بالسّهو عن ادراج لوحة قائمة الرسوم و الجداول .
إنّ هذه الملاحظات التي حرصنا على عرضها لا تنقص من قيمة التحاليل الواردة بالكتاب ووجاهتها.
التوصيات :
نقترح على المشرفين على الكتاب الأبيض و على الوزارة :
§   إصدار نسخة باللغة الفرنسية و أخرى بالانقليزية  و نسخة موجزة توجَّه للعموم .
§  تنظيم لقاءات  للتعريف  بالكتاب و للتحاور في محتوياته
§  دعوة الجمعيات ذات العلاقة لتقديم آرائها حول ما تضمّنه الكتاب
§   و أخيرا نأمل - للتاريخ و للذاكرة التربوية- أن يدرج في الكتاب، و في كل وثيقة من هذا الصنف، أسماء الشخصيات التي ساهمت فيه  حتى نتجنّب أخطاء الماضي التي ساهمت في هضم الحقوق المعنويّة لعدد كبير من مناضلي التربية، حين لا يذكر التاريخ سوى اسم الوزير.
التساؤلات 
وإذْ لم يرد في هذا الكتاب الأبيض ما يشير إلى نيّة سنّ قانون جديد للتعليم، ما يعني أنّه سيواصل العمل بالقانون التوجيهيّ لسنوات أخرى. وإذ نعلم أنّ هذا القانون أقرّ عددا من المبادئ لم تكن من مشمولات هذا الكتاب، أو لم تتح الفرصة لإثارتها وتقييمها. لذلك، ولتعميم الفائدة والمزيد في بلورة الاختيارات التي سيقوم عليها الإصلاح التربويّ المقبل، نطرح بكلّ لطف على أصحاب القرار التساؤلات التالية:
-  هل سيظلّ التلميذ محور العمليّة التربويّة كما في الفصل 2؟
-  هل ستظلّ البنية التعليميّة قائمة على مرحلة التعليم الأساسيّ ومرحلة التعليم الثانويّ؟
-  هل سيظلّ "برنامج البرامج" لسنة 2002 والبابُ السادس من القانون التوجيهيّ الخاصّ "بمرجعية التعلّمات" المرجعيْن الأساسيَّين لبناء البرامج التعليميّة وما يتعلّق بها من نظام تقييم، أم هل ستعتمد مقاربات أخرى، وعلى أساس ماذا؟

تونس في 27 ماي 2016

مقالات سابقة ذات علاقة

ملامح الإصلاح التربويّ الجديد

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/03/blog-post.html

المخطّط الاستراتيجيّ القطاعيّ التربويّ 2016- 2020




 ملاحق 










[1] . للكتاب الأبيض تعريفات عديدة باختلاف المجال الذي ينطبق عليه. وفي معناه العامّ، يعني وثيقة تتضمّن كمّا من البيانات الموضوعيّة والرّاهنة عن مسألة مّا، تساعد الأفراد على تحديد اختيارهم، وتدفع الهيئات والجماعات إلى اتّخاذ قرارات سياسيّة، أو سنّ سياسات توافقيّة في سياق خصوصيّ. هذه العبارة ذات الجذور البريطانيّة/ WHITE PAPER دخلت مجال السياسة منذ 1939، وصارت الوزارات والهيئات والحكومات تستعمل الكتاب الأبيض لعرض سياستنا والتعريف بإنجازاتها. أمّا الكتاب الأخضر فهو وثيقة في صيغة تقرير رسميّ يتضمّن مقترحات تُعرض للمناقشة، بغاية بلورة سياسة في مجال مّا،
[2] . انظر خطابه في افتتاح أشغال المجلس الأعلى للتربية في 26 جويلية 1970. انظر كذلك كلمة وزير التربية والتعليم العالي والبحث العلميّ، سنة 1988، بمناسبة بداية التفكير في سنّ قانون توجيهيّ للتعليم تعويضا لقانون 1958.
[3] . انظر على سبيل المثال التقارير التي أعدّها سنة 2009 المتفقد العامّ للتربية الأستاذ الهادي بوحوش بصفته مكلّفا بمأمورية بديوان وزير التربية، الأستاذ حاتم بن سالم، والممهّدة لتقييم المدرسة الابتدائيّة:
· صورة المدرسة الابتدائيّة في عيون الإحصاء المدرسيّ: بيانات عن مختلف جوانب المدرسة الابتدائيّة، تلاميذ وفصول دراسيّة وتجهيزات ومعدّات...ديسمبر 2009
·  التقييم بالمرحلة الابتدائيّة من التعليم الأساسيّ 2009
·  الموارد البشريّة بالمدرسة الابتدائيّة: المعلّمون، المديرون، المتفقدون. فيفري 2010
·  الحياة المدرسيّة بالمرحلة الابتدائيّة.2010
انظر فيما يهمّ تقييم التعليم الأساسيّ التقرير العامّ للجنة تحسين جودة التعليم الأساسيّ، 2010 ومدوّنة محاضر الجلسات المتعلّقة به.
[4] . التقرير التأليفيّ للحوار الوطنيّ حول إصلاح المنظومة التربويّة (حوار الجهات)، سبتمبر 2015.
  تقرير الاجتماع الأوّل للجنة القطاعيّة لإعداد المخطّط الاستراتيجيّ التربويّ للفترة 2016 / 2020، أكتوبر 2015.
  تشخيص واقع المنظومة التربويّة: الجزء الأوّل من المخطّط الاستراتيجيّ 2016 /2020    أكتوبر 2015.
[5] . انظر ص 112 من الكتاب الأبيض.
[6] . انظر التقديم ص 12.
[7]  لقد فجئنا  ما صرح به كاتب العام لنقابة التعليم الثانوي في الندوة الصحفية التي عقدها يوم الجمعة 27 ماي 2016 حين قال  " ان ما صدر في الكتاب الابيض الذي أعدته وزارة التربية جاء خارج سياق المنظومة الاصلاحية المتوافق عليها"
[8] . وجاء في التقديم، ص10، " عرض مشروع إصلاح المنظومة التربويّة على عموم التونسيين والتونسيّات...قصد الحصول على توافق أوسع حول قرارات هامّة بشأن السياسة التربويّة للمرحلة المقبلة.
[9] . لاحظنا تطوّرا مهمّا في موقف أصحاب القرار، ومنهم الوزراء، من الإصلاحات التربويّة السّابقة لهم، فلم تعدْ الإصلاحات الجديدة في قطيعة وعراك مع سابقتها، وإنّما ثمّة إقرار بمبدإ المُراكمة والرَّسْملة، ونحن نثمّن هذا الموقف ونحيّي هذا التطوّر.
[10] . فظاهرة الفشل المدرسيّ عموما بما في ذلك الرسوب والانقطاع والتسرّب صاحبت المنظومة التعليميّة ونبّه إليها تقييم 1967، لكنّ الحلول التي اعتمدت لمجابهتها فشلت جميعها: فلا إحداث السنتين السابعة والثامنة ما بعد الابتدائيّ سنة 1977 ولا برنامج التدريب على العمل اليدويّ، ولا إرساء التعليم الأساسيّ ومراجعة برامجه، ولا اعتماد المقاربة بالكفايات ومنظومتها التقييميّة بما فيها من علاج ودعم، ولا برنامج المدارس ذات الأولويّة التربويّة نجحت في الحدّ منها.
[11] . قال الأستاذ أحمد بن صالح وزير التربية في خطاب بتاريخ 22 جويلية 1968: "إنّ هذا النظر ليتطلّب جهدا جماعيّا متّسعا وعميقا، وسنحرص على ان تتمّ هذه الإعادة في نطاق استشاريّ قوميّ عامّ تستفتى فيه كلّ الإطارات المسؤولة في البلاد". انظر في شؤون التربية والتعليم، جويلية أوت 1968، نشر وطبع كتابة الدولة للشؤون الثقافية والإخبار، بلا تاريخ ص 48.
[12] . نلحظ تطابقا بين برامج المخطط الخماسيّ للتربية وبرامج الإصلاح التربويّ ومشاريعه. لكنّه ليس من الضروريّ أن يتطابقا، فللمخطّط أن يفيض عن الإصلاح وللإصلاح أن يتجاوز المخطط زمنيّا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire