تصدير
نفتح المدوّنة البيداغوجيّة هذا الأسبوع للزّميل الفاضل
إبراهيم بن صالح متفقد عامّ للتربية حتى نُبلغ صيحة فزع صادرة عن رجل عرف المدرسة
التونسيّة أستاذا فمتفقدا ومفكّرا في الشأن التربويّ. ويرى اليوم هذا المكسب
الكبير وهذا الصّرح يتهدّدهما الانهيار. فهل من هَبّة لإنقاذ المدرسة العموميّة التونسيّة؟
نشكر الزميل إبراهيم على هذه المساهمة الجديدة في المدوّنة
البيداغوجية، ونأمل أن يواصل تعاونَه معنا وأن ينسج آخرون على منواله.
مع الأسف الشّديد، يبدو أنّ الأمر يسير في هذه الوجهة. فما
تمّ بناؤه منذ مدرسة التأسيس مع أحمد باشا باي وخير الدين التونسيّ ومحمود المسعدي
ومحمد الشرفي، يشرف اليوم على الانتهاء والاندحار نحو أسفل الدّركات.
بدأت المدرسة تشرف على موت مبرمج، وهذا تسطير لواقع صار
يقرّه التلاميذ والمدرّسون والأولياء. فالمستوى يتدنّى بنسق سريع، والفشل يتفاقم تفاقما
يشي بأنّ هناك مشروعا تقف وراءه قوى تتجاوز الدّول الوطنيّة. هذا الفشل المبرمج هو
نجاح عند البعض الآخرين.
أفلا يحقّ لنا أن نحنّ إلى عهود ماضية؟ هاهي الحداثة
حلّت بنا وحرمتنا من أن يكون لماضينا مستقبلٌ. ألا تكون الحداثة بهذا المعنى عودة
إلى الظلاميّة؟ لقد اصطنعت الحداثة لنفسها بيداغوجيا جديدة، وهذه البيداغوجيا هي
الموت المبرمج للمعرفة، لأنّ هدفها هو تخريج البلهاء.
إنّ إفلاس التعليم لم يعد سرّا لا يعرفه إلاّ البعضُ،
فالجميع صار على بيّنة من الفراغ الذي يعاني منه التعليم والضعف الفكريّ والفقر
الثقافيّ والعجز عن التفكير الذي يعاني منه التلاميذ. والجميع يعرف حساسية
التلاميذ إزاء أنشطة الفكر والأمّيّة التي سقطوا فيها. أمّا الأولياء فصاروا
مشدوهين من ضعف أبنائهم الفادح. فهم عاجزون عن القراءة والكتابة حتّى في المستويات
المتقدّمة من التعليم، بل صار الأولياء يعرفون السآمة التي تصيب أبناءهم لطول
الدروس ويعرفون عجز أبنائهم عن التواصل باللغة مشافهة وكتابة، فهم لا يستطيعون
المشاركة في نقاش بشكل مسترسل ولا يقدرون على الإجابة عن سؤال بشكل واضح ومقنع،
لأنّ أدمغتهم لا تفكّر إلا في دراجاتهم الناريّة واللقاءات في المقاهي.
إنّ وراء هذا الفقر الفكريّ وقلة المبالاة وكثرة الإهمال
مشروعا بلا شكّ. وقولنا بوجود المشروع لا يعني أنّنا نقول بوجود مؤامرة، فلا أحد
يذهب هذا المذهب بحيث يظنّ أنّ هناك من يبرمج لموت المدرسة، لكن هناك التخلي عن
مدرسة من أجل أخرى، هي مدرسة النظام الرأسماليّ الجديد.
والحقّ أن هناك مشروعيْن للإطاحة بالمدرسة الوطنيّة:
أوّلهما: اجتياح المدرسة من قبل البيداغوجيّين الجدد
الذين صاروا يتكلمون بمنطق تعلّميّات الموادّ، الإجراء الذي عوّض فنّ التعلّم أي
التعلم الحقيقيّ (ولعل شيئا من هذا كان سببا في الخلاف بين الجامعيّين والمتفقدين
عند بناء البرامج مع الأستاذ محمد الشرفي). [2]
وثانيهما هو المشروع المنبثق من النيوليبراليّة التي
اشتقت من الصّدمتين البتروليتيْن[3] والثورة المعلوماتيّة. فالأمر صار يتعلق بتشكيل الفرد الذي يطلبه
الاقتصاد العصريّ، إنسان دون ماض ودون تاريخ ودون ضوابط، كائن صالح لكلّ شيء، مرن،
يتكيّف مع الأوضاع المستجدة ولا يحتجّ، كالأبله قابل للتشذيب والتهذيب، يعمل كثيرا
دون هوادة، يعي جيّدا ما يعانيه العاطلون عن العمل، لذلك يجب أن يعرف كيف يحسن الطاعة
والخنوع.
هذه هي المدرسة الجديدة المشبوحة بقوّتين: قوّة المثاليّين
والطوباويّين من البيداغوجيّين، وقوّة الانتهازيّين من الرأسماليّين الجدد. فكيف
يكون خروجها من هذا المأزق ؟
النظام الرأسماليّ الجديد يزمع إنتاج ما هو محتاج إليه:
يد عاملة رخيصة موضوعة في سياق منافسة مع العاطلين عن العمل، مع سعي دائب إلى
الارتقاء بجودة أداء هذه اليد العاملة.
لكن، إذا كانت المدرسة تقتبل جموع المتعلمين دون فرز، أ
فليست تكرّس قلة الجودة دون أن تدرك هذا التناقض؟ وإذا كان المجتمع محتاجا اليوم
واليوم بالذات إلى آلاف المختصّين في الإعلاميّة، فهل سيحتاج إلى الآلاف منهم
دائما بعد بضع سنوات؟ ولأيّ شيء ستصلح الأستاذية في الإعلاميّة بعد بضع سنوات؟ ها
هي وزارة التربية اليوم تنتدب أصحاب هذه الأستاذية لتعليم اللغات في التعليم
الابتدائيّ. أ فليس هذا هو تعليم الجهل ونشر البلاهة والغباء؟ لذلك صرت ترى اليوم
رأي العين صاحب بكالوريا " قديمة " أحسن مستوى علميّا ولغويّا من حامل
أيّة أستاذية. ومع هذا الذي نلاحظه من ضعف، ترى التلاميذ يحتفلون بنجاحهم في
امتحان البكالوريا في نهاية كلّ سنة، ولا شكّ أن احتفال الكثير منهم يكون مضاعفا
لأنّهم لم يبذلوا جهدا كبيرا لتحقيقه بسبب من 25 في المائة وشروط الإسعاف الميسورة
وشبكات التقويم " الموضوعيّة ".
النيوليبراليّة تنشر الفقر والبؤس، ولا يضيرها أن تنشر
الجهل بطريقتها المخصوصة وأن تسند الشهادات لهذا الجهل الذي تنشره، فيتخرّج أناس
متوتّرون شاعرون بالحرمان والقهر، لأنّهم يحملون شهادة بكالوريا زائد 3 أو 4
وأحيانا 5 و6 ثمّ يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل أو يمارسون عملا لا يتلاءم
واختصاصهم أو يمارسون عملا لا يكاد يوفّر لهم المصروف اليوميّ، إذّاك يتضاعف
إحساسهم بالشكّ في المدرسة وبأنّها باعتهم وهما عاشوا عليه سنوات.
في ستينات القرن الماضي، كانت توجد بتونس مدارس ترشيح
المعلمين تُعدّ المدرّسين للتعليم الابتدائيّ بديبلوم الترشيح، وهو شهادة تضاهي البكالوريا
في شعب أخرى كالآداب والعلوم، وكانوا يخرجون مسلّحين بتكوين متين يمكّنهم من تعليم
الأطفال تعليما أساسيّا متينا، واليوم ماذا نجد؟ نجد حاملي أستاذيات وقع إعدادهم
إعدادا سريعا بعشرين ساعة في قواعد كلّ لغة ليؤموا المدارس الابتدائيّة باعتبارهم
أساتذة تعليم أساسيّ. أ فليس مُعلم الأمس خيرا ألف مرّة من أستاذ الابتدائيّ اليوم؟
هؤلاء لا يحذقون لغة بعينها ولا علما محدّدا ممّا هو مدرج في برامج الأطفال الذين
سيتولوْن تكوينهم. فهل جعلت المدرسة لتكوين الناشئة على قواعد سليمة أم جعلت لحل
مشكل التشغيل؟
وما عساها تكون النتائج من هذه المدارس؟
أليست هذه المدارس مؤسّسات لتخريج البلهاء؟
إنّنا بهذه المدارس صرنا نعلّم الجهل. إنّنا نتقدّم نحو الجهل.
إنّنا نتقدّم نحو الخوصصة.
ابراهيم بن صالح ، متفقد عام للتربية
تونس ،أكتوبر 2014
ورقات سابقة للسيدابراهيم بن صالح
[1]
François Durpaire, Béatrice
Mabilon-Bonfils, La fin de l'école. L'ère du savoir-relation, PUF,274 p., ISBN
978-2-13-062527-8
François Durpaire est maître
de conférences en sciences de l'éducation et aussi consultant média très connu.
Béatrice Mabilon Bonfils, professeure de sociologie
Evidemment
ce n'est pas une idée nouvelle. On la trouve dans des ouvrages de
science-fiction et de façon plus sérieuse par Ivan Illich
http://www.cafepedagogique.net/lexpresso/Pages/2014/09/01092014Article635451530856817518.aspx
[2] محمد
الشرفي تولى حقيبة وزارة التربية و التعليم العالي من أفريل 1989 إلى ماي و 1994 و اقترن اسمه
بالاصلاح التربوي الثاني .
[3] الصدمتان البتروليتان جدتا تباعا في سنوات 1973 -74 و 1978-81 و تجسمتا في ارتفاع اسعار
النفط الخام .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire