يوم 4 أفريل، تمّر
سنة كاملة على رحيل المفكّر أبي القاسم محمّد كرّو. و تخليدا لذكراه أرادت المدوّنة
البيداغوجية أن تُقدّم لقرائها محاضرة ألقاها الفقيد سنة 1955 عن إصلاح التعليم بالبلاد
التونسيّة، و هي وثيقة بالغة الأهمّية، تؤرّخ للتربية في
بلادنا .
من
هو أبو
القاسم محمّد كرّو؟
وُلد أبو القاسم محمّد كرّو ) لقبه كرّو ينطق في قفصة بكسر
الكاف) بمدينة قفصة سنة 1924 وتوفي
بتونس في 4 أفريل 2015. درس بالجامع الأعظم وعُرف بمناهضته للاستعمار الفرنسيّ وبمساندته
للقضية الفلسطينيّة: فقد تطوّع للقتال بها سنة 1948، ولمّا مُنع من ذلك، دخل
العراق وتابع دراسته بدار المعلمين العالية ببغداد من 1948 إلى 1952. عمل أستاذا
بالتعليم الثانوي، كما شغل رئاسة دائرة الملتقيات بوزارة الثقافة من 1978 إلى
1992. مؤلّفاته عديدة نذكر من بينها :
الشابّي: حياته وشعره، الطاهر الحدّاد، ابن زيدون، كفاح الشابي، حصاد القلم،
دراسات عن تاريخ قفصة وأعلامها...
|
مدخل
نحن نعلم أنّ
الفترة التي سبقتْ الإصلاح التّربويّ الأوّل لسنة 1958 شهدتْ نقاشا مُوسَّعا عن
النّظام التّعليميّ المزمَع إرساؤُه بعد أن ارتقت البلادُ إلى الاستقلال. وقد
أسهمت مجلّة النّدوة ومجلّة الفكر[1] في هذا الجهد بتخصيص الأولى
عدد خاصّ، في نوفمبر 1954، للتّعليم والثقافة، وإفراد الثانية مسألة "
تعليمنا بين الأمس واليوم" بعددها الخاصّ لشهر نوفمبر 1956، وبرز، عبْر هذا
النقاش، أساتذةٌ منهم الأستاذ أحمد عبد السّلام والأستاذ أحمد الفاني الّلذان
شاركا مشاركة فعّالة في بلورة إصلاح 1958.
ونحن نعلم
أيضا أنّ الدّولة، ومنذ الأشهر الأولى من الاستقلال، وجّهتْ عناية خاصّة للتّعليم
بالمدارس القرآنيّة العصريّة فأمّمتْه،[2] وللتّعليم بالجامع الأعظم
وفروعه فنظّمتْه بإحداث الجامعة الزّيتونيّة وتسمية عميد لها، وباعتبار فروع
الجامع الأعظم معاهد ثانويّة للتّعليم الزّيتونيّ، وبإحداث شُعب جديدة وشهادات
جديدة، وبمراجعة رُوزنامة العُطل وجعلها موافقة لروزنامة التّعليم العموميّ،
وبإخضاع الجامع ومختلف فروعه لسلطة وزارة المعارف المحدثة سنة 1955.[3]
وفي الفترة
السّابقة لهذه الإجراءات المهمّة التي تقرّبُ التّعليمَ الأهليّ من التّعليم
العموميّ وتوحّدُهما تحت سلطة وزارة واحدة، بدأت تتبلورُ تصوّراتٌ لما ينبغي أن
يكون عليه النّظامُ التّعليميّ بالبلاد التّونسيّة، بعد خلاصها من الاستعمار
وارتقائها إلى مَصافّ الدّول المستقلّة. ومن بين هذه التّصوّرات، نذكر التّصوّرَ
الذي عرضَه الأستاذ أبو القاسم محمّد كرّو في محاضرة ألقاها بكلّ من صفاقس وبنزرت
في النّصف الأوّل من شهر سبتمبر 1955، تحت عنوان" التّعليم التّونسيّ بين
الحاضر والمستقبل".[4] تتكوّن المحاضرة من مقدّمة وتمهيد-ص3/ 6 - ثمّ قسم أوّل عنوانه" نظرة عامّة في تعليمنا الحاضر"
يمتدّ من الصّفحة 7 إلى الصّفحة 21، ثمّ قسم رئيسيّ ثان عنوانُه " نحْو
المستقبل" ويستغرق الصّفحات من 21 إلى 39، ثمّ ثلاثة ملاحق أوّلها جواب
استفتاء عن الثقافة، والثاني بيانات إحصائيّة مقارنة، والثالث بعنوان "طريق
المستقبل." ونظرا إلى أنّ صاحب المحاضرة زيتونيّ التكوين، ومن الذين استكملوا
دراستهم وتخرّجوا من الجامعات المشرقيّة، إذ هو دَرْمَعيّ[5] من دار المعلّمين العالية
ببغداد، وذو اطّلاع على تجارب العراق وسوريا ولبنان في مجال التعليم والتعريب، كما
سبق له أن نشر، سنة 1955، عددا من المقالات عن التّعليم في مجلّة" المدرسة
الحديثة"،[6]
فإنّنا رأينا أن نعرّف بهذا التّصوّر الذي أسهم به فريقٌ من الزّيتونيّين في ضبط
النّظام التّعليميّ المُزْمَع إقامتُه ببلادنا.
فما خصائصُ
نظامنا التّعليميّ الجاري به العمل، في نظر المؤلّف، سنة 1955؟ وما ملامحُ النّظام
التربويّ المزمَع إرساؤه؟
أوّلا: من
خصائص النّظام التّعليميّ بالبلاد التّونسيّة
أشار أبو
القاسم محمّد كرّو في فقرة تمهيديّة إلى الصّعوبات التي اعترضته وحالت دونه ودون
أن يقدّم عملا علميّا متعمّقا، منها عدمُ مواكبته للنّظام المدرسيّ جرّاء غيابه
طويلا عن أرض الوطن، وقلّةُ الوثائق والتقارير ومَحْدوديتها، وضيقٌ الوقت، وكثرةُ
المشاغل. لذلك، فإنّه" حاول القيام بعمل معتدل، فيه من هذا وذاك ما يتيح لنا
فهمَ المشاكل إجمالا، وتبيانَ المستقبل في قواعده وأهدافه، دون تفاصيله
وجزئياته".[7] وهي
مقاربة جيّدة لأنّها تركّز على الجوهريّ من المبادئ والاختيارات وتترك التفاصيل
للجان الفنّيّة المختصّة.
1.
مؤسّسات التّعليم بالبلاد التّونسيّة
صنّفها المؤلّف في أربعة أصناف:
أ.
مؤسّسات قديمة جدّا وعريقة في القدَم،
تشمل الزّوايا والكتاتيب وجامع الزّيتونة:
§
الزّوايا والكتاتيب: لهذه المؤسّسات مزيّة واحدة، في نظر أبي
القاسم محمّد كرّو، تكمُن في "حفظها للقرآن وتعليمه للنّاشئة".
فهو يعتبرها" أشبهَ ما تكون بالهيكل العظميّ الذي يبقى من الإنسان بعد موته
بسنوات، إذْ لا نجد فيها حياةً علميّة حقيقيّة، فضلا عن أن تُوجّه تلاميذَها نحو
الحياة، أو أن تُعدّهم لها إعدادا صالحا مفيدا".[8]
§
جامع الزّيتونة: بالرّغم من أنّه خطا خطوات كبيرة إلى
الأمام، فإنّ التعليم الزيتونيّ يتميّز بغياب هدف يتابعه ويسعى لتحقيقه، وبنشاط
علميّ محدود من ناحيتين أساسيتين "يقاس بهما جدوى كلّ نظام تعليميّ وقيمة
أيّة مؤسّسة علميّة"، هما "الإنتاج العلميّ" المتمثّل في التأليف
والاكتشاف، "والمساهمة في تقدّم البلاد اجتماعيّا وثقافيّا واقتصاديّا".
وفي المحصّلة، فالزّيتونيُّ لا يصلح لأكثر من التّعليم في الزّيتونة أو في المدارس
الابتدائيّة... وفي المناصب الدّينيّة التي لها علاقة بالدّين، كما يكون إماما أو
قاضيا أو عدلا... أمّا أن يكون طبيبا أو مهندسا أو كاتب حسابات في بنك، أو رئيس
مصلحة فنّيّة أو موظّفا فيها، أو أن يُدير مصنعا أو مؤسّسة اقتصاديّة فلا."[9] والسّببُ في ذلك هو أنّ مؤهّلاته
التّعليميّة الزّيتونيّة لا تساعده على ذلك. وأثناء التّوصيف، يسْتبق المحاضرُ
النقاش، ويتخيّل اعتراضات محتملة على ما أورده، ويردّ عليها ردودا مُطوّلة.[10]
ب. مؤسّسات
أُحدثت في القرن التّاسع عشر، وقبل الاحتلال، قصد مسايرة الزّمن والأخذ بأسباب التقدّم
العلميّ الذي بلغته الحضارة الغربيّة في ذلك الحين، منها المعهد الصّادقيّ الذي
يظلّ، في نظر المحاضر،" أقرب النّماذج التّعليميّة في بلادنا إلى ما نطمح
إليه."[11]
ج.
مؤسّسات حديثة حرّة للتّعليم
الابتدائيّ والتّعليم الثانويّ، أحدثها، حسب المحاضر، «الواعون من أبناء الشّعب...
لمكافحة غايات الاستعمار بأسلوب عمليّ، وذكر منها المدارس القرآنيّة التي بدأت
حرّة، ثمّ " اندمج أكثرُها تحت إدارة المعارف" بدافع مادّيّ محْض،
والجمعية الخلدونيّة والمدرسة اللخميّة بصفاقس، في قطاع التعليم الثانويّ.[12] وتتميّز هذه المؤسّسات
" باهتمامها الأوسع باللغة العربيّة وبتدريسها لموادّ علميّة بها، إلى جانب
التزامها بالبرامج والنُّظم المعتمدة في التّعليم العموميّ.[13]
د.مؤسّسات
رسميّة أُحدثت بعد الاحتلال، ووضعت برامجُها وأهدافها في خدمة الاستعمار وسياسته
الثقافيّة.
لا شكّ في أنّ المحاضر يشير إلى المدارس الفرنسيّة-العربيّة التي أحدثها ماشويل المديرُ
الأوّل للتّعليم العموميّ بعد انتصاب الحماية، والتي اكتفى بتسميتها مدارس التّعليم
الرّسميّ. لقد أبدى المحاضر رأيا، في مقدّمة الكتاب، مفادُه أنّ " السَّيْر
في تيّار الآراء والبرامج الفرنسيّة خطر على شعبنا، وعلى مثله العليا، وعلى كيانه
وشخصيته".[14] لذلك أورد لائحة من
العيوب والمآخذ تتضمّن 15 ملاحظة تتعلّق بانحراف الأهداف عن مُثل شعبنا، وبازدواج
لغة التدريس، وبفرض اللغة الفرنسيّة في جميع المراحل، وبانعدام التربية الوطنيّة،
وبضعف برامج اللغة العربية وتوقيتها، وبإهمال التكوين الصّناعيّ للمدرّسين،
وبخاصّة في المرحلة الثانويّة، وبنقص المباني المدرسيّة والتّجهيزات العلميّة والتعليميّة
المختلفة، وبالعناية بالكمّ دون الكيْف، وبضعف العناية بالبنت، وبفقدان التّعليم
العالي، وبقلّة المدارس المهنيّة الصّناعيّة والفلاحيّة والتّجاريّة...[15]
وبالرّغم من أنّ الفقرة مخصّصة لسرْد العيوب،
فإنّ المحاضر قدّم، خلال عرضه لبعض المسائل، مقترحات من قبيل " تأسيس معهد
عال للتربية"، أو " إحداث كلّية عليا للمعلّمين، تعنى، إلى جانب التكوين
الأساسيّ العلميّ، بالتدريب الصّناعيّ، نظريّا وتطبيقيّا،" أو" إحداث
عشرة معاهد، على الأقلّ، لتكوين معلّمي الابتدائيّ"، أو العناية بالمعلّم بعد
تخرّجه.[16]"
2.
خلاصة الحقائق
انتهى هذا التّشخيص لمختلف المؤسّسات
التّعليميّة إلى استنتاج عامّ يُمكن تلخيصُه في النقاط التّالية:[17]
§
أهداف التّعليم المدرسيّ وبرامجه موضوعة
لخدمة الاستعمار والثقافة الفرنسيّة.
§
مشاكل التّعليم المدرسيّ كثيرة، وينبغي
حلُّها، وفق مصلحة الشّعب، في أقرب وقت ممكن، وبتعاون بين الدّولة والشّعب
ومنظَّماته.
§
التّعليم الزّيتونيّ مُتخلّف عن مُسايرة
العصر، وقاصرٌ عن إعداد المواطن للحياة العامّة.
§
مشاكل التّعليم الزّيتونيّ ينبغي حلُّها
وفق سياسة واحدة، ولمصلحة مستقبل شعبنا الثقافيّ، في حدود المحافظة على مقوّمات
ثقافتنا التي تتمسّك بالإسلام والعروبة.
ثانيا: التّصوّرات المستقبليّة للنّظام التّعليميّ
التّونسيّ
تشمل التّصّوراتُ المستقبليّة للنّظام التّربويّ التّونسيّ
التي عرضها المحاضرُ التوسّعَ في التّعليم المدرسيّ، بمرحلتيْه الابتدائيّة
والثّانويّة، وإحداثَ جامعة تونسيّة عصريّة، وتعليمَ البنات،
ومقاومةَ الأمّيّة، ما يضفي عليها طابَع الاسْتيفاء لأنّها، في الآن نفسه،
تُعنى بالتّعليم المدرسيّ وبالتّعليم الجامعيّ، وتركّز على شريحتيْن اجتماعيتيْن
ضعيفتيْن، هما المرأة والأمّيّين.
أمّا المسائل المطروقة في هذا الباب، فقد كان المحاضر
وفيّا لتمشّيه المتمثّل في التركيز على الأهداف والمبادئ وتجنُّب الخوض في
التفاصيل والجزئيّات، لذلك انحصرت المسائلُ في أهداف النّظام التّعليميّ ودعائمه،
وتحويل جامع الزّيتونة إلى جامعة عصريّة، والعناية بتعليم البنات وتكوين
المعلّمات، وإعداد مشروع لمقاومة الأمّيّة.
1.
الأهداف التّربويّة الكبرى: على جهاز التّعليم التّونسيّ في المستقبل
أن يُحقّق الأهداف التّربويّة الآتي بيانُها، وهي خمسة، وتتميّز بوجْهتها المستقبليّة،
واستلْهامها من ثقافة عصريّة وتقدّميّة، وتركيزها على قيم نافعة جديدة، من شأنها
أن تفْضي إلى تحسين حياة المواطنين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. وهذه
الأهداف هي:
· " تكوين المواطن الصّالح المعتمد على ثقافة
عصرية تقدّميّة، والمعتزّ بتراثنا القوميّ."
· " المحافظة على تراثنا الثقافيّ
ومقوّماته".
·
" إظهار إمكانياتنا الخاصّة في ثقافة العرب
المعاصرة، والمساهمة فيها بنصيب لائق، سواء عن طريق إحياء القديم وبعثه أو بتقديم
إنتاج حديث."
· تحسين
حياتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة، بتقديم قيم نافعة جديدة، والسّيْر
بشعبنا نحو مَثل أعلى موحَّد، والمساهمة في رفع مستوى حياته نحو الأفضل باستمرار."[18]
2.
دعائم نظام التّعليم ومبادؤه: ضبط المحاضرُ ثلاثة مبادئ يرى أنّه عليها
يُقام كيانُ النّظام التّعليميّ، وتتعلّق هذه المبادئُ بتوحيد التّعليم وتعريبه
والتوسّع فيه:
· " تعليم تونسيّ موحّد، ببرامج واحدة، وأهداف تربويّة واحدة،
تنسجم مع مُثل شعبنا العليا، وتجهّز الفردَ لأنْ يعيش عصره، ويفهم حضارته، ويساهم
فيها." إنّ المحاضر، خلافا لغيره من الزّيتونيّين، يرى أنّ من مصلحة الشَّعب
توحيد التّعليم، غير أنّ هذا التوحيد " لا يعني أبدا إنهاءَ عمل الزّيتونة
الثقافيّ"، وليس معناه القضاءَ على التّعليم الدّينيّ"، بل بالعكس، فإنّ
التّعليم الدّينيّ سيحافظ على مكانته، وأنّ " الدّين سيكون مادّة أساسيّة في
جميع المدارس الموحَّدة، بمعدّل ساعتين في الأسبوع، وفي كافة سنوات المرحلة
الثانويّة".[19]
·
" تعريب
التّعليم بمراحله الثلاث: ابتدائيّ وثانويّ وعَال، وإعطاء اللغات الأجنبيّة مكانة
ثانويّة في البرامج بعد اللغة القوميّة، أي أن تكون لغات إضافيّةً يستكمل
بها الطالبُ ثقافته، وتساعده على مواصلة تعليمه العالي في أوروبا. أمّا جميع
موادّ الدّراسة فيجب أن تكون باللغة العربيّة." لقد وقف المحاضر، في
مستوى المبادئ في نصّ محاضرته. لكنْ من حسن حظّنا أنّ الملحق الأوّل المُعنْون
" جواب استفتاء" يتضمّن توضيحات مهمّة تنير مسألة التعريب، إذ صرّح أبو
القاسم محمّد كرّو بما يلي:
ü
مرحلة التّعليم الابتدائيّ تكون كلّها
معربّة،
ü
مرحلة التّعليم الثانويّ ومدّتُها سبعُ
سنوات[20] تنقسم إلى درجتين: الأولى
أربعُ سنوات، وتكون فيها الفرنسيّة إجباريّةً كلغة ثانية بعد العربية، والدّرجة
الثانية ثلاثُ سنوات، وتستمرّ فيها الفرنسيّة بنفس الاعتبار، مع وجوب تعلّم
لغة أخرى يختارها التلميذ من ثلاث لغات، هي الإنقليزيّة والألمانيّة
والإيطاليّة. تدرّس جميع الموادّ باللغة العربيّة،[21] بالتدريج، على أن يبدأ
التعريب بالسّنتين الأولى والثانية معًا في عام 1956، أو أن يبدأ من أكتوبر 1955
بمقدار ما يتوفّر من الأساتذة.[22] المهمّ أنْ لا تتجاوز
عملية التعريب خمسَ سنوات.[23] تنتهي الدّرجة الأولى أو
المرحلة الأولى العامّة، التي يتابع خلالها التلامذة برامج موحَّدة، بنيل شهادة
الأهليّة. أمّا المرحلة الثانية فتنقسم إلى شعبتيْن: شرعيّة ومدّتها
ثلاث سنوات، وتنتهي بنيل شهادة إنْهاء التعليم الثانويّ أو شهادة التّحصيل،
وعصريّة مدّتها ثلاثة أعوام وتنقسم في السّنة الثالثة إلى شعبتيْن: شعبة
علميّة للرّياضيات، وشعبة أدبيّة للفلسفة والأدبيّات، وتتوّجُ بشهادة التحصيل:
القسم العصريّ علميّ أو أدبيّ.[24]
· " توسيع التّعليم الابتدائيّ
والثانويّ بحيث يشمل جميع المتأهّلين له والقادرين عليه، مع جعل الابتدائيّ
إلزاميّا ومجانيّا، وجعل الثانويّ مجانيّا وميسّرا لكلّ متأهّل له."[25]
ويرى
المحاضرُ أنّ التوسّع لا يطرح مشكلة حادّة في مجال المدرّسين، ومع ذلك يقترح عدّة
حلول لتوفير ما يلزم من الأساتذة للتّعليم الثانويّ، كاعتبار الطلبة المغتربين في
فرنسا والشَّرق، واختيار عدد من مدرّسي الزّيتونة الأكفاء، وإرسال بعثات سنويّة
إلى أوروبا والشّرق، وجلْب أساتذة من مصر خاصّة. كما يرى أنّ مسألة الكتب ميسورٌ
حلُّها، إمّا بتأليف لجان من قبل وزارة المعارف وتحت إشرافها، أو باختيار ما يعتبر
مناسبا من الكتب الشرقيّة.[26]
فالنّظام التّعليميّ المُؤَّمل إنشاؤه مجانيّ في مرحلة
التّعليم المدرسيّ، يوحّد، إذنْ، المؤسّسات التّعليميّة وبرامجَها وأهدافَها،
وتكون لغة التدريس في جميع موادّه معرّبةً، في مراحل الابتدائيّ والثانويّ
والجامعيّ. أمّا اللغات الأجنبيّة فدورُها تكميليّ ومُساعد على متابعة الدّراسة
بالجامعة.
3.
تحويل جامع الزّيتونة إلى جامعة تونسيّة: يرى المحاضر أنّه من الخيْر الكبير للبلاد
وللزيتونة أن " تتحوّل إلى جامعة حقيقيّة تحمل اسم الزّيتونة، وتشتمل على
كافة فروع الاختصاص العلميّ والدّينيّ في وقت واحد."[27] يمكن افتتاح هذه الجامعة
في غرّة أكتوبر 1956، على أن تحتضن كلّية الشّريعة وكلّية الحقوق والمدرسة
الإداريّة، والمعهد العالي للتربية أو دار المعلّمين العليا الواجب إحداثها، وكلّية
الزّراعة وكلية الآداب.[28] وأوّل خطوة لتأسيس الجامعة
التونسيّة هي فصل الزّيتونة عن وزارة المؤسّسات الإسلاميّة، وجعلها تابعة إلى
وزارة المعارف. في هذه المرحلة، تأخذ اللغة الفرنسيّة المكانة الأولى بعد اللغة
العربيّة، إلاّ في فروع الاختصاص العلميّ،" فتكون هي لغة ذلك الاختصاص، خلال
مدّة انتقاليّة لا يمكن أن تزيد على عشر سنوات".[29]
4.
"إحداث مصلحة خاصّة بوزارة المعارف تتولّى
شؤون الزّيتونة، ريثما تنتهي مرحلة الانتقال."
5.
"إحداث مجلس
أعلى للتّعليم يرأسه وزير المعارف، ويشترك فيه عدد من الأساتذة والخبراء المسؤولين
عن سيْر التّعليم."[30]
ثالثا: تذليل الصّعوبات
كان المحاضرُ واعيا بأنّ صعوبات متنوّعة، ماليّة وفنّيّة
وعلميّة ونفسيّة واجتماعيّة، ستقوم في وجه تطبيق هذه الرّؤية المستقبليّة للتعليم
ببلادنا، وستنشأ هذه الصّعوبات من توحيد التعليم وتعريبه وتوسيع نطاقه. فالمشاكل
الماليّة ستترتّب على توسيع التعليم والحاجة إلى مبان مدرسيّة وأجهزة مختلفة
ومدرّسين. والصّعوبات العلميّة والفنّيّة ستنشأ من تعريب التعليم لقلّة المختصّين
القادرين على التعليم بالعربيّة، وندرة الخبراء في بناء البرامج الدراسيّة وإعداد
الكتب المدرسيّة الملائمة للبرامج الجديدة، أمّا الصعوبات النفسيّة والاجتماعيّة
فمردُّها توحيد التعليم وموقف بعض الشّيوخ من مكانة التعليم الدينيّ في النظام
التعليميّ المزمَع إرساؤه. وكي تذلّل هذه الصعوبات، قدّم أبو القاسم محمّد كرّو
مقترحات من شأنها أن تساعد على تجاوز المشاكل، منها:
§
ضرورة أن يتعاون الشّعب مع وزارة المعارف لإنشاء
المدارس وتسديد حاجياتها عن طريق التبرّع الشّخصيّ أو الاكتتاب العامّ.[31]
§
الانكباب على مسألة إعداد المعلّمين والأساتذة:
ü
بتوسيع شبكة مدارس ترشيح المعلّمين
والمعلّمات والترفيع من طاقة استيعابها، وذلك بإحداث مدرستيْن سنويّا، إحداهما
للمعلّمين والأخرى للمعلّمات، حتّى يبلغ عددها عشرا في خمس سنوات،
ü
بفتْح دورات تربويّة للمعلّمين المستجدّين
خلال العطل الصّيفيّة،
ü
بإحداث معهد عال للأساتذة أو دار
للمعلّمين العليا، تُعنى بتخريج مدرّسي المرحلة الثانويّة.
ü
بعث لجان مختصّة للقيام بالأعمال
الفنّيّة.
خلاصة
تلك هي الخطوط الرّئيسيّة لنظام التّعليم، في نظر أبي
القاسم محمّد كرّو، وهي عنده، " قد وضع بعضَها أو ارتآه باحثون آخرون من قبلُ...
على نسب وظروف مختلفة، أمّا الباقي فمنْ رأيه الشّخصيّ"،[32] على أنّ الأهمّ، عند
الأستاذ المحاضر، هو أنْ لا يُخلّ العملُ المزمعُ القيام به بالمبادئ الأساسيّة
الثلاثة: توحيد التعليم وتعريبه وتوسيعه. وفي معتقده أيضا، " إنّ
أدقّ وأخطر وزارة في المستقبل ستكون وزارة المعارف، لأنّ عملها هو روح المستقبل
وعماد البعث المنشود"، وأنّ نجاحها "مُحقّق في أهدافها، إذا توفّر في سياستها
النظامُ والخبرة وحسنُ التصرّف."[33]
وفي الجملة، فإنّ مشروع المحاضر يتّصف بالوطنيّة، لأنّه
قدّم مصلحة الشّعب على كلّ مصلحة أخرى، كما يتّصف بالشّمول لأنّه أدرج، في تصوّره،
التّعليم المدرسيّ والتعليم الجامعيّ، مع التفاتة مخصوصة للمرأة والأمّيّين، كما
أدرج الجوانبَ الماليّة وقدّم مقترحات في شأنها. ومن جهة أخرى، يتّسم تطبيقُ هذا
المشروع بالتدرّج، لأنّه جعل تعريب التّعليم الثانويّ يمتدّ على خمس سنوات، وتعريب
الجامعة التّونسيّة يمتدّ على عشر سنوات.
يبدو أنّ توجّهات المثقّفين، أمثال أبي القاسم محمّد
كرّو، كانت كلُّها تصبّ في الاتّجاه نفسه، خلال الفترة الأولى من الاستقلال،
وخاصّة بين سنتي 1955 و1956، لا أدلّ على ذلك من مبادرة الحكومة التونسيّة ووزير
المعارف إلى تأميم المدارس القرآنيّة العصريّة في 15 مارس 1956، وهو ضرب من توسيع
التّعليم الابتدائيّ، واعتبار فروع الجامع الأعظم معاهد ثانويّة، وتعصير شُعب
التّعليم الزّيتونيّ وشهاداته، وتأسيس الجامعة الزّيتونيّة وتسمية الشّيخ محمّد
الطاهر ابن عاشور عميدا لها، وجعلهما يرجعان بالنّظر إلى سلطة وزارة المعارف في
البرامج والأعوان والمدرّسين، في أفريل 1956. بمثل هذه الإجراءات التي لا تخلو من
شجاعة ورغبة في الإصلاح تمّ إخراجُ التعليم الزيتونيّ ومؤسّساته من منزلة التعليم
الأهليّ إلى مكانة التّعليم العموميّ الوطنيّ.
ولمّا أُعدّ إصلاح 1958، جاء مستندا إلى المبادئ
الأساسيّة ذاتها: توحيد التّعليم، ونشره أفقيّا وعموديّا، وتعريبه. إنّ هذا التّطابق،
في الأهداف وفي المبادئ، ليطرح علينا طائفة من الأسئلة تتعلّق بالمحاضر: تُرى، هل
عرض تصوّرُه على وزارة المعارف، أمْ اكتفى بنشر محاضرته، خلال شهر أكتوبر 1955،
كما هو مثبت في المقدّمة؟ هل كان عُضوا في لجان التفكير التي بعثتها وزارةُ
المعارف على عهد الوزير الأستاذ محمّد الأمين الشّابي؟ هل انتمى المحاضر إلى
اللجان الفنّيّة التي بعثها كاتب الدولة للتربية القوميّة، الأستاذ محمود المسعدي،
سنة 1958؟ لو استطعنا الإجابة عن هذه الأسئلة، لأمكننا أن نحيط، بشكل أفضل،
بالظّروف والسّياقات التي تبلّور فيها الإصلاحُ التربويّ الأوّل للمنظومة
التعليميّة بالبلاد التونسيّة.
تونس في 17 أكتوبر 2016.
[1] .
انظر نور الدين سريّب ضمن مقاله بالفرنسيّة: التحوّلات والإصلاحات في هياكل
التعليم بالبلاد التونسيّة، 1967، ص 114.
[2] . انظر
الأمر العليّ المؤرّخ في 22 فيفري 1956 الضابط للقانون الأساسيّ للمدارس القرآنيّة
العصريّة.
[3] .
انظر الأمر العليّ المؤرّخ في 15 مارس 1956 بالنسبة إلى العطل، والأمر العليّ
المؤرّخ في 26 أفريل 1956 المتعلق بتنظيم التعليم بالجامع الأعظم، والأمر العليّ
المؤرّخ في 29 مارس 1956 بالنسبة إلى الشعب والشّهادات.
[5] . هذه
الكلمة مركّبة تركيبا مَزْجيّا من دار والمعلّمين، وتطلق على من يتخرّج من مدارس
إعداد المعلّمين: Normalien
[12] . لم
يتعرّض المحاضر للمدارس الحرّة التابعة للجاليات الأجنبيّة أو للمؤسّسات الدينيّة،
المسيحيّة منها واليهوديّة.
[20] .
أورد المحاضر رأيا يذهب إلى أنّ هذه المدّة مرهقة للتلاميذ، ومن الأفضل حصرها في
ستّ أو خمس سنوات. انظر المرجع السّابق، ص 31، الهامش 1.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire