«… قضيت 4 سنوات من 1976 إلى
1980 لمعالجة العديد من المشكلات التي وجدتها عندما استأنفت مهامي على رأس التربية
القومية.
... فليُسمح لي بأن أنصف
نفسي من تهمة لا أساس لها من الصحة و التي لم يتردد البعض مثل الشرفي[1]عن ترديدها هنا وهناك. لم أقم أبدا
بتعريب تدريس الفلسفة ولم أحذف من البرنامج أي مؤلف اعتبر "خطرا". إن تّعريب تدريس الفلسفة كان من
إنجاز إدريس قيقة كما يشهد عن ذلك أحد أعداد الرائد الرسمي لسنة 1975، أي أن
الأمر قد وقع قبل أن أعود إلى وزارة
التربية القومية بسنة[2]
، وقد اقترح إدريس قيقة
تعريب تدريس الفلسفة للحد من تأثير الفلاسفة "الحمر". فخلال اجتماع المكتب السياسي للحزب الذي انعقد
في شهر جوان 1974 ( في فترة الامتحانات
) لم يتردد ادريس قيقة في أن يقرأ على مسامعنا بعض التحارير في اختبار الفلسفة اتسمت بنزعة ثورية و حماس مفرط
لحمل الهادي نويرة (الوزير الأول
في ذلك الوقت) على الانخراط في مشروعه
لتعريب تدريس الفلسفة للتصدي - في
ذهنه - للتأثير المهيمن للفكر الماركسي والثوري في صفوف التلاميذ والطلبة.
إن الأحكام المسبقة والأفكار
المتوارثة لها قدرة كبيرة على الصمود ،
فأحد المناضلين الماركسيين، - جيلبار
نقاش- والذي من المفروض أنّه متمرس على الجدلية والفكر النقدي أكد بكل بساطة - عن طريق السمع - في مقال بعنوان«رحلة في الصحراء التونسية»[3] ما
يلي : " لأننا أدركنا في يوم
ما، أنه ثمة تعارض بين طبيعة النظام
والثقافة ، كان ذلك في عام 1976، اعتبر وزير التربية في ذلك الوقت أنّ الثقافة
الفرنسية تحمل في طياتها الاحتجاج فقام -
تبعا لذلك- بتغيير البرامج المدرسية ،
وبادر على وجه الخصوص بتعريب الفلسفة أي أنه حذف تدريس الفلسفة الفرنسية باعتبارها فلسفة
التساؤل (...) " . أتمنى أن يكون جلبار
على حسن نية كما أتمنى أن تتاح له فرصة قراءة توضيحي هذا فيطرح على نفسه ... أسئلة.
في الختام ، لا بد من ترك أبوّة تعريب تدريس الفلسفة لصاحبها ( إدريس قيقة) وعدم إسنادها إليّ – سعيا
لتوريطي أكثر فأكثر- حسب البعض. أما
اختفاء فولتير فالأمر مجرد وهم بصري
سقط فيه الشرفي، إذ أنّ تدريس
أعمال فولتير كان دوما جزءًا من برنامج
الأدب الفرنسي في السنة السادسة من
التعليم الثانوي ( ما
يوافق السنة الثالثة ثانوي في النظام الحالي) ، تمامًا مثل أعمال مونتيسكيو و
ديدرو والموسوعويين...
فقد كنا ندرسهم دائمًا في هذا الإطار
وما زال الأمر كذلك إلى اليوم. كما أنني
لا أعتقد للحظة واحدة أن أكاديميا في
منزلة عبد الوهاب بوحديبة ، الذي ترأس حينها لجنة البرامج ، كان من الممكن أن يشارك
في عملية نزع العقلانية من محتوى برامج الفلسفة ، كما أنه لم يكن من
الممكن أن يوافق على استبعاد ديكارت و سبينوزا وفرويد أو حتى ماركس ، لا
أعتقد أيضًا، أن العديد من الأساتذة الفرنسيين[4] ،الذين كانوا أعضاء في هذه اللجنة، كان بإمكانهم قبول التحول نحو
الظلامية! الواقع هو أنّ اللجنة قد قررت – ببساطة - إضافة دراسة
فلاسفة مسلمين أمثال أبو حامد الغزالي [5] و ابن سينا[6] أو ابن رشد [7] .
أضيف
أيضا أن أساتذة الفلسفة التونسيين في التعليم الثانوي و العالي قد حافظوا على
مراكز عملهم وبذلوا مجهودا للتعبير باللغة العربية. وقد اضطر إدريس قيقة إلى
التخلي عن عدد من أساتذة الفلسفة الفرنسيين أو تكليفهم بتدريس اللغة الفرنسية.
كما أضيف أيضًا أن الأستاذ الشرفي - الذي أقدره رجلا والذي أحترم
قناعاته – قد تجاوزه الشرفي الوزير، بما
أنه صرح لمجلة جون أفريك [8] أنه « في بعض الأحيان
تم في الماضي ، اتخاذ إجراءات ذات طابع
ديماغوجي أو سياسوي على وجه الخصوص في ردة الفعل على صعود اليسار والذي كان يُعتقد
أنه من المفيد دسّ جرعة مضادة له من العروبية
والاسلاموية. كان ذلك خطأً – إلى جانب أخطاء عديدة
أخري - ندرك الآن عواقبها.
إذا كنت أنا هو المعني ، أود أن يكون مقتنعًا بأنني
لم أتصرف، تحت سلطة الهادي نويرة - إلا عن قناعة وليس من منطلق حسابات سياسوية و
أنّ ذلك الأمر قد كلفني كثيرًا فقد طردت من وزارة التربية في مناسبتين. وبما أننا بصدد استعادة بعض الحقائق وكشف بعض
الحقائق الزائفة: أودّ أن أفند تهمة أخرى روّجها بعض المناوئين قليلو الاحترام
للحقيقة التاريخية ولم يترددوا في التلميح بأنني كنت من المدافعين عن التعليم
الزيتوني الذي اعتبره هؤلاء مهدا للتطرف.[9]
أود قبل كل شيء أن
أقوم بتذكير تاريخي : إن
جامعة الزيتونة التي يزيد عمرها عن 13 قرنًا[10] قد قامت، مثلها مثل أختها الكبرى في المغرب
جامعة القرويين ( التي أسستها أميرة القيروان)، بدور المحافظ الحقيقي للهوية
الثقافية التونسية.
و تكون
بها عدد من الفقهاء والكتاب التونسيين البارزين ، أمثال الشيخ على ابن زياد (يوجد
قبره في القصبة) الذي أدخل إلى بلادنا كتابا للإمام مالك الذي كان يدرس بالمدينة المنورة . وقد شجع القاضي
أسد بن الفرات ، فاتح صقلية، للذهاب للمدينة لتعلم المالكية[11].
...
تخرج منها ابن خلدون، أب العلوم الاجتماعية و سالم بوحاجب و و الطاهر و الفاضل بن
عاشور[12] و الطاهر الحداد وأبو
القاسم الشابي . و من جهة أخرى ثبت إحصائيًا أن عدد الطلبة المتطرفين قد تضاعفوا
داخل الكليات العلمية وعلى مقاعد الجامعات الأوروبية وليس في الكلية الزيتونية و لا
حتى في الكليات الأدبية للجامعة التونسية.
من
المعروف أن التدريس بجامع الزيتونة كان
تعليما تقليدييا يتميز بالاعتدال الخاص بممارسة الأغلبية لإسلام شعبي معتدل
تمامًا. بالإضافة إلى أن تدريس
الأدب -عندنا - يشجع على التفكير النقدي والتساؤل الاستفهامي . وهو ما يولد سدودا طبيعية
ضد الدمغة العقائدية .
على عكس
التعليم العلمي الذي يبدو أنه يدفع لتأكيد المطلق أو على الأقل التبسيط
الاجرائي ، وهو ربما ما يفسر ذلك التناقض المدهش ولكنه
ثبت و تأكد إحصائيا إن أغلبية طلبة الأصوليين يتم
تجنيدهم من كليات العلوم والتقنية.
على
أي حال في وقت ممارستي المسؤوليات على رأس وزارة التربية الوطنية ، لم تكن قضية
الأصولية مطروحة . ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن التعليم الزيتوني كان الأرض
الخصبة لما سيصبح فيما بعد ظاهرة التطرف ، بل على العكس من ذلك ، فإن إيماني
الراسخ بأن التعليم التقليدي السليم الذي
يدعو إلى التسامح يمكن أن يشكل سدًا منيعا أمام أولئك الذين يريدون توظيف الدين لأعراض
سياسية للوصول إلى السلطة باستعمال
العنف."
محمد
مزالي
ترجمة
المنجي عكروت متفقد عام للتربية و ابراهيم بن عتيق استاذ أول مميز
تونس
– فيفري 2024
للاطلاع على النسخة الفرنسية الأصلية – اضغط هنا
[1]
المعني هو محمد الشرفي وزير التربية و التعليم العالي في نهاية الثمانينات
و بداية التسعينات
[2] إن التوجيه الجامعي
تم إرساءه انطلاقا من سنة 1975 من قبل ادريس
قيقة و إنني آسف لأنني لم أجد الوقت لتعديل هذا التجديد و تحسينه.
[3] صدر
المقال في مجلة les incorruptibles
سنة 2003
[4] أتذكر بأنني قرأت تقارير
صادرة عن مدرسين فرنسيين يتذمرون فيها من ضعف تلامذتهم في اللغة الفرنسية !... و أود أن
أضيف بأن تلاميذ الاقسام النهائية سنة 1975
الذين يشكون من ضعف فادح في اللغة الفرنسية كانوا
في عام 1967 أو 1969 بالسنة أولى
أي أنهم نتاج عشرية المسعدي.
[5] عالم لاهوتي (1111-1058)
[6] طبيب و فيلسوف
من أصل فارسي ( 980- 1037) مؤلفاته كانت
مرجعية في أوروبا
[7] فيلسوف عربي ( 1126-1198)
[8] عدد 1530بتاريخ 30 أفريل 1990.
[9] أمر علي صدر في 1 نوفمبر 1842 يتعلق بمؤسسة جامعة الزيتونة و في 4 نوفمبر
1884 صدر أمر علي يقرر بأن امتحانات طلبة جامع الزيتونة تجرى بدار الباي بمدينة
تونس.
[10] في الوقت الذي كان فيه المخطوط تحت الطبع
قرات في ( le syndrome autoritaire ( presse de Sciences Po, avril 2004
لميشال كامو (Michel Camau) و
فنسان جيسر( ( vincent Geisser و هما باحثان مشهود لهما باعتبارهما مختخصصان في المغرب
العربي ما يلي : " إن اطروحة الهيمنة الاسلاموية التي صنعتها
السلطة لتقويض تاثير اليسار الجامعي ... إن أسطورة المؤامرة المزالية ضد اليسار
العلماني - لا تبدو لنا كاريكاتورية فحسب بل إنها عمياء أيضا..." ويضيف الباحثان : " إنها أطروحة نادرا ما تدعمها
أدلة تاريخية مقنعة (أرشيف، براهين، شهادات...). وفي حالة البلاد التونسية، استمر هذا النوع من التحليلات الفجة إلى
أوائل التسعينيات...".
[11] المالكية هي أحد المذاهب
السنية الأربعة الذي وضعه مالك ابن أنس
الذي ولد و توفي بالمدينة ( 715-
795).
[12]كان
الفاضل بن عاشور استاذي في الفلسفة الإسلامية في السنة السابعة بالمدرسة الصادقية و اصبحنا أصدقاء وقد كان لي
شرف تأبينة في جنازته في شهر أفريل 1970
بمقبرة الجلاز بحضور والده الشيخ الطاهر والوزير الأول الباهي لدغم،
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire