لماذا هذه
الورقة حول التفقد؟
عزمنا على تخصيص ورقة هذا الأسبوع للتفاعل مع
البلاغ الذي صدر عن النقابة العامّة لمتفقدي التعليم الثانويّ في المنتصف الثاني
من فيفري، وبالتحديد النقطة الرّابعة منه، والذي طرح مسألة مكانة التفقد صلبَ
النظام التربويّ وموقع المتفقدين من مختلف هياكل الوزارة، مركزيّا
وجهويّا. إنّه من المفارقات أن تطرح اليوم هذه المسألة، بعد مرور 126 سنة على بعث
مؤسّسة التفقد بالبلاد التونسيّة، وبناءً على الرّسالة المَنوطة بهذا السّلك ودوره
الرّئيسيّ في إقامة منظومة تعليميّة عصريّة غداة الاستقلال، وفي ضوء الأعمال
الجليلة التي ينهض بها المتفقدون على أصعدة البرامج والامتحانات وتأطير المدرّسين
وتعهّدهم.
في الحقيقة، لقد صاحبتْ هذه المسألة
تاريخَ التفقّد، وكانتْ تطفو على السّطح، كلّما اختلّ التوازنُ بين سلك الإداريّين
وسلك المتفقدين البيداغوجيّين. وبالرّغم من أنّ الوزراء الذين تداولوا على رئاسة
قطاع التعليم يُقرّون بسموّ مكانة التفقد والمتفقدين، وينوّهون بالدّور الذي ما فتئ
يضْطلع به أعضاءُ هذا السّلك، فإنّ المتفقدين، باعتبارهم السّلطة البيداغوجيّة،
يشعرون، في الممارسة، أنّ دورهم مقفوز عليه، وأنّهم لا يشاركون بصفة فعليّة
وبانتظام في بلورة السّياسة التربويّة.
وباعتبارنا من المنتمين إلى هذه المؤسّسة،
وحصل لنا شرفُ رئاسة ودادية متفقدي التعليم الثانويّ في التّسعينات، وساهمنا حينَها في
بعث التفقديّة العامّة للتربية[1]، أردنا
أن نُسهم اليومَ في كتابة تاريخ هيئة التفقد. وسنخصّص الجزء الأوّل لنشأة هذه المؤسّسة .
مقدّمة
إنّ مؤسّسة التفقد البيداغوجيّ مؤسّسة
عريقة في البلاد التونسيّة. ظهرت في مُنتصف القرن التاسع عشر، حين بعث الباي جهازا
لمراقبة التدريس بجامع الزيتونة. ثمّ بدأت هيئة التفقد في التّنظُّم خاصة منذ
انتصاب الحماية على تونس، في الرّبع الأخير من القرن التاسع عشر، حتّى أصبحت جهازا
أساسيّا في المنظومة التربويّة.
فكيف ظهر التفقد في البلاد التونسيّة؟ وكيف
تطوّر على المستوى التنظيميّ وعلى المستوى الوظيفيّ، وعلى صعيد المهامّ؟
أوّلا:
بدايات التفقّد بالبلاد التونسيّة قبل انتصاب الحماية
ظهرت مؤسّسة التفقد بالبلاد التونسيّة منذ
القرن التاسع عشر: فقد ذكر سماحة الشيخُ محمّد الطاهر ابن عاشور أنّ البلاد
التونسيّة شهدت عدّة ترتيبات لمراقبة التعليم والمعلّمين، متفاوتة في الأهمّيّة
منها:
- وضع
موظّف يُسمّى" الشّاوش" لمراقبة الكتاتيب والمؤدّبين، وهو إجراء قديم،
يرى الشيخ أنّه لم يكن ناجعا.
- ترتيب
أحمد باي لسنة 1258 هـ/ 1841 م القاضي بتسمية أربعة نظّار على تعليم جامع الزيتونة،
(شيخا الإسلام الحنفيّ والمالكيّ، والقاضيان المالكيّ والحنفيّ)، تتمثّل مهمّتهم
في: " مراقبة حضور المدرّسين، والتنكيت على المتغيّب منهم، وحفظ المكتبة،
والمحاسبة على الماليّة، أي ما يسمّى بيت المال يومئذ، وانتخاب المدرّسين عند
نقصانهم" [2]. ويقيّم الشيخ
ابن عاشور هذا الترتيب إيجابيّا، إذ قد كفلَ، في نظره، انتظامَ الدّروس، وحقّق
ارتفاعَ أعداد المتخرّجين، وضمنَ جودةَ كفاءتهم.
- ترتيب
محمد الصّادق باي لسنة 1870 ، الذي أصدر منشورا إثر التقاعس في تطبيق الترتيب
السّابق، والذي تضمّن تعيين متفقّد من أعيان رجال الدّولة " يتفقّد أحوال
التدريس وإجراءها على مقتضى الترتيب، ويجعل تقريرا في ذلك في نهاية كلّ شهر"[3]. (3)
وأوّل من كلف بهذه المهمّة وزير القلم، محمد العزيز بوعتور، «فباشر استماع كثير من
الدروس يوما كاملا بالجامع الأعظم، وراقب مقدار العلوم، وإجراء الترتيب، ورفع في
ذلك تقريرا محكما."
وفي
سنة 1874 اتّخذ محمد الصّادق باي إجراءات جديدة لتدعيم التفقد والرقابة، منها ضبطُ مشمولات النّظارة التي أصبحت تغطّي مجالات عديدة تتعلق بالتدريس، منها فيما يهمّ
التفقّد " حضور واحد من النظار كلّ يوم لمراقبة أحوال التدريس". وفي السّنة
نفسها، عَيّن الجنرال حسين " مستشارُ المعارف" نائبيْن له، هما الشيخ عمر
بن الشيخ، والشيخ محمود بن الخوجة، مهمّتهما أن يرفعا إليه تقارير دوريّة عن أحوال
التعليم، ومراقبة تطبيق الترتيب، ليتولّى بدوره رفع تقرير إلى الدّولة كلّ ستّة أشهر.
ثانيا: التفقد زمنَ الحماية الفرنسيّة:
وضع أسس مؤسّسة التفقد البيداغوجيّ
1-
التفقد بجامع الزيتونة: فشل سلطات الحماية في السّيطرة
عليه
منذ انتصاب نظام الحماية الفرنسيّة سنة 1881، سعت
إدارة التعليم العموميّ التي كان يشرف عليها لويس ما شُويل لوضع يدها على التعليم الزيتونيّ،
فألحَقَ النائبيْن (المتفقّديْن) اللذيْن عيّنهما الجنرال حسين بإدارة العلوم والمعارف، منذ
1883[4].
لقد كان النائبان (المتفقدان) يُديران
نظامَ الجامع بما يريده ماشويل، لمدّة طويلة. ويظهر من كلام الشيخ ابن عاشور أنّ
تدخّلهما كان إيجابيّا، إذ " أحدثتْ أنظمة حسَنة في المناظرات والامتحانات
والرّاحة الصّيفيّة، في سنة 1894 [5]".
ولكنْ، في سنة 1897، حين حاول مديرُ العلوم
والمعارف، لويس ماشُويل، تمريرَ إصلاحات، فواجه معارضة شديدة من بعض الشيوخ المدرّسين
في جامع الزيتونة الذين رفضوا وضع جامع الزيتونة تحت إشراف إدارة العلوم والمعارف،
على أساس أنْ لا إشرافَ لهذه الإدارة على الجامع الأعظم.
وحُسم الأمرُ في جلسة مجلس الوزراء "
بإرجاع تعليم جامع الزيتونة إلى نظارة المشائخ النظّار الأربعة"،" دون
تدخّل مدير العلوم". ومنذ ذلك التاريخ، انقطعت صلة الشيخيْن، عمر بن الشيخ
ومحمود ابن محمود، بالتعليم بالجامع الأعظم. وبخُلوّ خطة النائب، أُسندت وظيفة النائب،
متفقد التدريس بالتعليم الزيتونيّ، إلى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور سنة 1907.
2 - التفقّد في مدارس التعليم العموميّ
تأسّس التفقد في التعليم الثانويّ والابتدائيّ،
بالبلاد التونسيّة، بداية من 1888، بمقتضى أوّل قانون للتعليم في تونس، صدر في 15 سبتمبر
1888، في عهد عليّ باي الذي خصّص بابا للتفقد، مشيرا إلى أنّ " تفقد المؤسّسات
التعليمّة ينجز من قبل مدير التعليم العموميّ أو من ينوبه. ويتعلق تفقد مؤسّسات
التعليم الخاصّة بالأخلاق والصّحّة والنظافة والتثبّت إنْ كان التدريسُ بها لا يتنافى
مع الأخلاق وقوانين البلاد، وإنْ كانت اللغة الفرنسيّة تدرّس بها".
§
تفقد
المدارس القرآنية وتفقّد اللغة العربيّة بالمدارس الفرنسيّة العربيّة
انطلق تفقّد المؤدّبين منذ 1889، وبُعثت
سنة 1908، تفقديّة
المدارس القرآنيّة الخاصّة والتعليم العربيّ بالمدارس الابتدائيّة العموميّة- صلب
إدارة المعارف والعلوم- وعُيّن محمود بن محمود بصفته " متفقّدا للتعليم العربيّ
الثانويّ بالمدرسة الصادقيّة والمدرسة العلويّة والمدرسة العصفوريّة".[6]
§
تفقد
المدارس الفرنسيّة والمدارس الفرانكو آراب
كان تفقد اللغة الفرنسيّة حكرا على
متفقدين فرنسيّين يتمّ تعيينهم بقرار من رئيس الحكومة أو الوزير الأوّل، من بين المديرين
أو المعلّمين.
وكان البعد الإداريّ[7] غالبا
على مهمّة التفقد، منذ انبعاثه في جامع الزيتونة، وقد تأكّد ذلك في قانون 1888، و
في المذكرات التنظيميّة التي كانت تصدر عن إدارة العلوم والمعارف.
وقد عرف التفقد في عهد الحماية تنظيما
على مستوى الهيكلة، وتمّ تقسيم البلاد إلى دوائر تفقد يشرف عليها متفقد جهويّ، وبعثت
تفقديّات جهويّة، ونُظّمت مناظراتٌ لانتداب المتفقدين:
ففي سنة 1900، كانت مدارس البلاد التونسية مقسّمة
إلى دائرتيْ[8]
تفقد للغة الفرنسيّة:
-
دائرة
الشّمال ومقرّها مدينة تونس، وتضمّ مدارسَ مراقبة تونس وبنزرت وباجة وسوق الأربعاء والكاف
وجزءا من مدارس مراقبة قرنبالية.
-
دائرة
الجنوب و مقرّها مدينة سوسة، و تشمل مدارسَ مراقبة سوسة و القيروان و صفاقس و قابس وتالة
وقفصة و الجزء المتبقي من مراقبة قرنبالية.
وفي سنة 1950، كانت البلاد مقسّمة إلى خمس دوائر تفقد[9]
للغة العربيّة، وهي دائرة تونس1 ودائرة تونس 2 ودائرة سوسة ودائرة صفاقس ودائرة
قابس، يشرف عليها متفقدون تونسيّون، نذكر منهم الصادق وعبد الرّحمان السّبعي، ومحمّد
بكير، وأحمد صفر، ومحمّد العروي. ( ملحق 1)
ثالثا: التفقّد البيداغوجيّ منذ الاستقلال
حافظت حكومة الاستقلال على منظومة التفقد،
وسعت إلى دعمها وتنظيمها:
§
ففي قانون
التعليم لسنة 1958، برزت وظيفة التفقّد، إلى جانب وظائف التعليم والإدارة والمراقبة،
وحدّد الفصلُ 34 منه خمسة أصناف للمتفقدين: (متفقدي التعليم الثانويّ / متفقدي
التعليم الفنيّ أي التقنيّ/ متفقدي التعليم الإعداديّ/ متفقدي التعليم الابتدائيّ/
متفقدي التربية البدنيّة والرياضيّة).
§
وضبط
الفصل 17 من قانون النظام التربويّ لسنة 1991 المشمولات العامّة لهيئة التفقد
البيداغوجيّ في مجالات البرامج والحياة المهنيّة للمدرّسين،
§
أمّا
القانون التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ لسنة 2002 فقد جعلهم ضمن الباب
الخامس المخصّص للإطار التربويّ والإداريّ والأسرة التربويّة، وعَدّهُم مكوّنا من
مكوّنات هذا الإطار. (الفصل 45)
ومع
تطوّر منظومة التفقد، خُصّ إطارُ التفقد بقانون أساسيّ، وهي نصوصَ تأسيسيّة للتفقد
البيداغوجيّ، في البلاد التونسيّة. ويُمكن، من خلال قراءة مختلف هذه القوانين
الأساسيّة المنظمة لهيئة2 التفقد، أن نميّز بين ثلاث مراحل، وهي: ( الملحق )
§
من 1959 إلى
1967: مرحلة إدماج هيئة التفقد في نصّ جامع لكلّ
الموظفين (مديرون، مدرّسون، متفقدون) العاملين حسب مراحل التعليم آنذاك (ابتدائيّة
– إعداديّة -ثانويّة)،
§
من 1967
إلى 1973، بدأ المشرّعُ يفصل أسلاكَ المتفقدين عن
بقية الموظفين العاملين في قطاع التربية والتعليم. وقد انطلق هذا الفصلُ بمتفقدي
التعليميْن الإعداديّ والثانويّ، فصدر سنة 1967 قانونٌ أساسيّ خاصّ بمتفقدي مرحلتي
الثانويّ والإعداديّ ومُرشديهما التربويّين، في حين بقي متفقدو التعليم الابتدائيّ
على نفس الوضع السّابق.
§
من [10]1973 مرحلة
تجميع هيئة التفقد العاملة في مختلف المراحل (الابتدائيّة -الثانويّة) في نصّ واحد،
مثل نصّ 1973 الذي عُوّض بعد ذلك بنصّ2001.
خاتمة
سعت حكومات الاستقلال إلى تنظيم منظومة
التفقد من خلال إصدار النصوص القانونيّة اللازمة لذلك وسَنتتبّع، في الجزء القادم، القوانينَ الأساسيّة لسلك المتفقدين، كما تمّ تنقيحها وإتمامُها، لنتبيّن التحوّلات
والتغيّرات في مجالات وظائف المتفقدين ورتبهم وأساليب انتدابهم وترقيتهم، وتنظيم
عملهم ورعاية شؤونهم.
ملحق 1 : دوائر التفقد سنة 1950
منشور 30 جانفي 1950 المتعلق بدوائر متفقدي التعليم العربيّ
الصادق السبعي: تونس واحد، وتضمّ دوائر التعليم الابتدائيّ لمدارس الترشيح بتونس واحد و تونس 2، و تضمّ تونس الشّماليّة و تونس الشّرقيّة ، مع الاقامة بمدينة تونس ، 5 نهج زرقون.
محمّد بكير: تونس 2، وتضمّ دوائر التعليم الابتدائيّ لتونس الغربيّة وبنزرت والكاف مع الإقامة بمدينة تونس، 10 نهج موسكو.
عبد الرّحمان السّبعي: سوسة 1 وسوسة 2 مع الإقامة بسوسة.
أحمد صفر : صفاقس و تضمّ دوائر التعليم الابتدائيّ بصفاقس مع الإقامة بصفاقس.
محمد العروي : قابس و تضمّ دوائر التعليم الابتدائيّ بقابس مع الإقامة بقابس.
مدير التعليم العموميّ
لوسيان باي
ملحق 2 : القوانينُ الأساسيّة الخاصّة بالمتفقّدين
السّنة
|
المرجع القانونيّ للنظام الأساسيّ
الخاصّ
|
الرائد الرسميّ
|
1959
|
الأمر عدد 120 لسنة 1959 المؤرخ في 27 أفريل 1959
المتعلق بضبط النظام الأساسيّ للموظفين من متفقدين وإداريّين ومدرّسين
بمدارس التعليم الإعداديّ
|
عدد 24 بتاريخ 28 أفريل 1959
|
1960
|
الأمر عدد 221 لسنة 1960 المؤرخ في 27 جوان 1960 المتعلق بالنظام الخاص بإطارات
التعليم الثانويّ
|
عدد 31 بتاريخ 28 جوان 1960
|
1961
|
الأمر عدد 15 لسنة 1961 المؤرخ في 3 جانفي 1961 المتعلق بالقانون
الأساسيّ الخاصّ بأعضاء هيئة التعليم الابتدائيّ
|
عدد 1 بتاريخ 3 جانفي 1961
|
1967
|
الأمر عدد 362 لسنة 1967 المؤرخ في 18 أكتوبر 1967
المتعلق بضبط القانون الأساسيّ الخاصّ بالمتفقدين والمرشدين التربويّين
للتعليم الثانويّ والإعداديّ
|
عدد 45 بتاريخ 27 أكتوبر 1967
|
1973
|
الأمر عدد 110 لسنة 1973 المؤرخ في 17 مارس 1973 المتعلق بضبط القانون
الأساسيّ الخاصّ بأعضاء هيئة التفقد البيداغوجيّ بوزارة التربية القوميّة
|
عدد 11بتاريخ 23 مارس 1973
|
2001
|
الأمر عدد 2348 لسنة 2001 المؤرخ في 2 أكتوبر 2001 المتعلق بضبط النظام
الأساسيّ الخاصّ بسلك التفقد البيداغوجيّ بوزارة التربية
|
عدد 81 بتاريخ 9 أكتوبر 2001
|
[1] الهادي بوحوش ، المتفقد عام للتربية أشرف على
التفقدية العامة للتربية ، خلفا للأستاذ عبد المجيد الغربي المتفقد العام من سنة 2001
إلى سنة 2007.
[6] المرجع نفسه ص 150 علما أنّ مهمّة محمود
بن محمود في مجال التفقّد قد انتهت سنة 1325هـ بتوليه خطة قاض حنفيّ، وأنّ الشيخ
عمر بن الشيخ قد استقال من خطته بسبب المرض والعجز.
[8] Note du 31 octobre 1900,
relative à l’organisation de l’inspection des écoles primaires ;B.O.E.P.N°
27 ;15 année ;janvier. P ; 330-332.
[9] circulaire du
30 janvier 1950 Les circonscriptions des
inspecteurs de l’enseignement arabe - Journal officiel de l’instruction
publique
شكرا على هذه المعلومات
RépondreSupprimerCe commentaire a été supprimé par un administrateur du blog.
RépondreSupprimerمقال قيّم. شكرا جزيلا
RépondreSupprimer