تقترح المدونة البيداغوجية هذا الأسبوع على متابعيها مقالة بقلم الصديق حسين الحامدي متفقد عام خبير للتربية قدم في القسم الأول منها تشخيصا لوضع المدرسة التونسية قبل أن يقترح حلا للمشاكل التي تعيق قيامها بالدور المراقب منها في ضل التحولات العالمية والمحلية ومن أبرز الحلول التي اقترحها الأستاذ الحامدي دعوته لإرساء المدرسة المتعددة مكان المدرسة الواحدة التي لم تعد حسب وجهة نظره قادرة على رفع التحديات. وقد سيق أن نشر المقال بمدونة :[1] Tunisie XXI.OVER-BLOG.COMبتاريخ 18 أفريل 2018
ونظرا لقيمة المقال وطرافة الطرح المقدم
طلبنا من السيد حسين الحامدي إعادة نشره بالمدونة وقبل ذلك برحابة صدر
فله منا كل التقدير والشكر على ذلك ونتمنى أن يتجدد التعاون معه . المدونة البيداغوجية |
تجديد
المنظومة التربوية التونسية من المدرسة الواحدة إلى المدرسة المتعد
مدخل
1-
لئن كان الشأن التربوي في البلاد التونسية عريقا عراقة هذه البلاد، ضاربا بجذوره
في تاريخ خصب من الإسهام المتواصل في الحضارة الإنسانية، فإنه لم يرتق إلى ما هو
عليه اليوم من ثراء وتعقيد في مدخلاته ومخرجاته إلا منذ 1956. وفعلا، فقد شهدت
البلاد بروز أول منظومة تربوية عصرية ومتكاملة سنة 1958. و تبوأت المدرسة منزلة
مركزية في مسار البلاد نحو الحداثة والانتماء إلى العصر حتى أضحى الشأن التربوي
ظاهرة حضارية لافتة وملمحا جوهريا لتونس المعاصرة. وشهدت هذه المنظومة التربوية
منذ ذلك التاريخ إصلاحين جوهريين أولهما سنة 1991 وثانيهما سنة 2002 (1). وما من
شك في أن هذين الإصلاحين حصلا استجابة لحاجات فرضتها تطورات شاملة داخلية وخارجية.
وإذا كان الفارق الزمني بين القانون التأسيسي للمنظومة التربوية التونسية وبين أول
إصلاح جوهري تشهده هو ثلاثة وثلاثون سنة، فإن الفارق الزمني بين الإصلاحين الثاني
والثالث بلغ عقدا من الزمن، وفي هذا التسارع اللافت لنسق الإصلاحات التربوية دلالة
قوية لا تخفى على كل مهتم بالشأن التربوي الوطني.
2- ولئن كان إصلاح المنظومة
التربوية الوطنية استحقاقا يفرضه التطور الذاتي لهذه المنظومة وتفرضه المتغيرات
الوطنية والمتغيرات الدولية المتسارعة في أسس القوة في العالم المعاصر وفي البنى
الاقتصادية وفي التطور اللافت للمعرفة وتنوع مصادرها وفي المتغيرات الاجتماعية
علاوة على ما يشهده قطاع التربية والتعليم عبر العالم من تحولات جوهرية، فإن ثورة
الحرية والكرامة فتحت أفقا رحبا أمام المنظومة التربوية والعملية التعليمية
التعلمية برمتها. فشرط الحرية والكرامة بما هو في بعض وجوهه شراكة تامة في الشأن
الوطني واستفادة عادلة من ثمار التنمية، هو كذلك شراكة حقيقية في النهوض بالشأن
التربوي تصورا وتنفيذا سواء تعلق الأمر بالمرجعيات أو بالغائيات أو بالوسائل أو
بالطرائق والمضامين.
3- لقد سارعت وزارة التربية في
سعي منها إلى مواكبة هذا التحول الجوهري في البلاد التونسية إلى وضع استراتيجية
لإصلاح المنظومة التربوية مثلت الندوة الوطنية حول " منهجية الإصلاح
التربوي" المنعقدة أيام 29 و30 و31 مارس 2012 قاعدتها الأساسية بما تضمنته من
تشخيص وما تمخض عنها من توصيات ومقترحات. وعلى الرغم مما حف بهذا الجهد من نوايا
طيبة، فقد بدا لنا في إبانه عملا مجتزءا، يذهب إلى تفاصيل الأمور ويغفل الإطار
العام ولا يجيب على جملة من الأسئلة الجوهرية:
-
هل نريد إصلاح منظومة تربوية قائمة أم نريد إرساء منظومة جديدة تمام الجدة؟
-
ما هي مرجعيات هذا المشروع؟
-
أي رسالة للمدرسية التونسية في القرن الواحد والعشرين وفي ظل الثورة؟
-
أي نموذج للمدرسة التونسية يريد التونسيون؟ هل هي المدرسة الواحدة أم المدرسة
المتعددة؟
إن الإجابة على
هذه الأسئلة تبقى ضرورة ملحة تسبق كل جهد يعنى بالمسائل التفصيلية والفنية
التي هي من صميم تخصص الخبراء، وهي تتطلب توافقا بين التونسيين
جميعا باعتبار الشأن التربوي شأنا يعني التونسيين جميعا في حاضرهم وفي مستقبلهم.
4- تقترح هذه الورقة النظر في
دواعي تجديد المنظومة التربوية التونسية، كما تقترح قراءة جديدة في القيم التي
تضطلع بها المدرسة التونسية في ظل المتغيرات العالمية والوطنية وتنتهي بكشف في
الاستحقاقات المترتبة عن هذا الاختيار وهي استحقاقات لا بد أن ينهض لها التونسيون
جميعا بذلا وتضحية وينهض لها المربون معرفة وطرائق، من شأنها أن تضع منظومتنا
وبلادنا في قلب العصر قيما ومعارف وطرائق ومخرجات.
وهي تنتظم في ثلاثة محاور كبرى: ففي قسمها الأول
تتعرّض إلى موجبات تجديد المنظومة التربوية التونسية، أما في قسمها الثاني فإنها
تنظر في القيم التي تنهض بها هذه المدرسة وما يترتب عنها من مواصفات، وتنتهي في
قسمها الثالث والأخير إلى كشف في الاستحقاقات المترتبة عن هذه المقاربة سواء تعلق
الأمر بالبنى التحتية التربوية أو بالموارد البشرية القائمة على الشأن التربوي أو
بالتنظيمات التربوية تصورا وتنفيذا.
I- في موجبات تجديد المنظومة التربوية التونسية
يرتبط السعي إلى تجديد المنظومة التربوية
التونسية بالمتغيرات المتسارعة على المستوى العالمي في أوجهها القيمية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والتربوية، كمايرتبط ثانية بالمتغيرات على
المستوى الوطني وأهمها ما كشفت عنه مسار ثورة الحرية والكرامة من طموح مشروع إلى
الشراكة العادلة في الوطن وحق جميع التونسيين دون استثناء في السلطة وفي الثروة
وفي التنمية، ويرتبط أخيرا بما يفرضه واقع المدرسة التونسية من معالجة لم تعد
تحتمل التأجيل أو التأخير.
1- التغيرات المتسارعة في
المستوى العالمي
* أسس
جديدة للقوة والنفوذ
لقد ارتبطت قوة الأمم والشعوب، طيلة القرون
الماضية وما تزال إلى حدّ ما حتى اليوم، بالثقل الديمغرافي وبالامتداد المجالي وما
يوفره من ثروات سطحية وباطنية وبالقدرة على تثمين هذه الثروات استخراجا وتحويلا وتبادلا،
كما ارتبطت هذه القوة بالقدرات العسكرية الضامنة لحماية المصالح الحيوية لهذه
الأمم والشعوب. غير أن العالم المعاصر بدأ يشهد وبالتدريج تغيرا ملحوظا في أسس هذه
القوة وما يترتب عنها من نفوذ عالمي. لقد أصبح إنتاج المعرفة وتملكها وإنتاج
التكنولوجيات والتحكم فيها والقدرة على تطويرها وتأهيل الموارد البشرية وحسن
توظيفها وتطويع هذه التجديدات العلمية والتقنية للواقع المحلي والقدرة على اقتناص
ما يتيحه الواقع الدولي من فرص للنمو والتنمية من الأسس الرئيسة للقوة والنفوذ في
العالم (2). ولئن كانت القطيعة بين الأسس التقليدية والأسس الجديدة للقوة في
العالم المعاصر غير تامة، فإنّ عالما جديدا يبرز من رحم عالم قديم، تتغير فيه
المواقع وتتغير فيه القدرة على التأثير وعلى صياغة القرار الدولي ووحدها الشعوب
التي لا تزال تنظر إلى القوة والنفوذ وفق المقاييس التقليدية هي التي لا تزال على
هامش حركة التاريخ إبداعا علميا وتكنولوجيا ورفاها واستقلالية في القرار الوطني.
* مكانة
متنامية لاقتصاد المعرفة ضمن اقتصاد يتجه نحو الثولثة
يمثل الاتجاه نحو الثولثة السمة الأبرز في تطور
بنية الاقتصاد العالمي. ويتخذ هذا التوجه مظهرين رئيسيين: تنامي حصة القطاع الخدمي
بكل فروعه في التشغيل وتنامي حصته في تركيبة الناتج الداخلي الخام. وفي كلا
الحالتين تتجاوز هذه الحصة الثلثين بل وتصل إلى 75 ℅ في
بلدان الشمال وهو ما يؤشر إلى بروز ملامح اقتصاد جديد تحتل فيه الخدمات – بما
تفترضه من سيطرة عالية على المعارف والمعلوماتية والتكنولوجيات الحديثة للإعلام
والاتصال- منزلة رئيسية. ولهذا السبب بالذات يتبوأ اقتصاد المعرفة مكانة متنامية ضمن
بنية الاقتصاد العالمي. واقتصاد المعرفة هو في الآن نفسه إنتاج المعرفة
ومعالجتها وتطوير تطبيقاتها والتحكم في تبادلها عبر العالم وهو ما يدرّ عائدات
مالية هائلة ويمنح في الوقت نفسه نفوذا عالميا متأكدا لا يرتبط بالضرورة بالمقومات
التقليدية للقوة مثل الامتداد المجالي والثروات الطبيعية والثقل الديمغرافي
والقدرات العسكرية (3).
ولئن كان الصراع بين القوى الاقتصادية الكبرى في
العالم ما يزال محتدما حول موارد الطاقة التقليدية والموارد المنجمية والأسواق،
فإن أحد أوجهه الخفية هو الصراع حول " الأدمغة". وإذا كانت الولايات
المتحدة الأمريكية تحتكر جائزة نوبل في كل فروع المعرفة منذ أواسط القرن العشرين
وتكسب سبقا جليا في الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية، فإن ذلك يعود
بدرجة رئيسية إلى استقطابها للأدمغة من كل أرجاء العالم بدءا بأوروبا وانتهاء
بآسيا (الاتحاد الهندي والصين الشعبية وكوريا الجنوبية) وإفريقيا وأمريكا
اللاتينية.
لقد أفضت هذه التطورات إلى بروز خارطة جديدة
للمهن، يرتبط فيها الحظ في الشغل بحد أدنى من تملك معارف ومهارات مخصوصة أكثرها في
علاقة وثيقة بالثورة المعلوماتية والتكنولوجية. وفي ضوء هذه التطورات، بدأت تتشكل
ملامح بنية اجتماعية جديدة، تتوالد من رحم المجتمع الطبقي التقليدي رغم كون العمل
ورأس المال ظلا العمود الفقري لهذا المجتمع.
* تغيرات
عميقة في البنية الاجتماعية على المستوى الكوني
ترتبط هذه التغيرات في بنية المجتمع بثلاثة عوامل
أساسية:
- تنامي ظاهرة العولمة في أوجهها الاقتصادية
والثقافية. ويسجل العالم المعاصر تسارعا غير مسبوق في نسق تنامي أدفاق السلع
وأدفاق المال وأدفاق المعلومات فضلا عن الأدفاق البشرية.
-
الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وآثارها الجلية على حياة الناس سلبا وإيجابا في
كلّ أنحاء العالم.
- انتشار ثقافة المبادرة الفردية كنتيجة للتمدد
الملحوظ لنمط الانتاج الرأسمالي والفكر الليبرالي عامة خاصة بعد انهيار الاتحاد
السوفياتي والكتلة الاشتراكية في نهاية تسعينات القرن العشرين.
- التركّز المتزايد لرأس المال عبر عمليات
الاندماج والشراء وعبر تدويل الانتاج والمبادلات وعبر التحالفات المالية وهو تركز
أفضى إلى احتكار الثروة العالمية من قبل أقلية مقابل تنامي عدد المفقرين وتوسع
المجالات الطرفية المهمّشة.
- تصاعد سطوة الشركات عبر القطرية والمركبات
الصناعية العسكرية والطغم المالية وتراجع الجغرافيا وتقلّص سلطة الدولة الوطنية
عامة في ظل العولمة.
لقد أفضت هذه العوامل إلى تشكل شرائح اجتماعية
جديدة خاصة في وسط الهرم الطبقي وفي أسفله يمثلها مئات الآلاف بل والملايين ممن
يشكلون الطبقة الوسطى ومن " المهمشين" الذين لفظتهم المنظومات
الاقتصادية المتخارجة والتابعة عبر العالم، يتسمون بتباين مؤهلاتهم العلمية
ولكن يوحد بينهم وضعهم الهامشي وظروف عيشهم التي تزداد صعوبة يوما بعد يوم.
* سيادة
قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية
رافقت هذه التحولات الجوهرية والمتسارعة في
الميدانين الاقتصادي والاجتماعي تحولات ثقافية شملت القيم في خط مواز لتنامي
استغلال قوة العمل والتنامي الملحوظ لعدد المهمشين والعودة القوية للقضايا الهووية
باعتبارها الدّرع الواقي من مخاطر العولمة المتوحشة في وجهها الثقافي الذي يستهدف
القضاء على الخصوصيات الثقافية. وأبرز هذه القيم هي ما يتعلق بحقوق الانسان بمختلف
أنواعها بدءا بالحقوق الاقتصادية والثقافية وانتهاء بالحقوق السياسية. وأصبحت
الديمقراطية والتعددية السياسية والحق في بيئة سليمة مطلبا جوهريا لشرائح واسعة من
المجتمعات في كل أرجاء العالم، تشهد على ذلك الاحتجاجات الاجتماعية المتدحرجة عبر
البلدان والقارات طيلة سنة 2011 وحتى منذ ما قبل هذا التاريخ إذ اتخذت شكل
احتجاجات شعبية نشّطتها الحركات المناهضة للعولمة .
* عودة التاريخ:
مسألة الهوية في مواجهة العولمة المتوحشة
شهد العالم المعاصر ولا يزال تناميا مطردا
للاحتجاجات ذات الطابع الهووي. وعلى عكس ما ذهب إليه البعض من القول " بنهاية
التاريخ" كنتيجة للغلبة الظاهرية للمنوال الليبرالي
منذ نهاية تسعينات القرن الماضي (4)، فإن التاريخ يعود بقوة وعنف في أرجاء مختلفة
من العالم تأكيدا لهويات مهددة ورفضا للهيمنة التي تفضي إلى إلغاء الآخر.
إن التربية، بحكم الدور الذي تضطلع به في
نشر المعرفة وترقية القدرات الذهنية والحسية الحركية والوجدانية وفي تغذية الهوية
الوطنية وفي ترسيخها لدى جمهور المتعلمين، واحد من أبرز عناوين المرحلة التاريخية
الحالية يحمل عليها رهان على جانب من الصعوبة: فكيف السبيل إلى مواكبة التجدد
المتسارع للمعارف والتقنيات باعتماد طرائق تيسر تملكها وتوظيفها من قبل المتعلمين؟
وكيف السبيل إلى المحافظة على الهوية الوطنية وتغذيتها في مواجهة النموذج
الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي النمطي الذي تحمله رياح العولمة العاتية دون السقوط
في الانغلاق على الذات؟ وبعبارة أخرى كيف للتربية أن تجمع بين التربية على الهوية
المخصوصة دون القطع مع القيم الإنسانية الكونية والمشتركة؟
انتهي الجزء الأول - يتبع
حسين الحامدي متفقد عام خبير للتربية
تونس - 2020
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire