تمثل العقوبات البدنيّة
المسلّطة على الأطفال بالمدارس وجْها من وجوه العنف عموما بالوسط المدرسيّ، علما
أنّ الطفل يتعرّض للعنف منذ أن وجدت المدرسة بمختلف أشكالها، وفي مختلف الأقطار والأزمنة.
ولئن اتّخذ العنف أشكالا متعدّدة ومتنوّعة، فإنّها تشترك جميعُها في الأثر السّلبيّ
الذي تخلّفه في نفسية المتعلم وسلوكه.
Punitions et châtiments: vraie-fausse méthode pour enseigner
أردنا أن نركّز في هذه الورقة على العقوبات البدنيّة التي لا تزال متفشّية في العديد من الأوساط المدرسيّة في العالم، سواء أكان المتقدّم منه أم غيره إذْ تقرّ به أنظمة تربويّة عديدة في حين تمنعه أنظمة عديدة أخرى. وكانت البلاد التونسيّة قد منعت هذا الصّنف من العقوبات منذ القرن التاسع عشر بالمدارس العموميّة.
فقد شغلت هذه المسألة
أجيال المربّين والسّاهرين على الشّأن التربويّ في بلادنا، وخاصّة في جانبها
التشريعيّ، لذلك أردنا أن نقدّم ثلاث وثائق اهتمّت بموضوع العقاب البدنيّ في
الوسط المدرسيّ، وهي تتّفق في نفس الموقف المانع منعا مطلقا والمندّد بهذه
الممارسات التي عرفت انحسارا واضحا، دون أن تغيب بصفة كليّة.
الوثيقة
الأولى: مقتطفات من النظام المدرسيّ لسنة [1]1886
إنَّ مدير التّعليم العموميّ بالبلاد التّونسيّة،
إذ يَعتبرُ أنّه من الضّروريّ سنّ نظام مدرسيّ يُطبّقُ
بجميع المدارس العموميّة بالإيّالة،
قرّر ما يأتي:
الفصْل 19-العقوبات
الوحيدة التي يستطيع المعلّم أنْ يستعملها هي:
- إسنادُ علامات سالبة
- التوبيخُ على انفراد
- التوبيخ أمام الحضور
- المنعُ الجزئيّ من
الرّاحة
- إبقاء التلميذ
بالقسم، بعد انتهاء الدّروس، تحْتَ مراقبة المعلّم
- الرّفتُ المؤقّت.
ولا يمكنُ أن
تتجاوز هذه العقوبة الأخيرة اليوميْن. وعلى المعلّم الذي يتّخذها أنْ يُخْطر
بذلك أولياءَ الطّفل ورئيسَ اللجنة المدرسيّة ومتفقدَ التّعليم الابتدائيّ
بالدّائرة.
أمَّا رفتُ الطّفل لمدّة أطول، فلا يُمْكن أن يَصدُر
إلاّ عن مدير التّعليم.
الفصْل 20-يُحجّر على المعلّم تحجيرا باتّا أن يُسلّط
على الطّفل أيّ عقاب بدنيّ.
حرّر بتونس في 20 ديسمبر 1886
مدير التّعليم العموميّ
صدر بالنّشرة الرّسميّة للتعليم العموميّ، عدد 1،
السّنة الأولى، غرّة جانفي .1887.
|
في أواخر سنة 1886 (أي
خمس سنوات بعد انتصاب نظام الحماية على البلاد التونسيّة)، أصدرت إدارةُ التعليم
العموميّ بالإيّالة التّونسيّة التي كان يشرف عليها لويس ماشويل، أوّلَ نظام
داخليّ مدرسيّ. وقد خَصّص ماشويل لمسألة النظام التأديبيّ فصليْن (الفصلان 19 و20)،
وحرص هذا النظامُ على تحديد العقوبات التي بإمكان المعلّم أن يسلّطها على
التّلاميذ عند ارتكابهم أخطاء، أو عند قيامهم بأعمال تستحقّ العقاب، وما يهمّنا في
هذا الباب هو قرار منع العقاب الجسديّ منعا باتّا.
ويبدو أنّ ممارسات بعض
المعلّمين تجاوزت ما يُبيحُه النّظام التأديبيّ، ممّا حدا بالسّلطة التعليميّة إلى
أن تذكّر المعلّمين، في مناسبات متكرّرة، منها المنشورُ الذي صدر سنة 1950 الذي
نورده في الوثيقة الثانية.
الوثيقة الثانية: منشور مؤرّخ في 16 مارس 1950 يتعلّق بالعقوبات الجسديّة
المسلّطة على التّلاميذ[3]
أذكّرُكُمْ أنّ الفصل 17 من القانون المؤرّخ في 15
سبتمبر 1888 والفصلَ 22 من النّظام المدرسيّ يَمنعان منعا باتّا أن يُسلّط على
التّلامذة أيّ عقاب بدنيّ.
لذا، فإنّي أدعوكمْ إلى السّهر على احترام التراتيب
الجاري بها العمل في هذا المجال. ذلك أنّ العقوبات البدنيّة لم تكنْ أبدا، في
يوم من الأيّام، أسلوبا تربويّا، لأنّها، كما يقول لوكْ، تجعل النّفوسَ خَسيسة.
إنّها لا تليق بمربّين جديرين بهذا اللقب.
هذا، وأعلمكمْ أنّي مُقرٌّ العزمَ على أن أعاقب عقابا
شديدا كلَّ مخالف للتّرتيب، مع الاحتفاظ بحقّ النّظر في التتبّعات القضائيّة
التي قد تنجرّ عن شكاوَى تُرفع ضدّ معلّمين سلّطوا عقوبات قاسية على الأطفال.
عن مدير التعليم العموميّ، وبإذن منه،
المتفقّد رئيس مصلحة التعليم الابتدائيّ
أ.
سنيوري A. SIGNORET
با
المصدر: النشرة الرّسميّة للتعليم العموميّ، عدد 1،
جانفي، فيفري مارس 1950.
|
عبّر المنشور الذي أصدره
رئيسُ مصلحة التعليم الابتدائيّ بتونس سنة 1950 عن انزعاج إدارة التعليم العموميّ من تواصل اعتماد ممارسات وسلوكات وصفها
المنشور " بأنّها لا تليق بمربّين جديرين بهذا اللقب". وذكّر المنشورُ
بالتراتيب التي منعت العقوبات البدنيّة، وخاصّة تسليط عقوبات بدنيّة على المتعلّمين،
مشيرا إلى عاقبة كلّ مخالف للتّراتيب المدرسيّة، الذي يُعرّض نفسَه لعقوبات صارمة
قد تصل حدَّ التتبّع القضائيّ.
الوثيقة الثالثة: مقتطفات من قرار كاتب الدولة للتربية القوميّة المؤرّخ في 25 جانفي 1964
المتعلّق بالنظام المدرسيّ لمعاهد التعليم الابتدائيّ.
الفصل 36: " يحجّر على المعلّمين تسليط
عقوبات بدنيّة على التلامذة. وكلّ منْ يخالف هذا يتعرّض للعقوبات التأديبيّة
المنصوص عليها بالقوانين الجاري بها العمل. "
الفصل 37: «لا يمكن أن
يسلّط على التلميذ من العقوبات إلاّ :
الإبقاء بالقسم بعد انتهاء الدرس
التنبيه
التوبيخ
الرّفت المؤقت
الرّفت الباتّ
بالنّسبة إلى العـقـوبة
الدنيا: "إبقاء التلميذ بالقسم بعد انتهاء
الدروس يكون تحت مراقبة المعلّم. ويخصّص
التلميذ مدّته لتلافي دروس لم يتقن حفظها أو واجبات لم يحسن تحريرها".
بالنسبة إلى عـقوبتيْ
التنبيه والتوبيخ: " يسلّط التنبيه والتوبيخ
من قبل المدير باقتراح من المعلّم. ويوجّه في[H1] كلّ منهما إعلام للأولياء التلميذ".
بالنسبة إلى الطرد
المؤقت: " ينبغي أنْ لا تتجاوز
مدة الرّفت المؤقت ثلاثة أيام عند ارتكاب أوّل مخالفة فادحة وخمسة أيام، إنْ تكرّر
ذلك. وفي كلتا الحالتين يقرّر الرفتَ مديرُ المدرسة بعد أخذ رأي مجلس المعلمين
وجوبا. وعلى المدير أن يعلم بقراره أولياء التلميذ ومتفقد التعليم الابتدائيّ مع
بيان الأسباب." لا يمكن أن يقرّر
الرّفتُ لمدة أكثر من خمسة أيام إلّا من قبل متفقد التعليم الابتدائيّ باقتراح
من مدير المدرسة، بعد أخذ رأي مجلس المعلّمين."
بالنسبة إلى الطرد
الباتّ: " الرفت الباتّ لا يقرّر
إلا من قبل كاتب الدولة للتربية القوميّة باقتراح من متفقد التعليم
الابتدائيّ بعد أخذ رأي مجلس المعلّمين. "
في حالة اقتراح الرّفت
لأكثر من خمسة أيّام أو اقتراح رفت باتّ، يمكن في انتظار قرار السلطة ذات النظر
إرجاع التلميذ المعنيّ بالاقتراح مؤقّتا إلى أهله، إذا ما استوجبت ذلك ظروف
تكتسي صبغة خاصة مع تأكّد الوجوب والخطورة "
المصدر: الرائد الرّسميّ عدد 5 – سنة 107 الصّادر في 28 جانفي 1964
|
بعد مرور ستّ
سنوات على بداية العمل بإصلاح 1958، صدر عن كاتب الدولة للتربيّة القومية (محمود
المسعدي) قرار[4] يضبط "النظام المدرسيّ لمعاهد التعليم الابتدائيّ." والملاحظ
أنّه استلهم الكثير من النظام المعمول به منذ القرن التاسع عشر. وقد خصّص النظامُ
الجديد فصلا للعقوبة البدنيّة (الفصل 36) ليؤكد المنع ويحذّر المدرّسين من تبعات
عدم الالتزام به.
لكنَّ هذا الجانب
التأديبيّ اختفى في النّصوص التنظيميّة الموالية. ثمّ تدارك الإصْلاحُ التربويّ
لسنة 1991 هذا النقص جزئيّا، بإصدار منشور وزاريّ[5]،
موْضوعُه " نظام التأديب " موجّه
للمعاهد الثانويّة ومدارس الترشيح، ولا يشمل المدارسَ الابتدائية، ذكّر فيه بما كان جاريا من أحكام في مسألة التأديب.
وفي سنة 2002، نصّص
القانونُ التوجيهيّ للتّربية والتّعليم المدرسيّ على أنْ " يضبط نظامُ
التأديب بالمؤسّسات التربويّة بقرار من الوزير المكلف بالتربية". غير أن ذلك
لم يحدث و بقيت المؤسّسة التعليميّة تشتغل، إلى
اليوم، من غير نصّ للتأديب.
ويؤشّر هذا النقصُ- في رأينا - إلى صعوبة معالجة
قضايا التأديب، في أيّامنا هذه، لأنّ ذلك يرتبط ارتبطا وثيقا بالاختيارات
التربويّة - وعمادُها التحاورُ واحترامُ ذات المُتعلّم- وكذلك بالاختيارات
البيداغوجيّة التي تُحفّز إلى التّعبير وإبداء الرأي والتحرّر من العوائق المختلفة. ومهْما يكنْ من أمر،
فينبغي ألاّ تكون الأحكامُ والإجراءاتُ التأديبيّة في تناقض وما تتبنّاه المرجعيّة
التربويّة والبيداغوجيّة، كما ينبغي أن تكون مركّزة على مرافقة المتعلمين، وقائمة
على الحلول التربويّة والمعالجة الوقائيّة.
الهادي بوحوش ومنجي عكروت، متفقّدان عامّان للتربية متقاعدان.
تونس - نوفمبر 2014
حول نفس المسألة
Barnett Laura- La loi et le châtiment corporel : L'article 43 du Code criminel Division du droit et du gouvernement révisé le 20 juin 2008
Conseil de l’Europe , le Commissaire aux droits de l'homme - Les enfants et les châtiments corporels: « Le droit à l’intégrité physique, aussi un droit de l’enfant »
Khadija Skalli - Le châtiment corporel toujours infligé à l'école
Publié dans Aujourd'hui le Maroc le 19 - 05 - 2006
[2] لويس ماشويل Louis Machuel:
مستعرب فرنسيّ الأصل، ولد بالجزائر في 2 جوان 1848.حفظ القرآن وتعلّم العربيّة
ودرّسها. عيّنه بول كامْبون Paul Cambon
المقيمُ العامّ الفرنسيّ بتونس مديرا للتعليم العموميّ، سنة 1883. أحدث المدارسَ
الفرنسيّة العربيّة والمدرسة العلويّة لإعداد المعلّمين ومؤسّسات تعليميّة أخرى.
تقاعد سنة 1908، وتوفّي في أوت ،1922 ودُفن برادس ماكسولا.
[4] قرار كاتب الدولة للتربية القومية المؤرّخ
في 25 جانفي 1964 المتعلق بالنظام المدرسيّ لمعاهد التعليم الابتدائيّ.
[5] المنشور عدد 93
لسنة 1991 المؤرّخ في 1أكتوبر 1991 والصادر عن وزير التربية والعلوم والمتعلق
بنظام التأديب المدرسيّ.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire